مهرجان زاكورة الدولي الـ9 للفيلم الوثائقي.. بريق السينما العربية والأفريقية في أعماق المغرب

المصطفى الصوفي
الطريق إلى مدينة زاكورة الصحراوية في غياب طائرة تحملك من الدار البيضاء إلى تلك الربوع؛ هي طريق طويلة ومثقلة بأتعاب جسد منهك لا يقدر على مجاراة دوار منعرجات جبال شامخة، تفصل مراكش وورزازات، ثم إلى قصور الرمال في الجنوب.
في زاكورة التي استضافت فعاليات النسخة التاسعة للمهرجان الدولي العربي الأفريقي للفيلم الوثائقي خلال الفترة ما بين 26-29 نوفمبر/تشرين الثاني، أُسدل الستار ليلة أول أمس الاثنين بتتويج فيلم “الغناوي ساحر النار” لمخرجه الدانماركي من أصل عراقي محمد توفيق بجائزة العمل المتكامل، وهي الجائزة الكبرى لهذا المهرجان.
هُنا زاكورة.. سحر وادي درعة الذي جذب السينما
بين تلك الربوع التي تتغير فيها التضاريس من السهول إلى الهضاب ثم الجبال فالصحاري، تُحكى الكثير من الأساطير عن جبال تُسمى “تيشكا” و”الأزاغار”، وهي مناطق أمازيغية يمتهن أهلها البسطاء كثيرا من الحرف والمهن، منها البحث عن كنوز الطبيعة والأحجار الكريمة والنيزكية، ومنها السياحة والرعي خلال رحلات الشتاء والصيف.
في هذه الجغرافيا الشاسعة ينمو كثير من ندف الطل والثلوج في الأعالي، وتطل الشموس على كثير من البقاع هناك، في صورة شاعرية لا توصف، فتحيل تلك الأمكنة الخرافية إلى فضاءات ساحرة للتأمل والحلم والسينما.
في مراكش كما في ورزازات أُنتجت أفضل الأفلام السينمائية العالمية، وفي زاكورة يحلو السفر في التاريخ والسهر وحكي شهريار الواحات، وتتحول معها الأحلام في وادي درعة إلى خيال ممتع، حيث نقل كثير من المخرجين بأفلامهم الروائية والوثائقية صورة بهية مستوحاة من قصص عربية وأفريقية تُسعد العين وتُريح الخاطر والبال.
هنا زاكورة، حيث القصبات التاريخية وزوايا المريدين والمتصوفة، وقصور من القش والتراب لا تزال تحتضن شوق الأجداد، وتحكي أشواقهم تحت ظلال النخيل، وأسوار طينية لها نقوش وأقواس وطوق حمام.
تنتصب زاكورة الوثائقية بسحرها الأخاذ كستنائية بطينها وواحاتها الممتدة في عمق وادي النخيل باتجاه المحيط الأطلسي جنوبا، حيث تحتفي كل عام بالفيلم الوثائقي في صورة جذابة تقدم الواقع بلا تمثيل ولا مساحيق.
اكتساح الأفلام العربية للتتويجات.. جوائز المهرجان
تنوعت الجوائز بين جائزة السيناريو التي ذهبت للفيلم المغربي “روح الواحة” لهشام باحفيظ، بينما حاز الفيلم اللبناني “أحفاد كريت” لمخرجته هلا مراد بجائزة أفضل مخرج وثائقي، أما جائزة أفضل تصوير فقد نالها المخرج التونسي يوسف لبانوب عن فيلمه “حفيد عائلة مراد”.
ومنحت لجنة التحكيم جائزة لجنة التحكيم للفيلم المصري “جاري تحميل الحلم” لمخرجه أحمد عبد الحليم قاسم، أما جائزة النقد فتوج بها الفيلم العماني “السفينة سلطانة” لمخرجه خالد الزدجالي.
كما نوهت لجنة التحكيم بفيلمين؛ الأول مصري بعنوان “إحنا البهجة” للمخرج ياسر عطية، والثاني “وصمة عار” لجعفر مراد من العراق، ويترأس لجنة التحكيم الناقد البريطاني عدنان حسين أحمد، وقد ضمت في عضويتها العراقي ماجد درندش، وربح السهيلي من تونس، وندى مراد من السودان، والممثلة المغربية فاطمة بصور.
وقد تُوج فيلم “الغناوي ساحر النار” بالجائزة الكبرى لهذا المهرجان، وهو حكاية أسطورية وصوفية عن شخصية تنحدر من الصحراء تُدعى “الغناوي”، وهو يعمل في فرن شعبي بأحد أحياء المدينة العتيقة بمدينة مراكش، حيث قدر له أن يكون مع النار وجها لوجه كل يوم من أجل إسعاد العائلات الشعبية، وذلك بطهي خبزهم على نار هادئة.
“الغناوي حارس النار”.. وثيقة سينمائية عن الكادحين
يكتوي الغناوي وهو ابن مدينة زاكورة بنار الفرن الشعبي، يتحداه بالصبر والتجلد وبدفء الفنون، حيث أسس فرقة موسيقية لفن “كناوي”، وهو فن شعبي وتراثي قديم، يسامر حكايات الليل والنجوم، وطيف أفريقيا والعبيد، بينما النار تدفئهم بحكاياتها وأساطيرها التي لا تنتهي.

“الغناوي حارس النار” هو صوت سينمائي مؤثر يوثق لمعاناة البؤساء والمعذبين والكادحين كدحا، ممن يصارعون الزمن على الأرض من أجل كسرة خبز مهما كانت النار حارقة، ومهما كان الأجر زهيدا لا يسمن ولا يغني من جوع.
إنه وثيقة سينمائية تعالج الواقع معالجة خلاقة، حيث تنفذ إلى عمق المجتمع في مدينة سياحية تحبل بالمتناقضات، وتعكس فيضا من القضايا والمواضيع، منها ما ينتصر لقيم الصراع النفسي والوجداني والتشبع بروح الأمل.
هي مشاهد مجبولة على التأمل في التفاصيل اليومية، وتحكي بلغة الصمت وشذرات المتعة البصرية الراقية قصة عميقة لأناس بسطاء يتعايشون مع حرقة النار، وجمرة الفقر والخصاصة، ومع رقة الفنون التي تفتح لهم باب الأمل والحلم.
الفيلم المتوج في مجمله يزاوج بين عالمين متناقضين، وقدرين يعشيهما الغناوي، وذلك من خلال أغنيتين يغنيهما، الأولى يكتوي بها في فرن الحي الشعبي، والثانية بها يحلم، مهما كانت قاسية، وهو يعزف على قيثارة الخلاص من هموم قديمة وأوجاع لا تشفى.
“أنا سعيد بهذا التتويج”.. سحر الصناعة في أزقة مراكش
يقول المخرج محمد توفيق في تصريح للجزيرة الوثائقية عن فوزه بالجائزة الكبرى للمهرجان: أنا سعيد بهذا التتويج في مهرجان دولي عربي وأفريقي يُكرم في الأساس صوت القيم الإنسانية والفنية، ويعطي الفرصة لأحلام الشعوب لكي تنسلخ من كاهل جراحها.

وأضاف أن فضاء المدينة القديمة بمراكش بأزقته الشعبية ودروبه الضيقة وناسه البسطاء الطيبين؛ ساعدوه بشكل كبير في تصوير الفيلم بشكل محترف، ليحقق الكثير من النجاحات.
وأشار توفيق إلى أن فيلمه نقل بطريقة حيّة صورا واقعية ومشاهد دقيقة لشخصية الغناوي، مبرزا أن الفيلم كان قريبا جدا من التغني بعرق ومعاناة الناس، وأن الغناوي كان يعمل 15 ساعة في اليوم، وهي مدة طويلة تنهك الجسد والعقل والخاطر، لكنه يتغنى في النهاية بالأمل وبقسوة العبودية، ويفتش عن الحرية للتخلص من حراسة النار.
وكشف المخرج أن فوزه بهذه الجائزة تعد الخامسة من نوعها، بعد فوزه في عدد من المهرجانات الدولية، خاصة بالسويد وهولندا ومصر والإمارات العربية المتحدة، موضحا أن الفيلم مقبل أيضا على المشاركة في مهرجانات دولية أخرى بهدف تقريب معاناة الناس إلى الجمهور ومعالجة الواقع سينمائيا.
المسابقة الرسمية.. 17 فيلما وثائقيا على حلبة التنافس
شارك في المسابقة الرسمية في المهرجان 17 فيلما وثائقيا، وهي “لم تكن وحيدة” للمخرج حسين الأسدي، و”الرتل” لرائد سليمان، و”وصمة عار” لجعفر مراد وهم من العراق، و”الغناوي ساحر النار” لمحمد توفيق من الدانمارك، و”أحمد البهجة” لياسر عطي، و”مصرية” لأسماء جمال، و”رحلة العقباوي” لأيمن صفوت، و”جارٍ تحميل الحلم” لأحمد عبد العليم قاسم، و”حالة طوارئ” لعبد الله عادل من مصر.
كما شارك في المسابقة كذلك “كوناكري وصداعها” لحسين لنفوي من غينيا، و”إدارة النفايات” لجمال باشا من الجزائر، و”أحفاد كريت” لهلا مراد من لبنان، و”علال” لفهيم البياش، و”روح الواحة” لهشام باحفيظ من المغرب، و”حفيد عائلة مراد” ليوسف لبانوب من تونس، و”السفينة سلطانة” لخالد الزدجالي، و”عرضة” لمخرجه العماني حمد الدروشي.
واقع وآفاق السينما التونسية.. ضيف الشرف
تميزت الدورة بتنظيم فقرات غنية لعل أبرزها تنظيم ندوة تحت عنوان “السينما الوثائقية تقاوم الأوبئة وتخدم المجتمعات”، وهو شعار الدورة، وشارك فيها الفنان والكاتب المغربي عبد الرحمن العبدلاوي، والدكتور محمد جاجا، والمخرج الدانماركي محمد توفيق.
ضيف شرف هذه الدورة بعد فلسطين وسوريا وغيرهما كانت السينما التونسية، فإلى جانب تكريمها في حفل الافتتاح الذي جرى بالمركز الثقافي، فقد جرى تنظيم ندوة أكاديمية بقاعة المحاضرات والندوات حول السينما التونسية واقعها وآفاقها.
شارك في الندوة -التي سبقها تكريم للسينما التونسية في حفل الافتتاح- الناقد العراقي المقيم في لندن الدكتور نديم العبد الله، والناقد الفني عدنان حسين أحمد، والممثلة التونسية منى ماجري، وقد قدم الدكتور نديم العبد الله مداخلة قيّمة لامس فيها عددا من التجارب السينمائية التونسية أو المغاربية والعربية التي اهتم بها الكتاب والنقاد سواء في بريطانيا أو في الغرب عموما، وهي محفوظة في ذاكرة الأرشيف البريطاني حتى الآن.

كما تطرق الأكاديمي نديم إلى موضوع رأى بأنه أكثر أهمية، ويتعلق الأمر بموضوع النشر والكتابة والقراءة في بريطانيا والغرب عموما، موضحا أن القراءة والاهتمام بالنشر في العالم العربي يبقى هو الحل للخروج من الأزمات، وأن السينما تظل الإبداع المتجدد الذي لا يقل أهمية عن مسألة النشر والكتابة والإبداع.
أما الناقد الفني عدنان حسين أحمد فقد قارب موضوع السينما التونسية ومنها الوثائقية، من خلال مسيرتها التي ظلت قريبة من المواطنين وعالجت قضايا عدة، فهي ارتبطت في الأساس بقضايا النضال والتحرر من ربقة الاستعمار، وأيضا بقضايا المرأة والمجتمع عموما لتحسين أوضاعه.
معاناة المرأة.. نافذة على قضايا المجتمع التونسي
سافرت الممثلة والكاتبة منى ماجري بالحاضرين عبر محطات فنية وسينمائية ممتعة، وذلك بتركيزها على المرأة في السينما التونسية، من خلال مجموعة من الرموز النسائية، لعل أبرزها ذرة بشوشة وهند صبري وسلمى بكار وغيرهن.
وجدت ماجري في فيلمي “صمت القصور” و”موسم الرجال” نموذجا لسينما تونسية وصلت إلى العالمية، وبعثت رسائل دقيقة ومهمة عن عدة مواضيع ميزت المجتمع التونسي في فترات معينة، منها معاناة المرأة في مجتمع ذكوري متسلط.
كما وجدت في الفيلمين فرصة لاستعراض قضايا تؤرق بال المجتمع التونسي، مثل استعباد النساء والاتجار بأجسادهن، وعدم تمتيعهن بحقوقهن، وبالحرية في كل شيء. واعتبرت الكاتبة ما جرى أن المرأة التونسية مخرجة أو ممثلة ليس همها في النهاية هو تسليط الضوء على قضايا المرأة بالخصوص، بل أن تكون المرأة قضية للعبور إلى قضايا مجتمعية أخرى، وبالتالي -حسب رأيها- فإن الخلاص لا يخص المرأة، بل المجتمع برمته.
كما شهدت الدورة ضمن أنشطتها الموازية تنظيم ثلاث ورشات في حرف السينما، وهي ورشة السيناريو التي قدمها المخرج والممثل المغربي يوسف آيت منصور، وورشة التمثيل التي قدمتها الممثلة المغربية رشيدة المسعودي، وأيضا ورشة الارتجال وأداء الممثل التي قدمها الفنان المغربي محمد كوردادي.
عروض موسيقية في الافتتاح والاختتام.. سينما تتحدى الأوبئة
إلى جانب الفقرات الغنية التي احتواها المهرجان، جرى تنظيم عروض موسيقية في حفل الافتتاح والاختتام، قدمتها فرقة “دق السيف واقلاق”، وفرقة ” تمكشاد” للركبة والفنون الشعبية من جماعة تنزولين الموجودة بأحد أرياف زاكورة الصحراوية.
ولعل اختيار اللجنة المنظمة لهاتين الفرقتين التراثيتين له دلالة رمزية، لما توثقه هذه الفرق الفولكلورية من عادات وتقاليد عدد من القبائل الصحراوية، سواء في موسم الأعراس، أو نهاية موسم جني محاصيل التمور، أو خلال تنقل الرُحّل والرعاة في الصحراء بحثا عن الماء والكلأ للإبل والمواشي.
وكان حفل افتتاح الدورة الذي انطلق الخميس الماضي شهد تكريم الأكاديمية والسينمائية التونسية ذرة بشوشة، والممثلين المغربيين حسن بديدة وجواد السائح، والفنان امبارك السيمو رئيس فرقة دقة السيف وإقلال بزاكورة، وذلك تقديرا لجهوده الكبيرة في الحفاظ على هذا التراث الشعبي الذي يتحدى الانقراض.
تلك إذن كانت بعض أطياف فعاليات الدورة التاسعة من مهرجان زاكورة الدولي العربي الأفريقي للفيلم الوثائقي التي أقيمت بشكل حضوري متحدية كل الظروف والأوبئة، وملوحة بمناديل كلها أمل في المستقبل، لها أريج السفانا وعطر الياسمين والزعتر وسحر وأناقة السينما.