جوائز سيزار الـ46.. كآبة تُخيّم على أفضل الأفلام الفرنسية

ندى الأزهري
قبل أيام قليلة من تنظيم حفل جوائز السينما الفرنسية بنسخته الـ46 والمعروفة بـ”سيزار” في باريس، كانت الشكوك لا تزال قائمة حول طريقة إجرائه وتحت أي شروط، فقد كان موعده السنوي مقررا في نهاية فبراير/ شباط الماضي، وتمّ تأجيله إلى 12 مارس/آذار الجاري على أمل أن يقع تغيير في سيرة فيروس كورونا، وبالتالي في الإجراءات الصحيّة المتبعة في فرنسا، كأن يعلن حجر عام، أو على العكس تعاد النشاطات الثقافية.
لكن شيئا من هذا لم يحدث، واستمر الوضع على ما هو عليه. فأقيم الحفل أول أمس على مسرح الأولمبيا الشهير في باريس دون حضور جمهور، واكتفي بالمرشحين والمكرمين وموزعي الجوائز، ولم تُدعَ الصحافة والإعلام باستثناء الرعاة.
وكانت الأكاديمية اتخذت إجراءات صحية صارمة منذ الإعدادات الأولية، فاختُصر عدد الترشيحات، وأُعلنت عبر شبكة الإنترنت بعد تعديل النظام الداخلي للمؤسسة لتتواءم مع الأوضاع الاستثنائية لعام 2020.
وتضمّ أكاديمية فنون وتقنيات السينما التي تأسست في فرنسا عام 1975 نحو خمسة آلاف عضو من العاملين في صناعة السينما الفرنسية بمختلف مجالاتها، حيث يصوّت هؤلاء كل عام لاختيار أفضل الأفلام الفرنسية، وتوزيع جوائز “سيزار” (على اسم النحات الفرنسي سيزار بالداكيني الذي صمم الجائزة). والأكاديمية جمعية غير ربحية لترويج السينما الفرنسية، ولا تعتمد على أي مساعدة من الدولة، بل تستفيد من دعم الرعاة الرسميين، ومن حقوق بثّ الحفل على محطة “كانال بلوس”، ومن رسوم اشتراك أعضائها.

أجواء كئيبة.. احتجاجات مُبالغ فيها
في حفل بارد كئيب تميز بالافتعال والتطويل، وسادته أجواء ثقيلة، كما سيطر فيه الحدث السياسي والاجتماعي والوبائي على السينمائي؛ حضر 150 مدعوا بدلا من 1700 كما كان يحصل في السابق، وحضرت معهم الكمامات، وطُبّقت قواعد التباعد، فلا مصافحة ولا عناق.
كان الحفل أيضا مناسبة للاحتجاج. لكن وإن كانت هذه تحصل غالبا في فرنسا، وهي محقّة، فإن الأسلوب كان مبالغا فيه هذه المرة. فقد عبّر معظم الفائزين ومقدمي الجوائز -إن لم يكن كلهم- عند صعودهم المسرح عن احتجاجهم على قرارات الحكومة ووزارة الثقافة لاستمرار إغلاق دور السينما منذ بداية العام، وهذا بعد سنة 2020 الكارثية، لا سيما على الصعيد السينمائي. إذ إن الصالات لم تفتح أبوابها سوى سبعة أشهر تقريبا في ظلّ ظروف تشغيل لم تكن عادية ومنتظمة إلا خلال نصف هذه المدّة.
ثم جاء الاحتجاج الأكثر مفاجأة مع خلع الممثلة الفرنسية “كورين ماسييرو” ملابسها وزيّها التنكري على المسرح، لتبرز عبارات كتُبت بالأحمر على جسدها العاري، ومنها “لا ثقافة، لا مستقبل” و”أعيدوا فتح الصالات”، ثم عند خروجها قالت ساخرة “أعتقد أنهم لن يدعوني في المرة القادمة”.
كما ألحّ الجميع على ضرورة إعادة النشاطات الثقافية وفتح دور السينما، وانتقد البعض بشدة قانونا سيخضع للتصويت قريبا يمنع تصوير رجال الشرطة خلال أدائهم لعملهم، وأثار بعض آخر قانون تأمين البطالة وتأثيره السيئ على عمّال المياومة في السينما.
“وداعا للمغفلين”.. صعوبة الحُب في عالم أعمى
ترشّح في نسخة هذا العام 125 فيلما وصل منها إلى القائمة الأخيرة 36 فيلما طويلا و9 أفلام قصيرة، وبلغ عدد الترشيحات 107 في 22 فئة، منها أفضل فيلم وإخراج وتمثيل نسائي ورجالي وفيلم أول ووثائقي، وأفضل فيلم أجنبي.
كان الفائز الأكبر هذه السنة فيلم “وداعا للمغفلين” لـ”ألبير دوبونْتل” الذي اكتسح معظم الجوائز المهمة، ونال سبع جوائز سيزار، منها أفضل فيلم وأفضل إخراج وسيناريو أصلي (دوبونتل)، وأفضل دور ثان لـ”نيكولا مارييه”، وأفضل تصميم ديكور لـ”كارلوس كونتي”، وتصوير لـ”أليكسي كافيرشين”.
والفيلم الذي أتيح له العرض قبل أسبوع من إغلاق دور السينما في فرنسا؛ استطاع أن يجذب أكثر من 700 ألف متفرج خلال هذا الأسبوع وحده. وهو الفيلم السابع لـ”ألبرت دوبونتل” الحائز على سيزار مرتين فيما سبق، وهو عبارة عن دراما هزلية ودعابة قاتمة تختلط فيها الأنواع السينمائية، ويحكي قصة ممرضة أربعينية تُدعى “فيرجيني إيفيرا”، تقرر بعد علمها بإصابتها بمرض خطير البحث عن ابنها الذي أجبرتها الظروف على التخلي عنه وهي في الخامسة عشرة من عمرها. هذا البحث يضعها في مواجهة عالِم حاسوب خمسيني مُصاب بالإحباط التام (دوبونتل)، وموظف أرشيف أعمى (نيكولا مارييه) ذو حماس منقطع النظير، ليشرع الثلاثة معا في مهمة بحث مذهلة.
يجسد الفيلم انتكاسات هذه الشخصيات التائهة في عالم معاصر يغرقهم فيه النظام بأزمات، فيما هم يتحدونها للخروج من الركود ومرارة الحياة. إنه عن صعوبة الحب في عالم قمعي أعمى.
“مراهقات”.. وثائقي يحكي قصة شباب فرنسا
أما الرابح الثاني الأكبر فكان الفيلم الوثائقي “مراهقات” لـ”سباستيان ليبشيتز”، فقد نال ثلاث جوائز من أصل خمس كان مرشحا لها، ومنها جائزة أفضل فيلم وثائقي.
هذا الفيلم الرائع جدير بجائزته كونه يتجاوز الحدود المعتادة للفيلم الوثائقي، ليقدم فيلما عميقا يقول الكثير عن فرنسا وعن شبابها وتفكيرهم وحياتهم الصعبة اليوم، وذلك من خلال متابعته لأكثر من خمس سنوات لتطور فتاتين مراهقتين في مدينة فرنسية.
كما فازت عنه بجائزة المونتاج “تينا باز” التي سبق وعملت مع المخرج اللبناني مارون بغدادي، حيث وجهت له تحية عند استلامها الجائزة.

فرنسيون وتونسي وسينغالية.. جوائز التمثيل
استحقت الممثلة “لور كلامي” جائزة التمثيل عن دورها في فيلم “إنطوانيت في جبال السيفن” للمخرجة “كارولين فينيال”، الذي أدت فيه دور معلمة تنتظر الصيف منذ شهور لتقضي خلاله أسبوعا عاطفيا مع عشيقها. لكن هذا العشيق يخلّ بالوعد، ليذهب مع زوجته وابنته إلى جبال السيفن. وتقرر اللحاق به إلى هناك، لكنها تجد بانتظارها حمارا عنيدا سيرافقها في رحلتها الفريدة. إنها ممثلة تنبض بالحيوية في فيلم كوميدي رومانسي يذهب أبعد من المتعارف عليه في هذا النوع.
كما ونال الممثل الفرنسي من أصل تونسي سامي بوعجيلة جائزة أفضل ممثل عن دوره في “بيك نعيش” لمهدي برصاوي، وهو فيلم عن الخيانة والأبوة والنسب والحب، من خلال قصة عائلة تونسية مُرفهة، وفيه يأتي اعتداء إرهابي ليكون سببا في اكتشاف الأب لما لا يسرّ.
ونالت الصبية فاتحة يوسف ( 14 عاما) سيزار أفضل أمل نسائي عن دورها في فيلم “ظريفات” للفرنسية السنغالية “ميمونة دوكريه”، والذي يجسّد بحث فتيات الضواحي عن إثبات لأنفسهن، في فيلم أثار جدلا لطريقة إظهاره الصغيرات في رقص يعتمد حركات جنسية موحية.
ونال الممثل والمخرج “جان باسكال زادي” جائزة أفضل أمل رجالي في التمثيل عن دوره في فيلمه الوثائقي الروائي “بكل بساطة أسود” الذي يدين التفكير العنصري النمطي للبيض والسود معا.
“الثمل”.. جائزة أفضل فيلم أجنبي
وحصل فيلم “الثمل” للدانماركي “توماس فنتربيرغ” على جائزة أفضل فيلم أجنبي، متفوقا على “1917” للبريطاني “سام ماندس”، و”المناولة” للبولوني “يان كوماسا”، و”مياه داكنة” للأمريكي “تود هاينس، و”عذراء أغسطس” للإسباني “خوناس ترويبا”.
وكان فيلم “الأشياء التي تُقال.. الأشياء التي تُفعل” لـ”إيمانويل موري” من أكبر الخاسرين، فهو على الرغم من تسميته في 13 ترشيحا في عدة فئات منها أفضل فيلم وإخراج، وجائزة أفضل تمثيل نسائي (لكاميليا جوردانا ) ورجالي (نيلس شنايدر)، لم يحصل إلا على جائزة أفضل دور ثان للممثلة “إميلي دوكن”.
وكان بعض النقاد في فرنسا قد اعتبروا الفيلم الأكثر نجاحا، والأعمق والأكثر سلاسة وخفة وتألقا، وهو يحكي مشاعر الحب والضعف الإنساني في فيلم قائم على الحوار، وأجواء عرف بها المخرج موري في أفلامه التسعة السابقة.

خاسرون رائعون.. للأسف
كما خرج فيلم “صيف 1985” لفرنسوا أوزون خالي الوفاض، مع كونه مرشحا لـ12 جائزة، منها أفضل فيلم وإخراج، وأفضل أمل رجالي في التمثيل.
وكان هناك خاسرون رائعون للأسف، ومنهم فيلم “محو التاريخ” الذي أخرجه غوستاف كيرفيرن مع بونوا دولِبين الذي لم يُقدَّر من البدء حق قدره، فرشح فقط لجائزة السيناريو، لكن حتى تلك لم ينلها. يحكي الفيلم عن الإنسان في بحثه عن الحب المفقود، وتوهانه البائس في حياة معاصرة يسيطر فيها “الأخ الأكبر” المُمَثل بوسائل “التواصل” الاجتماعي.
كما غابت أفلام مبتكرة وغنية عن الترشيحات والجوائز، لكنها سنة 2020 كانت حقا كارثية حتى عند توزيع جوائزها في 2021.