الدورة الـ31 من أيام قرطاج السينمائية.. السينما تهزم الوباء

بلال المازني
هل أنا محظوظ بتعييني على رأس هذه الدورة؟!
نظريا لا.
لم يكن تساؤل مدير أيام قرطاج السينمائية المخرج رضا الباهي في حفل الافتتاح اعتباطيا، فالجميع كان يتساءل -كل بطريقته- هل ستنجح هذه الدورة؟ كيف يمكن تنظيمها في ظرف سياسي وصحي صعب؟ ما الجدوى من هذه الدورة التي كانت بمثابة الإعادة لأفلام سابقة؟
كل هذه التساؤلات رافقت الدورة الـ31 من أيام قرطاج السينمائية التي أقيمت من 18 – 23/12/2020. وبينما كانت هذه التساؤلات تقفز إلى أذهان محبي السينما، فقد عكستها صورة الشوارع الباهتة التي لم تكن كعادتها في تونس بسبب حظر التجول، وحتى أن التباعد بين الجمهور في القاعات أضفى عليها نوعا من البرود خلافا للمعتاد حيث كانت القاعات تعج بالمتفرجين.

همزة الوصل بين جيلين.. دورة أنصفت المحروم والمسجون
مما لا شك فيه أن هذه الدورة لم تكن مثل سابقاتها من حيث الأجواء والعروض والمسابقات، ولكنها أيضا كانت بصيص أمل للعديد من الأفلام والمخرجين وهواة الشاشة الكبيرة. فخلال هذه الدورة تمكن “المحرومون” أخيرا من الحصول على مقعد في قاعات السينما أو من مشاهدة بعض العروض من سياراتهم، كما دخلت الأفلام إلى غرف قرابة عشرة آلاف سجين تونسي، وسيغنم بعضهم فرصة إخراج أفلام من المحتمل أن تعرض ضمن الدورة القادمة.
ومن هذا المنطلق ورغم الاستغناء عن المسابقة الرسمية، كانت هناك إنتاجات أجمع النقاد على تألقها، ففي حفل الافتتاح مثلا ولأول مرة لم يُبث فيلم طويل، بل عُرضت ستة أفلام قصيرة مستوحاة من أفلام تونسية عريقة كانت بمثابة همزة الوصل بين جيلين وبين زمنين، فكانت الأفلام على النحو التالي:
1. “الوقت الذي يمر” من إخراج سنية الشامخي.
2. “على عتبات السيدة” من إخراج فوزي الشلي.
3. “ماندا” من إخراج هيفل بن يوسف.
4. “سوداء2” من إخراج الحبيب المستيري.
5. “السابع” من إخراج علاء الدين أبو طالب.
6. “المصباح المظلم” من إخراج طارق الخلادي.
وتدور أحداث فيلم “المصباح المظلم” في جو مشوق وغامض حيث نجد شابا وسيما يمتهن الحلاقة، ويحاول إغواء امرأة حسناء معتقدا في نفسه أنه سيفوز بفريسته كالعادة حتى يصطدم بواقع مفاجئ ليصبح هو الفريسة.
هذا الفيلم هو اقتباس فني وعصري للفيلم التونسي “في بلاد الطرنني” المأخوذ من ثلاثية الكاتب التونسي الكبير علي الدوعاجي “سهرت منه الليالي”. وعنه يقول المخرج طارق الخلادي للوثائقية: تجربة الاقتباس مخيفة، كيف يمكنك أن تكون وفيا للعمل الأصلي وتضيف عليه مساحتك وتكون حرا؟ فيلم “في بلاد الطرنني” أعطاني تلك المساحة. ورغم أن أحداث الحكاية كانت في ثلاثينيات القرن الماضي وأخرجت لأول مرة في السبعينيات، فإنني مع جمالية القصة والفيلم استطعت أن أضيف عليها جمالية الاقتباس.

“دورة نوستالجيا”. رحلة في ذاكرة المهرجان
إن أردنا توصيف هذه الدورة من أيام قرطاج السينمائية فسيكون التوصيف الأبلغ هو “دورة نوستالجيا” والعودة إلى الماضي وتسليط الضوء على أفلام عربية وأفريقية طبعت ذاكرة المتفرج، وربما هي دعوة لقراءة ثانية أو مراجعة لتاريخ أكثر من نصف قرن من السينما.
وقد خصص المهرجان فقرة كاملة هي فقرة نوستالجيا لأفلام عرضت سابقا في المهرجان لتحرك فينا الكثير من الحنين، فقد جعلت من كل فرد فينا عاشقا حقيقيا للسينما على حد تعبير إدارة المهرجان، وقد عُرضت أفلام على غرار فيلم “علي زاوا” (2000) لنبيل عيوش، وفيلم “الريح” (1989) للمخرج المالي سليمان سيسي، وفيلم “صفايح ذهب” (1988) للنوري بوزيد، وفيلم “هم الكلاب” للمخرج المغربي هشام العسري.
وفي سياق النوستالجيا نفسه واصلت هذه الدورة عرض أفلام حازت على التانيت في دورات سابقة وارتأت الهيئة المديرة إعادة عرضها، وكان منها على سبيل المثال فيلم “رايس الإبحار” لهشام بن عمار و”السفراء” للناصر القطاري و”صمت القصور” لمفيدة التلاتلي.
أما في فئة الأفلام القصيرة الفائزة بالتانيت في دورات سابقة، فكان الجمهور على موعد مع فيلم “شمس الضباع” لرضا الباهي و”العصفور” ليوسف شاهين و”باماكو” لعبد الرحمن سيساكو.

إكراهات الوباء.. مهرجان يرفل في قيود التحديات
عُرض أكثر من 120 فيلما في مهرجان أيام قرطاج السنيمائية مثلت 16 دولة عربية وأفريقية، وكان شعار هذه الدورة هو أن تكون استثنائية؛ ليس بسبب فيروس كوفيد 19 -الذي حتّم حجب المسابقة والجوائز- فحسب، بل بسبب رهانات رفعتها إدارة المهرجان بإحياء هويته الأفريقية وعرض أفلام سينمائية خالدة وتكريم شخصيات تونسية وعربية وأفريقية.
بعض تلك الرهانات محكومة بعوامل لم يذكرها منظمو تظاهرة المهرجان لكن لم يخفها فتحي الخراط المدير الأسبق للمركز الوطني للسينما والصورة، وهي أن لا شيء استثنائي أو مميز في هذه الدورة، فالأفلام التي اختيرت دون غيرها كان يحكمها توفر نسخ منها لا غير.
ويقول الخراط: وددت لو أنّ منظمي التظاهرة أشاروا إلى أن ما يقترحون عرضه من أفلام محكوم بعوامل عديدة منها عدم توفر نسخ أفلام مهمّة أسالت الكثير من الحبر زمن عرضها وظلّت برهانا على فلسفة المهرجان المنحازة إلى قضايا الشّعوب العربية والأفريقيّة، لكنّ نسخها غير متاحة لسبب أو لآخر.. مما اضطرّ المديرة إلى قولها إن البرنامج الذي تقترحه قد خضع إلى إكراهات في الاختيار بحيث لم يحوِ كل الأفلام التي رسمت هوية المهرجان وارتبطت به، وأنّ الحنين لأفلام الـ35 ملم لم يكن اختيارا بل اضطرارا، عسى أن تنبّه أولي الأمر إلى ضرورة وسرعة إنقاذ ذاكرتنا السينمائية.

“المخدوعون”.. حنين إلى الماضي السينمائي المجيد
لم تستعد ذاكرة الدورة الاستثنائية لأيام قرطاج السينمائية أفلاما خالدة مثل فيلم “المخدوعون” للمخرج توفيق صالح الذي فاز بالتانيت الذهبي في العام 1972، كما لم يعرض فيلم “كفر قاسم” لبرهان علوية، أو فيلم “أموك” للمخرج سهيل بن بركة الذي عرض سابقا في دورة العام 1982 في فترة عانت فيها أفريقيا أقسى درجات التمييز العنصري..
هذا الحجب أو الغياب أثار حنق واستغراب الناقد فتحي الخراط الذي يقول: وما الاعتذار الذي يمكن أن نسوقه لأولئك الذين يرغبون في استعادة نشوة مشاهدة “صمبي زنڤة” لسارة ملدورور أو “خرج ولم يعد” لمحمد خان؟
ولئن حاولت هذه الدورة العودة إلى الماضي فإن هذه العودة كانت متعثرة طرحت فيها تساؤلات بخصوص اختيار الأفلام ومصير مخزون الذاكرة السينمائية ومستقبلها في ظل ميزانية وزارة الثقافة التي لن تتجاوز في العام 2021 نسبة 0.7% من ميزانية الدولة، وهي نسبة محبطة قد تنذر بتلف مخزون ضخم من الذاكرة السينمائية في أجل غير بعيد، وقد تحرم أجيالا من مشاهدة أفلام لمخرجين مبدعين مثل أحمد الخشين والصادق بن عائشة وإبراهيم باباي وغيرهم.
أفلام الهروب.. تختلف القصص والمعاناة واحدة
رغم أزمة الإنتاج والعرض التي مست صناعة السنيما في كل العالم، سعت أيام قرطاج السينمائية في هذه الدورة إلى عرض خمسة أفلام حققت صدى في عدد من المهرجانات العالمية ورشح بعضها إلى جوائز الأوسكار مثل فيلم “200 متر” للمخرج الفلسطيني أمين نايفة الذي رشحه الأردن لجائزة الأوسكار بعد حصوله في الدورة 77 لمهرجان البندقية السينمائي الدولي على جائزة الجمهور.
ويروي هذا الفيلم قصة عائلة فلسطينية فرّقها جدار الفصل العنصري، وهي في الواقع تجربة المخرج الشخصية الذي شطر هذا الجدار عائلته إلى قسمين.
وتتقاسم قصص الأفلام الخمسة التي عرضت لأول مرة في مهرجان أيام قرطاج السنيمائية القضية ذاتها وكمًّا كبيرا من المأساة التي تعيشها الشخصية بسبب الحرب أو السجن ومحاولاتها النجاة. ففيلم “ليلة الملوك” للمخرج الإيفواري “فيليب لاكوت” هو شبيه بشكل ما بقصة ألف ليلة وليلة التي تحاول فيها شهرزاد النجاة من سيف ملكها برواية قصة كل ليلة.
وتدور أحداث هذا الفيلم في سجن ماكا بالعاصمة الإيفوارية أبيدجان، إذ يقوم القائد الملقب باللحية السوداء بإحياء عادة داخل السجن من أجل الحفاظ على سلطته وهي اختيار سجين كي يقوم بسرد قصص طيلة ليلة كاملة ويقع الاختيار على لص لا يحفظ في ذاكرته سوى قصة واحدة.
وكان الهروب طريقا مشتركا لبطلي الفيلمين التونسيين “الرجل الذي باع جلده” و”الهربة”، ففي الفيلم الأول الذي أخرجته المخرجة التونسية كوثر بن هنية؛ هرب “سام” -وهو شاب سوري- من جحيم الحرب في بلاده إلى أوروبا، وكان هدفه الالتحاق بحبيبته، وكانت الطريقة لتحقيق ذلك هي تمكين رسام من وشم ظهره الذي أصبح لوحة فنية، وكان ثمن ذلك القرار هو حريته.
هذا الفيلم هو إنتاج تونسي فرنسي ألماني بلجيكي سويدي مشترك، وحصد جائزتين في مهرجان البندقية السينمائي في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وهو ما جعل تونس ترشحه لجائزة الأوسكار للأفلام الأجنبية.
أما فيلم “الهربة” للمخرج غازي الزغباني -وهو أحد الأفلام التونسية الثلاثة في القائمة الخماسية للعروض الأولى- فيروي قصة شاب متطرف هرب من مطاردة أمنية ليجد نفسه أمام شقة مومس وهي ملاذه الوحيد للنجاة، فكان أمام خيارين إما مواجهة الشرطة أو مواجهة ظهر المومس العارية.

“المدستنصي”.. وثائقي تونسي يتيم في المهرجان
وجدت السينما الوثائقية طريقها إلى المهرجان بصعوبة ففي هذه الدورة عرضت بعض الأفلام الوثائقية السابقة، ولكنها لم تشف غليل محبي السينما الوثائقية التي تعتبر صاحبة الحق المهضوم في المهرجان، إذ لم يعرض في أفلام العرض الأول بالمهرجان إلا وثائقي واحد لا غير، وهو فيلم “المدستنصي”.
لا تختلف قصة الهروب من أجل النجاة ومطاردة الأمل التي عاشها محرز بطل فيلم “المدستنصي” للمخرج حمزة العوني؛ عن القصص المليئة بالمآسي ومحاولات الهروب والنجاة التي عاشها أبطال الأفلام الأربعة الأخرى، غير أن الاختلاف الوحيد هو أن كاميرا المخرج حمزة العوني لاحقت بطلا حقيقيا هو فنان شاب هاوٍ للرقص والتمثيل، فقد ظل العوني يلاحق بطل فيلمه الوثائقي الطويل في شوارع حي المحمدية الشعبي بالعاصمة طيلة 12 عاما.
يقول حمزة العوني إن فكرته الأولى كانت إنجاز فيلم وثائقي عن مقهى في ذلك الحي يؤمه المقامرون في سباق الخيول، لكنه غيّر وجهة الفيلم تماما، إذ جذبته شخصية محرز المقامر البارع والفنان الموهوب الذي لم يغنه حبه للفن عن التعلق بألعاب المراهنة على الخيول.
تلاحق كاميرا المخرج حمزة العوني شخصية مسكونة بالتناقضات يتقاذفها الطموح والإحباط، ويتأرجح بين العزيمة واليأس. عاش المخرج طيلة أكثر من عقد من الزمن لحظات الصبر والانكسار التي عاشها محرز وتبعه وهو يشق طريقه بحثا عن معنى وجوده. ماذا يريد أن يكون وما الذي يبحث عنه؟ هل هو محرز المقامر الذي يبحث عن ضربة حظ في ورقة رهان رخيصة؟ هل هو فنان وراقص؟ هل هو ابن حي شعبي ضرب جذوره في المقاهي وتقاسم مع أبناء حيه فرحهم وحزنهم، أم هو الفتى الحالم بسماء أخرى في الضفة العليا للبحر المتوسط؟
رحلة المخرج مع بطله كانت رحلة طويلة مضنية بدأها في العام 2005 زمن حكم بن علي، لكنه حصد منها هامشا كبيرا تجولت فيه عدسة كاميراته بكل حرية، فقد شاركه فترات دراسته المتقطعة وتجاربه الفاشلة في أوروبا ومحنة بطالته وسجنه وتحقيق جزء من حلمه بالمشاركة في أعمال مسرحية ومسيرته في مقاومة دكتاتورية نظام الرئيس التونسي زين العابدين بن علي.
كانت عدسة المخرج حمزة العوني أكبر من رحلة بطله محرز، فقد وسعت معاناة أبناء الحي الشعبي، وحلم جزء كبير من شباب تونس بالهجرة أو الهروب من أجل الخلاص من ظلم البلاد، وقد لخص العوني ذلك المشهد التونسي العام في شتائم كالها محرز وهو في حالة سكر لبلاده لأنها لم تمنحه شيئا.
اختار محرز عنوان الفيلم وهو “المدستنصي”، وهي كلمة تونسية هجينة ومشتقة من كلمة المسافة باللغة الفرنسية، وتعني باللهجة العامية التونسية الشخص “المهمّش”. لم يكن محرز هو “المدستنصي” الوحيد، فـ”سام” واللص السجين والمتطرف الهارب والعائلة الفلسطينية جميعهم “مدستنصيون” يحاربون ضد تهميشهم ويصارعون من أجل نجاتهم.
وفي الوقت الذي تحاول فيه شخصيات الأفلام الهروب إلى بر النجاة وأفق أرحب تحاول أيام قرطاج السينمائية الصمود أمام ماض مشروخ ومستقبل مجهول.