مهرجان القاهرة السينمائي الدولي الـ43.. بصمة المرأة في أعرق المهرجانات العربية

قيس قاسم

يصاحب اختتام الدورة الـ43 لمهرجان القاهرة السينمائي شعورا عاما بأنها حققت جزءا مما هو مطلوب من المهرجان تحقيقه خلال السنوات الأخيرة التي بهت فيها دوره، وخطفت منه مهرجانات عربية جديدة العهد بريقه، وكان عليه بحكم مركزه كمهرجان مصري يُقام في بلد السينما العربية أن يكون طليعيا فيما يقدمه من أفكار وبرامج ترفع من شأن السينما المصرية والعربية.

تبشر دورة هذا العام بثبات ذلك التوجه الذي يديره بكفاءة ملحوظة مديره محمد حفظي، رغم شدة المنافسة الموجودة الآن بين المهرجانات العربية المهمة، وفوضى مواقيت انعقادها، الأمر الذي ظل يؤكد عليه خلال مقابلاته الصحفية أثناء انعقاد الدورة التي انتهت أعمالها يوم أمس، ويشير إلى أهمية التنسيق وتجنب التضارب بينهما، ومن جانب آخر العمل وفق إمكانيات مهرجانه المالية المحدودة ليُبقيه مصدر إلهام لبقية المهرجانات في المنطقة.

يتجلى ذلك التوجه تطبيقا في توسيع مساحة عروض أفلامه في القاهرة، ومن خلال وجوده في عاصمة كبيرة مثلها، يمكنه تصحيح علاقته المختلة نسبيا بجمهوره، إلى جانب نجاحه في توفيره ميزانيات مالية خاصة لدعم المنتج السينمائي المصري والعربي، وتنويعه للفعاليات المصاحبة لعروضه ومسابقاته، مثل الندوات ومقابلة الجمهور (وجها لوجه) لضيوفه من سينمائيين ونقاد ومشتغلين في حقل السينما.

مدير مهرجان القاهرة لسينمائي الدولي محمد حفظي في المؤتمر الصحفي للمهرجان

 

هذا الأمر يمكن ملاحظته بسهولة عبر فعاليات “أيام القاهرة لصناعة السينما” و”ملتقى القاهرة”، وهي المنصة التي تتيح لصُنّاع السينما العربية توسيع علاقاتهم وصلاتهم المهنية مع منتجين ومخرجين وكتاب، وقد ظهرت بشكل جيد في الدورة الأخيرة، كما ساهمت الندوات والحلقات النقاشية في فتح المجال لتبادل الخبرات بين المختصين من جهة، وبينهم وبين جمهورهم من جهة أخرى.

مركز السينما العربية.. ندوات فنية على هامش المهرجان

من بين الندوات المنظمة في المهرجان ندوة نُظمت بالتعاون مع مركز السينما العربية حول دور النقد السينمائي وعلاقة الناقد بجمهوره، والأفكار الجديدة التي تحاول تخليص الناقد من ضغوطات المؤسسات الإنتاجية التي تريد تطويع الكتابة النقدية لصالح منتجها السينمائي.

بينما يحاول الناقد طرح موقفه من كل فيلم وفق رؤيته الخاصة له، ويُقيمه على هذا الأساس، لا على أساس ما تريده المنصة الصحفية التي يكتب فيها، وهي في الغالب -وبشكل خاص في الغرب الرأسمالي- تخضع وتتوافق مصالحها مع مصالح المنتجين السينمائيين.

شارك في الندوة التي حملت عنوان “نجوم وطماطم” نقاد عرب وأجانب، مما منحها سعة وتشعبا مفيدا، فقد سلطت الضوء على واقع النقد في عالمنا العربي، وأبرز المشاكل التي تواجه نقاده.

اختتام مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بدورته الـ43

 

وهناك ندوة أخرى اهتمت بالموسيقى التصويرية، وجمعت مؤلفين مهمين فيها، وهما الموسيقار الهندي المحتفى به في الدورة “أيه آر رحمان”، والمصري هشام نزيه، وهناك أيضا عدد جيد من اللقاءات التي جمعت صناعا للسينما على مختلف اختصاصاتهم، الأمر الذي منح الدورة حيوية، ووسعت دائرة المقبلين على أعمالها، ولعل من بين أبرز اللقاءات محاضرة المخرج الصربي البارع “أمير كوستاريتسا” الذي يحضر للدورة بوصفه رئيسا لمسابقتها الدولية.

توسيع قاعات العرض.. ضخ دماء جديدة لاستعادة البريق

تأتي كل تلك التغييرات وفق رؤية تريد تصحيح العلاقة بين الجمهور ومهرجانه، بعد أن لاحظ منظموه وجود خلل فيها يتمثل في قلة المقبلين على أفلام دوراته وفعالياته، الأمر الذي لا يتوافق مع قيمة المهرجان المقام في عاصمة السينما العربية.

في الدورة الحالية جرى توسيع قاعات “تجمع دار الأوبرا” قلب المهرجان، لتضاف إليها قاعة مفتوحة جديدة كبيرة سميت “النافورة”، وفي وسط المدينة أضيفت قاعة سينما الجامعة الأمريكية “إيوارت” إلى جانب “سينما الزمالك”، ليُتاح لعدد أكبر من جمهور المدينة مشاهدة أفلام مهرجانه الأهم وحضور ندواته وفعالياته المختلفة. زيادة الحضور ملفتة لا يمكن نكرانها، لكنها ما زالت بحاجة لعمل أكبر ليتحول المهرجان حقا إلى مهرجان جماهيري يليق بالقاهرة.

 

اللافت أيضا في الدورات الأخيرة للمهرجان كثرة الشباب العاملين فيه وحسن أدائهم، مما يعد مؤشرا حقيقيا على وجود دماء جديدة، فهي من ستُبقى على حيويته وتديم استمراره دون نسيان موروث طويل وعريق لا بد من الاستفادة منه، ولهذا ليس مصادفة أن يكون “أبو صدام” الفيلم المصري الوحيد في المسابقة الدولية من إخراج نادين خان ابنة المخرج المصري المرموق الراحل محمد خان.

“بنات عبد الرحمن”.. كوميديا تجسد واقع المرأة الأردنية

منذ سنوات والمهرجان يراهن بشكل جدي على توسيع دائرة مشاركة المرأة فيه سينمائيا، من خلال جلبه وإشراكه أفلاما ذات إخراج نسائي، أو أفلاما تدور قصصها حول المرأة، أو تقترح أفكارا تعرض مشكلاتها الخاصة من منظور نسوي.

يعمل المهرجان أيضا على توقيع معاهدات شراكة مع جهات تُعنى بسينما المرأة، وتمكينها لأخذ مكانها بين صناع السينما، ربما بسبب كل تلك العوامل صار الوجود الأنثوي ليس حاضرا في الدورة الـ43، فحسب، بل لافتا.

لقطة من فيلم “بنات عبد الرحمن” الذي يحكي قصة أربع أخوات كل واحدة منهن لها وضع خاص وشخصية مختلفة تنقل من خلالها أحوال المرأة الأردنية

 

شارك في المسابقة الرسمية فيلم المخرج الأردني زيد أبو حمدان “بنات عبد الرحمن”، واسمه يدل على نسويته، حيث تدور قصته حول أربع أخوات كل واحدة منهن لها وضع خاص وشخصية مختلفة، ويجمعهن مكان واحد يتفاعلن فيه، ومن خلال تجاربهن يتشكل مشهد بانورامي واسع عن أحوال المرأة الأردنية، كُتب بأسلوب سينمائي كوميدي يجعل منه فيلما جماهيريا بامتياز، وقد خرج من المهرجان بجائزة “تصويت الجمهور” (جائزة يوسف شريف رزق الله).

أوجاع المرأة المكسيكية.. أعمال سينمائية بتوقيع نسائي

الفيلم المكسيكي “صلاة من أجل المسلوبين” تقدم فيه مخرجته “تاتيانا هيزو” قصة قرية مكسيكية يتعرض نساؤها لانتهاك جسدي من قبل تجار المخدرات، بينما يهرب رجالها خوفا من قتلهم. وعلى المراهقات في القرية تجنب السقوط في أيادي العصابات، حيث الاغتصاب أقل ما يواجهن، ولا يبقى أمامهن في هذه الحالة سوى الرحيل من المكان الجميل الذي أحببن وعشن فيه مقتبل أعمارهن.

فيلم موجع في قسوته يتقارب مع مشهد مكسيكي مشابه يقدمه فيلم “مدني” الحاصلة ممثلته “أرسيليا راميريز” على تنويه خاص من لجنة تحكيم قسم “مسابقة أسبوع النقاد الدولية”، فتتناول فيه مخرجته “تيودورا آنا ميهاي” قصة أم تبحث عن ابنتها المختطفة من قبل عصابات تجار المخدرات.

 

الفيلمان ذوا بطولة نسائية كما هو محتوى متنه، إذ يبرز دورهن في مواجهة القهر بشجاعة، أما الصانعات فهن نساء موهوبات يعرفن كيف يقدمن الشأن النسوي باشتغال سينمائي بارع.

“أبو صدام”.. ورق جيد وصناعة سينمائية باهتة

تحاول المخرجة المصرية نادين خان تقديم الذكورية المتعالية، وما تجنيه على نفسها وعلى الآخرين، وفي مقدمتهم النساء، وذلك من خلال قصة سائق الشاحنة “أبو صدام” الذي يمكن إحالته رمزيا إلى الرئيس صدام حسين وعنفه الذي قاد العراق إلى الدمار، كما يقود العنف بطله إلى خراب حياتي.

الفكرة الرئيسة كان بالإمكان لو صنعت بشكل جيد سينمائيا أن تجعل من الفيلم منجزا مهما، لكنها لم تقم بذلك، ولم تجد حلولا لنص اعتمد كثيرا على الحوار، ولم يعمل السيناريو على توسيع الفكرة التي أراد تجسيدها بفيلم طريق بإضافة حكايات جانبية ترافق مسيرة الشاحنة وتحيلها إلى رحلة في أعماق المجتمع والشخصيات الرئيسة.

بطل فيلم “أبو صدام” سائق الشاحنة الذي يمكن إحالته رمزيا إلى الرئيس صدام حسين وعنفه الذي قاد العراق إلى الدمار

 

كل ذلك غاب عن الفيلم، فجاء الفيلم باهتا احتارت صانعته كيف تنهيه وكيف تنتهي من حكاية بدت على الورق جيدة، لكن تنفيذها السينمائي لم يسعفها.

“كلشي ماكو”.. سينما عراقية تغوص في الحروب الطائفية

حصل الوثائقي المصري “من القاهرة” للمخرجة هالة جلال على جائزة أفضل فيلم غير روائي عن نساء يقدمن نموذجا يرتجى تعميمه، فعلى الرغم من قساوة ما يحيط بهن فإنهن يقفن صلبات متحديات كل ما يعيق تصالحهن مع أنفسهن والأفكار التي يحملنها.

معه فيلم العراقية ميسون باجه جي “كلشي ماكو”، وعنوانه بالإنجليزية “نهرنا سماؤنا”، وهو من بين أفضل الأفلام المعروضة في المسابقة نفسها، ومن القليلة التي تعيد قراءة المشهد العراقي خلال سنوات الاقتتال الطائفي بأسلوب سينمائي مقنع قادر على طرح أسئلة عما جرى ويجري في بلد تمزق، وهو بأشد الحاجة اليوم ليأتي سينمائيوه ويراجعوا بلغة السينما ما جرى حقا دون انحيازات، وبترك مسافة بين صانع الفيلم والحدث، وهذا ما فعلته ميسون بذكاء وصدق.

في بقية الأقسام المرأة حاضرة كسينمائية وموضوع، وبسببها تركت بصمة أنثوية على مجمل الدورة الـ43.

“أسبوع النقاد الدولية”.. أفلام عالمية عالية المستوى

ثمة فوارق عدة ملحوظة بين مستويات مسابقات الدورة، فالمسابقة الدولية شكت من بعض الهوان، وربما يعود ذلك إلى استحواذ مهرجاني “البحر الأحمر” و”الجونة” على أهم الأفلام الفائزة في مهرجانات دولية كبيرة، ومع ذلك لم تخلُ هي من بعضها، بينما برزت أعمال مهمة، ربما تعد اكتشافات في مسابقة “آفاق السينما العربية”، مثل “فياسكو” للبناني نيقولا خوري الذي حصل على تنويه خاص ضمن مسابقة أفضل فيلم عربي.

 

أما قسم “أسبوع النقاد الدولي” فقد ازدحم بأفلام عالمية ذات مستوى رفيع، والفيلم العربي الوحيد فيه هو فيلم “الغريب” للمخرج أمير فخر الدين، وقد حصل على جائزة أفضل فيلم عربي في الدورة، ومثلها عرضت روائع في “البانوراما الدولية”، لعل من بين أهمها فيلم الكردي العراقي شوكت أمين كوركي وعنوانه “الامتحان”، ووجوده في الدورة يعد تميزا لها لطبيعته كفيلم من كردستان العراق.

يتناول الفيلم بشجاعة الفساد المستشري فيها من خلال متلاعبين منتفعين يشجعون على الغش في الامتحانات النهائية، مما يؤدي إلى خسارات مؤلمة لا يشعرون بها، بل يتعاملون معها بخفة تدل على قلة قيمة الإنسان عندهم، وتقل قيمة المرأة بشكل خاص حين يستشري الفساد.

“ثم يحل الظلام”.. غابة ومخرّبان وشجرة كبيرة ميتة

الجيد في مسابقة “الأفلام القصيرة” قليل باستثناء بعض المحاولات، ولعل من بين أحسنها فيلم للمخرجة اللبنانية ماري روز أوستا عنوانه “ثم يحل الظلام”، ويتفرد بتناوله موضوعا يتعلق بتخريب الطبيعة وتدميرها من خلال حكاية موجزة تنقل مشهدا لسيارة تحمل رجلين، وبسرعة يقطعان شجرة كبيرة من غابة، ولعجزهم عن نقلها بسيارتهم يتركانها على الأرض ميتة.

الاشتغال السينمائي بارع مكثف والتصوير جميل، يجعل من النص القصير منجزا مهما استحق عليه جائزة لجنة التحكيم الخاصة مُناصفة مع الفيلم الوثائقي المصري “ولا حاجة يا ناجي.. اقفل”.

لقطة من فيلم “ثم يحل الظلام”للمخرجة اللبنانية ماري روز أوستا، والذي يحكي عن تخريب الطبيعة وتدميرها

 

وعلى المستوى الوثائقي ظل مستوى أفلامه مقاربا لمستوى أفلام الدورات القليلة التي سبقته، فالجيد العربي فيها قليل يتقدم عليه الأجنبي بمسافة كبيرة. لكن كثرة ما فيها من تميّز وابتكار ومحاولة لتجاوز سلبيات الدورات السابقة تجعل من الدورة الـ43 واحدة من أفضل دورات مهرجان القاهرة السينمائي خلال العقد الأخير من عمره.

جوائز المهرجان.. غلبة المحتوى الأجنبي على العربي

حصل الفيلم المكسيكي “الثقب في السياج” على جائزة الهرم الذهبي، بينما حصد الهرم الفضي الفيلم الإيطالي “جسد ضئيل”، وحصل الفيلم الكوري الجنوبي “انطوائيون” على جائزة الهرم البرونزي.

وضمن المسابقة الدولية فاز بجائزة الجمهور (جائزة يوسف شريف رزق الله) الفيلم الأردني “بنات عبد الرحمن”، وفي المسابقة نفسها فاز الروائي الكولومبي “إنهم يحملون الموت” بجائزة هنري بركات، كما فاز فيلم “107 أمهات” بجائزة نجيب محفوظ لأفضل سيناريو.

 

ذهبت جائزة أفضل تمثيل لبطلة فيلم “كيارا” الإيطالية “سوامي روتولو”، أما أفضل ممثل فحصل عليها المصري محمد ممدوح عن دوره في فيلم “أبو صدام”، كما نال فيلم “الغريب” لأمير فخر الدين جائزة شادي عبد السلام لأفضل فيلم عربي، وحصل “فياسكو” اللبناني على تنويه خاص ضمن مسابقة أفضل فيلم عربي، بالإضافة إلى جائزة صلاح أبو سيف ضمن مسابقة “آفاق السينما العربية”.

وحصل فيلم “قدحة” على تنويه خاص ضمن مسابقة “آفاق السينما العربية”، كما حصلت الممثلة التونسية “عفيفة بن محمود” في نفس المسابقة على جائزة أفضل أداء تمثيلي، بينما ذهبت جائزة أفضل فيلم غير روائي إلى المصري “من القاهرة”، فيما ينال “دفاتر مايا” جائزة سعد الدين وهبة، وذهبت جائزة “فيبريسي” للتونسي “غدوة” من إخراج ظافر عابدين.

ومنحت لجنة التحكيم الخاصة جائزة أفضل فيلم قصير وزعت مناصفة بين فيلم “ثم حل الظلام” وفيلم “ولا حاجة يا ناجي.. اقفل”، أما جائزة يوسف شاهين لأحسن فيلم قصير فذهبت لفيلم “نقطة عمياء” للمخرج لطفي عاشور.