في ختام مهرجان الجونة.. تتويج عربي طاغٍ في ظل سؤال عن “العالمية”

قيس قاسم
استحوذت الأفلام العربية على أكثرية جوائز مسابقات الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي، مما أثار جدلا وسجالا بين النقاد والمعنيين بالسينما عن طبيعة المسابقات نفسها، والسؤال عن الهدف من وراء ضم الأفلام العربية والأجنبية في نفس المسابقات إذا خرجت الأجنبية دون تتويج تستحقه، مع أنها في الغالب الأعم تتسم بمستويات عالية، يصعب أحيانا حتى مقارنتها بالمنتج العربي.
وجهة النظر المنحازة للنموذج المعمول به في المهرجان تبرر “الخلط” بأنه مفيد للسينما العربية كونها تتنافس مع الأجنبية القوية مما يحفزها على تطوير نفسها، وأيضا لإظهار ما فيها من عناصر قوة حين تتفوق على العالمية، وأن قيمتها المالية تساعد مخرجيها ومنتيجها على مواصلة إنتاجهم السينمائي.
أما وجهة النظر التي ترى في الأمر إجحافا للأفلام الأجنبية حين تستبعدها لجان التحكيم من نيل ما تستحقه لأسباب في الغالب هي خارج السياق والمعايير التنافسية التقليدية، إذ يُراعى فيها وضع الفيلم العربي وظروف إنتاجه الصعبة، فهذا الوضع يرون فيه انحيازا و”إشفاقا” غير مبرر يمكن تجاوزه بتخصيص مسابقة للفيلم العربي، إلى جانب اختيار بعض الأفلام المهمة منها للتنافس مع بقية الأجنبية في المسابقة الدولية، وهذا حاصل في مهرجانات عربية أخرى.
نتائج المسابقات تظهر ذلك التناقض بوضوح. ففي خانة الأفلام الروائية الطويلة مُنح الفيلم السوداني “ستموت في العشرين” للمخرج أمجد أبو العلا جائزة نجمة الجونة الذهبية، وأُعطيت الجائزة البرونزية للفيلم المغربي “آدم”، وحصل الجزائري “بابيشا” للمخرجة مُنية مدور على جائزة أفضل فيلم عربي، وتوجت الممثلة هند صبري كأحسن ممثلة عن دورها في فيلم “حلم نورا”. ولم تحصل بقية الأفلام الأجنبية -وبعضها يُعد تحفا سينمائية- على ما تستحقه بإستثناء البولندي “القربان” ليان كوماسا الذي فاز بالجائزة الفضية وأفضل ممثل.
من نافل القول إن نتائج المسابقات تقررها لجان التحكيم وليس المهرجان السينمائي نفسه. هذا صحيح، لكن النقاش في حالة “الجونة” يتمحور حول “الموديل” المستخدم في تنظيم مسابقاته لا على نتائجها فحسب، لأنها في النهايـة -أي الجوائز- توزع وفق الهيكلية التي يعتمدها المهرجان السينمائي ولا شأن للحكام فيها.
وثائقيات عربية مهمة
الملاحظات نفسها المتعلقة بالمسابقة الروائية يمكن تسجيلها على الوثائقيات العربية المُتوجة في الدورة الثالثة من الجونة (التي عقد في الفترة من 19 إلى 27 سبتمبر/أيلول 2019) مع ملاحظة أن أغلبيتها امتاز بالجودة ونال جوائز عالمية مهمة كالفيلم السوداني “حديث عن الأشجار” لصهيب قسم الباري الحاصل على جائزتين مهمتين في الدورة الأخيرة لمهرجان برلين السينمائي. ولا يَقل فيلم “143.. طريق الصحراء” للجزائري حسن فرحاني أهمية عنه.
ويلاحظ هنا تتويج الوثائقيات الآسيوية إلى جانب العربية واستبعاد أفلام عالمية مهمة، فقد نال “كابُل.. مدينة في مهبّ الريح” لأبوزار أميني جائزة نجمة الجونة البرونزية، وحصل “إبراهيم إلى أجل غير مُسمى” للمخرجة لينا العبد على جائزة أفضل وثائقي عربي.
وإذا كان الفيلم السوداني الفائز يعد اكتشافا برلينيا، فإن الفيلم الجزائري “143.. طريق الصحراء” الحاصل على الفضية يعد مفاجأة على المستوى الأسلوبي، لترك صانعه حسن فرحاني كاميرته ترصد بهدوء تفاصيل ويوميات “مليكة” المرأة الجزائرية التي اختارت عزلتها في الصحراء مبتعدة عن مشاكل وصعوبات واجهتها في مدينتها ولم ترغب في الكشف عنها، متحصنة في مقصفها البسيط على الطريق الصحراوي حيث يمر بها للاستراحة والبوح بالقليل مما يشعر به سواقو الشاحنات الذين من خلال حواراتهم معها نستجلي أوضاع الجزائر ومشاكلها. فالمدخل إلى العام عبر الخاص المقتصد احتاج صبرا من فرحاني الذي حقق باختياره نموذجا جزائريا فريدا وحده يكفي لإضفاء حيوية وعذوبة على الشاشة.
اللافت في الوثائقيات الحضور الأفغاني الذي شارك بفيلمين مهمين مما يشير إلى تطور ملموس في حقل الإبداع السينمائي لبلد يعاني الكثير من الصعاب والمشاكل، انعكست بوضوح في فيلم “مسافر منتصف الليل” لحسن فضيلي الذي صُورت كل مشاهده بكاميرا هاتف محمول، ومع هذا انطوت على جماليات لافتة.
الملاحظ في مسابقة الوثائقي غياب اللبناني الذي عودنا على حضوره المتميز في المهرجانات العربية والعالمية، إلى جانب شح الوثائقي المصري، مما يثير أسئلة عن ضعف ديناميكية التواتر الإنتاجي الثابت، بحيث يصعب الإشارة إلى بلد عربي بعينه يتميز بقوة وثبات إنتاجه، كما هو حاصل في السينما العالمية.
الأفلام القصيرة.. “سلام” و”أمي” و”امتحان”
الانحياز إلى الروائي القصير اللبناني “أمي” لوسيم جعجع المتوج بالفضية، لا يلغي أهمية فيلم “امتحان” الهولندي من إخراج سونيا حداد المتوج بالذهبية، مع أن الفيلم اللبناني -خلافا لذائقة وقرار اللجنة- أفضل على المستوى الفني والاشتغال السينمائي من فيلم “سلام” الأردني الذي فاز بجازة أفضل فيلم عربي قصير، وحاولت فيه صانعته زين دريعي مناقشة أحوال المرأة في بلدها والمظالم الاجتماعية التي تتعرض لها.
اللافت في الأفلام العربية القصيرة انتباه صنّاعها إلى طبيعة مادتهم السينمائية التي يمكن استثمار خصوصياتها (قلة تكاليف إنتاجها وسرعة إنجازها وكثافة تعبيرها) على تناول أشد القضايا تعقيدا فيها، وهذا متحقق في عديد الأفلام المشاركة في الدورة الثالثة.
اكتشاف المواهب.. إنجاز منتظر
على المستوى الدولي دون تردد يمكن اعتبار ما جمعته الدورة من أفلام عالمية هو الأكثر تميزا للجونة التي تمكنت في زمن وجيز من تجاوز مهرجانات عربية كثيرة. وهو أمر يحيله كُثر إلى وفرة ما عنده من مال، دون ذكر الجهد المبذول من إدارته الفنية التي نجحت منذ الدورة الأولى في جلب أحسن المنتَج السينمائي الدولي.
لكن السؤال يبقى عن “الاكتشافات” الخاصة به، فتوفير المنتَج العالمي لم يعد أمرا صعبا. المهم هو اكتشاف المواهب السينمائية وحتى رعايتها. فالمهرجانات العالمية تفخر بتقديم الجواهر المخفية تحت التراب، وعلى مهرجاناتنا العربية القيام بنفس الفعل.
منصات الدعم في الجونة تُعين السينمائيين، هذا مؤكد، لكن الاكتشافات الخاصة به ما زالها منتظرة، فهي إحدى العلامات التي تشير إلى قوة أي مهرجان من عدمه.
أنثوية طاغية
يُستنتج من الأفلام العربية المتوجة مقاربة أغلبيتها لموضوع المرأة، فالأنثوية حاضرة في المنتج السينمائي العربي خلال السنوات الأخيرة، وفي هذا العام هي أكثر وضوحا. وانعكس ذلك في اختيارات الدورة الثالثة للجونة، ومن بعدُ بفوز عدد منها في مسابقاته.
ففيلم “بابيشا” الجزائري المُتوج بجائزة أفضل روائي عربي طويل يعكس الروح الأنثوية الإيجابية من خلال قصه بطلته التي عاندت العسف والرغبة في تحجيم دورها. وفيلم “آدم” المغربي الحاصل على البرونزية، تتسرب إليه الأنثوية عبر حكاية تجمع امرأتين في حي مغربي فقير. فالتآزر الأنثوي طافح فيه وبعيد عن “الكليشهات” التقليدية، والأداء التمثيلي فيه رائع مما يفسر القبول النقدي الذي ناله بوصفه فيلما لا يخاطب ميولا ولا مراضاة لنظرة غربية بقدر ما يتلمس أحوال المرأة في بلد عربي مركزا على المشتركات “النسائية” النابعة من ضغط مجتمعي كبير لا ينحصر بالمغرب وحده بل يتعداه إلى بقية عالمنا العربي.
ولعل فيلم “نورا تحلم” يكثف الأنثوية أكثر ويجسدها بكل أبعادها عبر الأداء الجيد لهند صبري. وعلى المستوى الوثائقي ربما من بين أكثرها سطوعا رائعة حسن فرحاني “143 طريق الصحراء”، فالمرأة فيه مختلفة، وعفوية حضورها يكفي لكشف أحوال الجزائريات وأيضا الكامن فيهن من قوة لا يمكن لغير السينما الكشف عنها بسطوع.

جوائز الدورة الثالثة
وجاءت جوائز الدورة الثالثة للجونة على النحو التالي:
مسابقة الأفلام الروائية الطويلة:
– جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الروائي الطويل ذهبت للفيلم السوداني “ستموت في العشرين” للمخرج أمجد أبو العلاء.
– جائزة نجمة الجونة الفضية للبولندي “عيد القربان”.
– البرونزية للمغربي “آدم”.
– أفضل فيلم عربي روائي طويل ذهبت إلى “بابيشا” للمخرجة مُنية مدور.
– جائزة أفضل ممثل نالها الممثل بارتوش بيلينا عن دوره في فيلم “عيد القربان”.
– جائزة أفضل ممثلة أعطيت إلى هند صبري عن دورها في فيلم “حلم نورا”.
مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة:
– جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الوثائقي الطويل حصل عليها الفيلم السوداني “حديث عن الأشجار” للمخرج صهيب قسم الباري.
– الفضية للجزائري “143 طريق الصحراء”، والذي تشارك الجزيرة الوثائقية في إنتاجه.
– البرونزية نالها “كابُل.. مدينة في مهبّ الريح”.
– جائزة أفضل فيلم عربي وثائقي طويل ذهبت إلى فيلم “إبراهيم.. إلى أجل غير مسمى” للمخرجة لينا العبد.

مسابقة الأفلام القصيرة:
– جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم القصير منحت لـ”امتحان” للمخرجة سونيا كي حداد.
– الفضية للّبناني “أمي”.
– البرونزية لـ”لحم” من إخراج كاميلا كاتر.
– جائزة أفضل فيلم عربي قصير أعطيت لـ”سلام” للمخرجة زين دريعي.
– تنويه لجنة التحكيم بفيلم “السادس عشر من ديسمبر” للمخرج ألفارو جاجو دياز.

جائزة سينما من أجل الإنسانية:
ويمنحها جمهور المهرجان لفيلم يُعنى بالقضايا الإنسانية وقد ذهبت إلى فيلم “البؤساء” للمخرج لادج لي.
جائزة لجنة تحكيم “نيتباك” لأفضل فيلم آسيوي:
ومنحت لفيلم “كابُل.. مدينة في مهبّ الريح”.
جائزة لجنة تحكيم اتحاد النقاد الدولي “فيبريسي”:
وذهبت إلى فيلم “1982” للّبناني وليد مؤنس.