الدورة الـ70 لمهرجان برلين السينمائي.. مخاض متعسر ومولود مختلف الملامح
قيس قاسم
لا يريد “كارلو شاتريان” في أول دورة يترأس فيها مهرجان برلين السينمائي أن تمر هذه الدورة دون أن يترك بصماته عليها، ولا أن تأتي تماما كسابقاتها، فهذا يخالف التوقعات والرهانات على إحداث تغيير يُبرّر استقالة مديره السابق “ديتر كوسليك” الذي أداره لسنوات طويلة، والذي عزّز خلالها مكانة سينمات تجديدية من خارج حدود أوروبا، ولهذا تُوصف فترته بـ”التثويرية” واليسارية.
لم يخفِ الرجل توجهاته لا على المستوى السياسي ولا الفني، بل جسّدها عبر منحه مساحات أكبر لسينمات من قارات أخرى وتقديمه أسماء جديدة منها، مما أثار غضب سينمائيين ألمان اتهموه بسببها بتحجيم دورهم، وتقليل فرص عرض أفلامهم في مهرجان ألماني.
ربما كانت العريضة الاحتجاجية التي قدّمها عدد من المخرجين والعاملين في مجال السينما قبل سنوات ضده وراء فكرة إبعاده، فالمدير الجديد صاحب خبرة، فقد سبق له أن أدار مهرجان “لوكارنو السينمائي”، ويعرف جيدا أن التغيير في دولة مؤسسات لا يكون حسب المزاج، بل يحتاج إلى ترّيث ووقت طويل يمكن من خلاله إحداث تغييرات في هيكلية مهرجان مُترسخ الجذور كـ”البرليناله”، الذي يُدشِّن هذا العام دورته الـ70 (20 فبراير/شباط وحتى 1 مارس/آذار) وسط ترقّب المعنيين لكل متغير وجديد فيها.
فيروس كورونا.. وخزة أخرى في خاصرة المهرجان
جاءت بعض المُستجدّات من خارج المهرجان أيضا، فالأولى سياسية والثانية صحيّة متعلقة بانتشار “فيروس كورونا” الذي أشاع قلقا عند المشاركين فيه بوصفه تجمعا جماهيريا كبيرا يزيد من احتمال نقل العدوى، ولأن موطنه الصين، فقد شدّدت السلطات من إجراءات منح تأشيرات الدخول للقادمين منها إلى المهرجان.
ومن سوء حظ إدارته وبشكل خاص مسؤولي “السوق الأوروبي” الذين خصّصوا هذا العام حيزا استثنائيا للمنتج السينمائي الصيني؛ أن يُعلن عشرات من مندوبي تسويق الأفلام وعدد من ممثلي الشركات الصينية الكبيرة إلغاء مشاركتهم بسبب انتشار الفيروس.
أما المستجد السياسي فيتعلق بإلغاء إدارته الجديدة جائزة “ألفريد باور” التي تحمل اسم أول مُترأسي إدارة المهرجان (من عام 1951 حتى عام 1976)، وهي من بين أكبر “جوائز الدب الفضي” التي أطلقها المهرجان بعد موته عام 1986. لكن قرار الإلغاء جاء بعد بحث تاريخي قامت به صحفية “دي تسايت” الأسبوعية ونشرته قبل مدة قصيرة من انطلاق الدورة. حيث جاء في البحث أن “باور” كان عضوا نشطا في الحزب النازي الألماني، وكان منتميا إلى الجناح شبه العسكري للحزب المُسمّى بـ”كتيبة العاصفة”، وعضوا بارزا في وحدة “أفلام الرايخ”، لتعلن الإدارة الجديدة أنها ستقوم بإلغاء واحدة من أهم جوائزها التي تُمنح للأفلام، والتي تفتح آفاقا جديدة في عالم السينما، على أن تقوم ببحث جدي لاحق لمجمل تاريخ المهرجان، وبالاستعانة بخبراء من خارجه.
مجمع السينما.. تغييرات فنية ولوجستية
على المستوى التقني واللوجستي جرت تغييرات، فبعد إغلاق مُجمّع السينما في ساحة “بوتسدامر بلاتس” أبوابه، كان على إدارته الجديدة التعامل مع الوضع، وإيجاد حلول سريعة بإضافة مواقع عرض بديلة، وإن لم تكن بنفس مواصفات المجمع القديم المتميز بقربه من قصر العروض والمكاتب الصحفية والفنادق المستضفية لأعداد كبيرة من زواره.
أما على المستوى الفني، فقد حسمت إدارته الجديدة التباسا قديما يتعلق بتسمية عروض “خارج المسابقة”. تلك التسمية المُربكة والعسيرة على الفهم، وذلك حين يكون الفيلم مدرجا في المسابقة، لكنه في الوقت نفسه خارجها.
في هذه الدورة ستُضَم الأفلام غير المتنافسة إلى خانة “جالا برليناله الخاصة”، وعادة ما تُبرمَج فيها أعمال مهمة، من بينها على سبيل المثال فيلم “بينوكيو” للمخرج الإيطالي “ماتيو جاروني”، صاحب تحفة “غومورا” و”دوغمان”. أما “بينوكيو” الحكاية المشهورة للكاتب “كارلو كولودي”، فيُعاد سردها بصريا، ويقوم بتجسيد شخصيتها الرئيسية الممثل “روبرتو بينيني”.
أكاديمية برلين للفنون.. حوارات سينمائية
استحدث منظمو المهرجان في هذه الدورة أقساما جديدة وفعاليات، من بينها “في الإرسال”، وفكرتها تتمحور حول اختيار سبعة مخرجين مهمين شكلت أفلامهم أحداثا بارزة في تاريخ “البرليناله”، ويقوم كل واحد من هؤلاء باختيار مخرج معاصر يشاركه في حوار مفتوح حول السينما.
أما الحوارات الثنائية فتستضيفها أكاديمية برلين للفنون، ومن بين المحاورات واحدة تجمع بين التايواني “أنج لي”، والياباني “هيروكازو كوري إيدا”، وأخرى بين الإيطالي “باولو تافياني” ومواطنه “كارلو سيروني”، كما استحدثت الدورة خانة جديدة بعنوان “ملتقيات”، لتضم أفلاما مبتكرة ذات خصوصية.
“نرجس”.. اهتمام بالسينما العربية
تبدّد القلق العربي من احتمال تقليل حضور العرب اللافت في المهرجان -الذي عززته الإدارة القديمة وصار خلال السنوات الأخيرة جزءا من مشهده العام- حال إعلان الدورة أسماء أعضاء مسابقاتها الرسمية. فقد ضمت المسابقة الرسمية الكبرى اسم المخرجة الفلسطينية “آن ماري جاسر”، والمخرجة المصرية “هالة لطفي” في مسابقة العمل الأول.
وعلى مستوى مشاركة الأفلام العربية فإن عددها يشي باهتمام جيد بها، وكالعادة توزع العربية بين أقسام “بانوراما” و”المنتدى” و”المنتدى الموسع” وقسم الأفلام القصيرة، ويقل حضورها في المسابقات الكبرى.
فيلم “نرجس” لـ”كريم عينوز” البرازيلي الجزائري الأصل (من أب جزائري وأم برازيلية) يقدم ضمن قسم بانوراما، ويرصد فيه مشاركة شابة جزائرية في الحراك الشعبي ضد الفساد ومن أجل الديمقراطية، فتتابع كاميرته وجود الشابة نرجس في المظاهرات الحاشدة، ومن خلالها تتشكل صورة لجيل جزائري طموح ينشد تحقيق طموحاته المشروعة.
مركز السينما العربية.. سفير العرب في المحافل
برمجت إدارة المهرجان فيلم اللّبنانية سارة فرنسيس “كما في السماء كذلك في الأرض” في قسم “المنتدى”، بينما ضمت خانة “المنتدى الموسع” فيلم مواطنها أكرم زعتري “الهبوط”، إلى جانب الفيلم العُماني القصير “الموعود” لأحمد الغنيمي.
وسيُعرَض فيلم نجوى نجار “بين الجنة والأرض” في “السوق الأوروبي”، وتدور أحداثه حول زوجين فلسطينيين من الضفة الغربية يمضيان لإتمام أوراق انفصالهما عن بعضهما، في رحلة تقودهما إلى مناطق وشعاب فلسطينية قلما تُقدَّم على الشاشة، وإلى محاولات تقصّي حقيقة ماضي والد الزوج المبهم.
وقد تحول المهرجان خلال السنوات الماضية إلى مركز لنشاط مؤسسات سينمائية عربية، مثل “مركز السينما العربية” الذي يقوم بدور مهم في نشر السينما العربية خارج جغرافيتها، ويستمر في نشاطه خلال الدورة الحالية.
“هيلاري كلينتون”.. زخم في سبيل المنافسة
كان وما زال التحدي الدائم لبرلين متجسدا في تحقيق التوازن الدقيق بين السينما التجارية والسينما النوعية “آرت هاوس” التي يحرص على أن يكون من بين أهم منابرها، كما يحرص على البقاء في الوقت نفسه كمنافس قوي للمهرجانات الكبرى مثل كان وفينيسيا (البندقية).
تشي دورة هذا العام برغبة للعمل أكثر على استقطاب أسماء لامعة في سماء السينما العالمية، والرهان على أن يكون معبرا مهما لتسويق الأفلام التجارية والهوليودية على وجه الخصوص إلى أوروبا وبقية المناطق.
ولتحقيق ذلك تحتاج إدارته الجديدة وقتا أكبر، لكن هذا لم يمنعها من المباشرة في السير بهذا الطريق عبر دعوة أكبر عدد من النجوم المشاركين في أفلام معروضة خلال الدورة، مثل “وليام دافو” و”جوني ديب” و”لورا ليني” وغيرهم.
أما على المستوى الأوروبي فالأمر أبسط بالنسبة للبرليناله، لكثرة ما تعرضه من أفلام أوروبية، فهذا العام سيحضر الممثل الإسباني “خافير بارديم” بمناسبة عرض فيلمه “طرق لم تُطرق” بمشاركة الممثلة سلمى حايك. كما ستحضر بشكل استثنائي وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة “هيلاري كلينتون” تزامنا مع عرض وثائقي عنها يحمل اسمها “هيلاري”.
اكتشاف المواهب.. التفاتة إلى المرأة السينمائية
لم تخرج دورة هذا العام عن تقاليد رسختها دورات قبلها، وذلك لضمها أفلاما وثائقية إلى جانب الأفلام الروائية في مسابقتها الرسمية، فالفيلم المنافس هذا العام هو الكمبودي “المشع” للمخرج المرموق “ريثي بانه”، وهناك وثائقيات غيره تتسابق في أقسام أخرى. أما على المستوى الروائي، فمن بين الأفلام التي ذاع صيتها قبل وصولها إلى برلين الفيلم الأمريكي “البقرة الأولى” للمخرجة “كيلي ريتشارد”، وأما من ألمانيا فهناك “برلين الكسندربلاتز” لبرهان قرباني.
تضم المسابقة أفلاما من كل القارات، وذلك في تأكيد على تواصل مبرمجيها مع نهج سابق يبحث عن التميز عبر اكتشاف مواهب سينمائية من كل أنحاء العالم، وهذا ربما يجد تجسيداته الواسعة في بقية المسابقات المنفتحة أكثر على سينمات وتجارب لا تجد طريقها إلا في مهرجانات طليعية مثل مهرجان برلين، ومن على شاشاتها يتعرف الناس على أحوال وأوضاع سياسية واجتماعية شديدة التعقيد، أغلبها تعكس مناخا متوترا وتنقل صدامات عنيفة، لهذا سارع مديره الجديد للتنبيه بحقيقة أن المهرجان مثل غيره لا ينتج أفلاما بنفسه، لكنه يعرضها بكل محمولاتها ودلالاتها، وهي في النهاية تعكس ما يجري في العالم. كما قال عبارة دالة في مؤتمره الصحفي: أريد أفلاما تتحدث عن العالم الذي نعيش فيه.
في هذا السياق ربما يأتي التفات الدورة إلى المرأة السينمائية، ودعوته لتحقيق توازن بين الجنسين على مستوى إتاحة الفرص للمخرجات للمشاركة بأفلامهن فيها، وكموضوع حيوي جدير بالعرض والتناول، وهذا ما يتطابق بشدة مع رغبة المهرجان الدائمة في منح فرص متساوية لكلا الجنسين.
“هيلين ميرين”.. منجز إبداعي يتوج بالدب الذهبي
أما تكريم المهرجان السنوي فخصّصه للممثلة البريطانية الحائزة على الأوسكار “هيلين ميرين”، حيث سيمنحها خلال الدورة الـ70 “الدبّ الذهبي” على مُجمل منجزها الإبداعي، كما سيعرض لها بعضا من أفلامها.
أما الافتتاح فتقرر أن يكون من نصيب فيلم “ماي سالنجر يير” للمخرج الكندي “فيليب فالاردو”، المقتبس نصّه من قصة للكاتبة الأمريكية “جوانا سميث راكوف”، وتدور حول شاعرة تعمل كمساعدة عند كاتبة مشهورة.
وقد علق المدير الفني للمهرجان على اختياره بالقول: يسعدنا أن نفتتح الدورة الـ70 بقصة تأخذ بوجهة نظر بطلتها التي تتمتع بمنظور جديد، وهي ليست ساذجة بأيّ حال من الأحوال.