الدورة الرابعة لمهرجان الجونة السينمائي.. دورة تتحدى ظروف الوباء
قيس قاسم
أطلق مدير مهرجان الجونة السينمائي انتشال التميمي على الدورة الرابعة اسم “دورة التحدي” في إشارة إلى الظروف التي تنعقد فيها (من 23 وحتى 31 أكتوبر/تشرين الأول 2020)، تزامنا مع انتشار وباء كورونا وإصرارهم على إقامتها، ليكون أول مهرجان سينمائي دولي يدشن أعماله في المنطقة العربية بعد إلغاء بقية المهرجانات التي كانت تسبقه عادة من حيث مواعيد إطلاقها، مثل مراكش المغربي ووهران الجزائري وقرطاج التونسي الذي لجأ إلى حلول بديلة من إقامته المعتادة، فخصص أغلب برامجه لعرض الأفلام الفائزة في مسابقات دوراته السابقة، والاحتفاء بها وبصناعها.
في المؤتمر الصحفي أشار مدير مهرجان الجونة إلى أخذهم بعين الاعتبار المخاطر الصحية والعمل على ضمان سلامة المشاركين فيه، مع التركيز في الوقت نفسه على توفير برنامج متكامل لا يقل مستواه عن بقية دوراته الثلاث السابقة.
وعلى هذا الأساس شرع فريق المهرجان في البحث أفضل ما هو معروض في المهرجانات العالمية التي أقامت دوراتها خلال “سنة كورونا”، وجرى التركيز بشكل خاص على “برلين” و”فينيسيا” و”تورنتو” و”سان سيباستيان”، بعد إلغاء مهرجان “كان” الذي كانت أفلامه لها سبق الوصول إلى المنطقة عبر مهرجان الجونة.
منطلق الجونة وجسرها.. أفلام عربية وعالمية مختارة
يتضمن برنامج هذا العام 16 فيلما في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، و10 أفلام في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، و18 فيلما في مسابقة الأفلام القصيرة، وفيلمين ضمن العروض الخاصة، إضافة إلى 18 فيلما في قسم الاختيار الرسمي خارج المسابقة.
ولأن المهرجان ليس عرضا للأفلام فحسب، فقد جرى العمل على تثبيت ما أنجزته منصة الجونة السينمائية (منطلق الجونة وجسر الجونة) خلال السنوات الماضية، بوصفها ذراع الصناعة الخاص بالمهرجان، إذ دعت هذا العام عددا من خبراء الصناعة الإقليميين والدوليين في مجالات السينما المختلفة للمشاركة في فعالياتها المنوعة.
وقد استقبل منطلق الجونة 99 طلب تقديم (65 مشروعا في مرحلة التطوير، 34 فيلما في مرحلة ما بعد الإنتاج) من جميع أنحاء العالم العربي، فحصت هذه الطلبات لجنة سينمائية مُعينة من قبل المهرجان، واختارت 18 مشروعا (12 في مرحلة التطوير و6 في مرحلة ما بعد الإنتاج) للمشاركة في منطلق الجونة السينمائي هذا العام.
وأما جسر الجونة فقد استكمل مهمته التي بدأها كمساحة لمشاركة المعلومات والتأثير من خبراء الصناعة إلى المواهب الإبداعية الصاعدة، حيث سيقدم الجسر عددا من حلقات النقاش وورشات العمل ومحاضرات لخبراء ومحترفي الصناعة من جميع أنحاء العالم.
فلسطين وتونس والمغرب.. أفلام عربية في المسابقات الرسمية
من بين الأفلام العربية المختارة هذا العام لتتسابق على نيل جوائز المسابقات الرسمية للدورة؛ الفيلم الفلسطيني “200 متر” للمخرج أمين نايفة، وقد أدرج ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، وفيه يجسد تجربة عائلة فلسطينية صغيرة فصل بين أفرادها جدار عنصري، حيث جعل رحلة الأب لزيارة ابنه في المستشفى الذي لا يبعد سوى 200 متر عن منزله؛ أوديسا طويلة مثقلة بالمخاطرة، فكان عليه الالتفاف حول الجدار بطرق سرية، وقد زادت حيوية نقلها على الشاشة من ديناميكية نص سينمائي يجسد عذاب الفلسطيني ومعاناته في وطنه، والمهم إظهار إصراره على التواصل والبقاء.
إلى جانب هذا الفيلم ينافس الفيلم التونسي “الرجل الذي باع ظهره” للتونسية كوثر بن هنية، وقد عرض عالميا لأول مرة في الدورة الـ77 من مهرجان البندقية الدولي.
أما المغربي “ميكا” لإسماعيل فروخي فينطلق من حكاية طفل فقير يدخل عالم التنس فينبهر به، ويقرر تغيير حياته على ضوء ما تعرض له من تجارب قاسية في ذلك المكان.
“حكايات سيئة”.. واقع إيطالي مُختلف يكاد أن ينفجر
من الأفلام الملفتة للانتباه عالميا داخل المسابقة الفيلم الإيطالي “حكايات خيالية” للأخوين “داميانو وفابيو دينوتشينزو”، وفيها يوهمان المتفرج على فيلمهما بوجود واقع إيطالي مختلف كليا عن ذلك الذي عرضاه في “الأطفال يبكون” (2018).
العوائل القاطنة في ضواحي روما التي يستمد منها حكاياته لا صلة لها بمافيات ولا بعصابات منظمة كتلك المنتشرة في نابولي وصقلية وفي أحياء روما الفقيرة، فهما غير معنيان بها هذه المرة، أو هكذا يريدان إيهامنا، وأن نصهما منشغل بعرض عينات عادية لها مشاكلها وعقدها الوجودية، حالها حال بقية البشر.
هذا التوصيف المسطح يبطن تعقيدا وجوديا، ويتستر على انفصال مريع حاصل بين مظاهر مادية وبين بنى ومورثات ثقافية ومعرفية هائلتين. في أطراف روما وفي المشهد السينمائي الرائع الجامع لهم تتكشف دواخل أفرادها، وتتجلى هشاشة صلة الآباء بأبنائهم، والرغبة الشديدة غير المعلنة عند الأبناء للتخلص من روابط مُقيّدة لسوية نشأتهم.
يحيط الإيهام بفيلم “حكايات خيالية” التي يرويها راوٍ في الفيلم يدعي عثوره على يوميات مراهقة كتبتها ورسمت فيه مشهدا من حياتها وسط مجموعة من الأطفال، كلهم تقريبا يعانون مثلها من عقد نفسية.
يقرر هؤلاء بصمت وسرية صناعة قنبلة موقوتة تبيد المكان بما فيه، لكن هذا لن يحدث، رغم أن ثمة إيهاما بوجود تفجير مدوٍّ، لكن الواقع أن موتا جماعيا سيحدث بطريقة ملتبسة. ذلك هو واقع إيطالي كما يراه مخرجاه: رفاه وانفصال عن موروث ثقافي عريق، وعنف متغلغل في نفوس الأطفال لا أحد يعرف متى ينفجر، لكن المؤكد أنه سينفجر، متى؟ ذلك هو السؤال العالق في “حكايات خيالية”.
“استمع”.. بيروقراطية جامدة يرزح المهاجر تحت وطأتها
من الأفلام التي عرضت في المهرجان الفيلم الياباني “زوجة جاسوس” للمخرج “كيوشي كوروساوا” والأسترالي “حارس الذهب” لـ”رودريك ماكاي”، والبريطاني البرتغالي المشترك الإنتاج “استمع” الذي يوجه سهام نقده لمؤسسات الشؤون الاجتماعية البريطانية وبيروقراطية مؤسساتها المتعاملة بتجرد إنساني مع المهاجرين، وهذه المرة ليسوا من أبناء العالم الثالث، بل من بلد أوروبي، مما يوسع من مشهد التمييز الحاصل اليوم في التعامل مع المهاجرين القادمين من كل مكان.
وهناك الكثير من الأفلام في قسم “الاختيار الرسمي خارج المسابقة”، لدرجة يصعب التمييز فنيا بينها وبين الأفلام المختارة للتسابق في المسابقات الرسمية، مثل تحفة رسوم التحريك الفرنسية “جوزيب”، والدنماركي “دورة ثانية”.
“نَفَس”.. وثائقي طويل يئن بهموم لبنان
يجمع مهرجان “الجونة” باقة من الأفلام الوثائقية المتميزة في المسابقة الطويلة، وأغلبها عرض في مهرجانات عالمية وحصل بعضها على جوائز مهمة، أو قوبلت برضا نقدي لافت. من بينها فيلم “نَفَس” للبنانية ريمي عيتاني الذي لازمت فيه طويلا شابا من منطقة باب التبانة يعاني من فقر وانغلاق أفق مستقبلي بسبب البطالة والإهمال الذي يحيط بها.
ملازمة طويلة وصبورة تجلي واقعا لبنانيا يتجاوز المنطقة ليصل إلى تخوم مشكلات سياسية وطائفية، تنتج مواقف وأحكاما جاهزة وتلصقها بالأمكنة وسكانها، في محاولة للتمويه على الأسباب الحقيقية التي صنعت هذا الواقع البائس المتوتر قابلا للاشتعال في كل لحظة.
وهناك أيضا من الأفلام العربية فيلم “جزائرهم” للمخرجة لينا سويلم، وعالميا انضم إلى المسابقة الفيلم الكمبودي “مُشِع”، الحاصل على جائزة “جلاشوتي” لأفضل فيلم وثائقي في برليناله 2020.
“مُشِعّ”.. ضوء مُخيف في مسام الجسد مع كل انفجار
يذهب “ريتي بان” في وثائقيه “مُشِع” من العالم الخاص العائلي والمحلي في كمبوديا، إلى العالم الكوني الأعم ليوسع رؤيته للعالم، وذاك عبر معاينة بصرية لمجريات أكثر من قرن خاض خلالها الإنسان حروبا وأثار صراعات حصدت أرواح ملايين وعطلت أجساد بشر لا تحصى أعدادها، حتى أن مساماتها ما زالت حتى اليوم تشع ضياء مخيفا كذاك الذي يتزامن ظهوره مع كل انفجار مريع.
يُزعج “بان” المتفرج على فيلمه بعرضه المتكرر، مرات ومرات خامات فيلمية قديمة (تسجيلات مصورة) على شاشة عرض قسمها إلى ثلاثة أقسام. كلها في آن تعرض مشهدا مصورا أو لقطة قصيرة، ومرات قليلة جدا يجمعها في شاشة واحدة.
ملاحقة هذه المشاهد متعبة وبشاعتها منهكة، “ذلك أقل ما يمكن للناجي من الموت فعله لضحايا أبرياء”. هكذا يخاطب صانع الوثائقي متفرجه ويطالبه بمشاركته رؤيته للعالم المخيف الذي نعيشه أو عاشه قبلنا آخرون، الأجدر بنا مراجعة ما حل بهم ثم نسأل أنفسنا لماذا تحملوا كل ذلك العذاب؟
من بين الأفلام الوثائقية المهمة منجز المخرج الإيطالي “جينافرانكو روسي” الجديد “ليّل”، والجنوب أفريقي “أيام أَكَلة لحوم البشر”.
عالم الفيلم القصير.. التقاطات خاطفة تعكس تنافسا عربيا وعالميا
أفلام عربية كثيرة نسبيا تشارك في مسابقة الأفلام القصيرة، ومن مصر يتنافس على جوائزها “الخد الآخر” لساندرو كنعان و”ستاشر” لسامح علاء، ومن لبنان فيلم فرح شاعر “شكوى”، و”حاجز” الذي تكثف فيه “داليا نمليش” مشهد الاحتجاجات الجماهيرية الأخيرة من خلال قصة شابة شاركت فيها، وعند عودتها إلى منزلها يوقفها حاجز أمني للتحقيق معها.
وهناك فيلمان من تونس هما “البانو” و”تسلل واضح”، ففي الأول تجسد المخرجة أنيسة داود مخاوف أب من مواجهة ذكرياته المؤلمة عندما يجد نفسه مع طفله وحيدا لأول مرة، والثاني يجمع فيه المخرج سامي تليلي عالم كرة القدم والأوضاع التي يعيشها البلد في منجز يقبل المزيد من الإسقاطات والتحليلات من خارج نصه المكثف.
وعالميا توجد الكثير من الأفلام الجيدة التي نال بعضها عددا من الجوائز العالمية، مثل الهولندي “بيلار”، والصربي “حدود الأزرق”، والروسي “موت مسؤول حكومي”.
“جائزة الإنجاز الإبداعي”.. جدل التكريم للمُطبّعين
أثار اختيار الممثل الفرنسي “جيرارد ديبارديو” -المثير للجدل بسبب مواقفه الراديكالية، ومنها قبوله الجنسية الروسية من الرئيس “فلاديمير بوتين” وانتقاداته الحادة للنظام الفرنسي- ضمن الحاصلين على “جائزة الإنجاز الإبداعي” لهذا العام ضجة كبيرة وردود فعل حادة، وقد ضمت الجائزة إضافة إليه الممثل خالد الصاوي، ومهندس المناظر السينمائية أنسي أبو سيف، والممثل الفرنسي من أصول مغربية سعيد تغماوي.
هذا الجدل والضجة اللذان أثيرا من قبل فنانين وكتّاب مصريين -وانضم إليهم لاحقا عرب أيضا- ركزت على انحيازه وزيارته لإسرائيل، إذ يعد تكريمه كنوع من التطبيع، وطالب هؤلاء في أكثر من بيان سحب منحه الجائزة، بينما اكتفى المهرجان بالصمت واعتبار أن تلك المواقف تعبر عن آراء شخصية.
“السينما في حفل موسيقي”.. عزف حي لموسيقى الأفلام الخالدة
يمضي المهرجان بتنظيم حفل “السينما في حفل موسيقي” ضمن مسعاه لترسيخ التقليد الذي بدأه في دورته الثانية، ومن خلاله يسلط الضوء على موسيقى الأفلام الخالدة، ويقدم عروضا منها في الهواء الطلق.
في هذه الدورة ستعزف الفرقة الأوركسترالية بقيادة الموسيقي المصري الشهير أحمد الصعيدي الموسيقى التصويرية لفيلم “الصبي” للممثل “تشارلي تشابلن” مباشرة مع عرضه على الشاشة. عرض الفيلم يأتي ضمن “العرض الخاص” الذي سيضم إلى جانبه فيلم “هوبر/ويلز” للمخرج العالمي “أورسون ويلز”.
ستفتتح الدورة الحالية بالفيلم التونسي “الرجل الذي باع ظهره”، وتتناول فيه مخرجته “كوثر بن هنية” قصة المهاجر السوري “سام” الذي دفعته الظروف لبيع ظهره لرسام مشهور، وذلك مقابل حصوله على فرصة الوصول إلى حبيبته في بلد أوروبي.