“المرهقون”.. بحث عن الإجهاض في اليمن لزوجين أرهقتهما الحرب
كثيرة هي الأفلام التي تتناول موضوع المرأة والحمل والإجهاض وسط ظروف اجتماعية شاقة وواقع محفوف بالأخطار، مما يجعل المرأة ضحية تواجه بمفردها مصيرا صعبا، خصوصا في مجتمع منغلق متشدد دينيا واجتماعيا.
هذا الموضوع يتناوله في رصانة ورقة، مع التزام صلب بالواقعية الوثائقية؛ الفيلم الروائي الطويل الثاني للمخرج اليمني عمرو جمال، وهو من إنتاج يمني سعودي مشترك، وقد عُرض في برنامج بانوراما بمهرجان برلين السينمائي الماضي، وهو يقوم على قصة حقيقية وقعت أحداثها في مدينة عدن في جنوب اليمن.
لقد سبق أن شاهدنا موضوع الإجهاض أو المرأة التي تضطرها الظروف إلى إجراء عملية إجهاض رغم القيود المفروضة على ذلك في كثير من الأفلام العربية، لكن في سياق ميلودرامي كان يمتلئ عادة بالمبالغات والمشاهد الصادمة، أما فيلم “المرهقون” فيبدو بعيدا كل البُعد عن الميلودراما، بل يسير في سياق الدراما الخافتة التي ترصد وتحلل وتتخذ من الفكرة الأساسية مدخلا إلى رصد الكثير من الجوانب التي تتعلق بالواقع الحالي في اليمن، من خلال علاقات ومواقف شديدة الصدق.
إسراء وأحمد.. زوجان أرهقتهما الحرب وغلاء الأسعار
تدور الوقائع التي يصوّرها الفيلم في عدن عام 2019، حيث إسراء متزوجة من أحمد ولديها منه ثلاثة أبناء، والآن أصبحت حبلى من جديد بطفل رابع، نتيجة سهو أو خطأ أو إهمال في استخدام موانع الحمل -كما نعرف من سياق الفيلم- لكن ما العمل وقد ضاقت ظروف الحياة، وأصبحت شبه مستحيلة أمام هذه الأسرة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى؟
الزوج الأب أحمد فقد عمله مؤخرا كموظف في التلفزيون، كما أنه لم يقبض راتبه عن الأشهر الأخيرة، وكلما ذهب للسؤال عن مستحقاته، يتلقى الجواب نفسه: ليس بعد. الظرف السياسي جعل العيش شبه مستحيل، مع اشتعال المعارك الضارية في خضم الحرب الأهلية التي تشهدها البلاد منذ سنوات، والظرف الاقتصادي يلقي بثقله على كاهل الناس، مع انهيار العملة وارتفاع التضخم، وغلاء الأسعار.
نتيجة لهذه الظروف يصبح أحمد مضطرا للبحث عن مسكن آخر، أدنى وأقل مستوى من المسكن الذي يقيم فيه مع أسرته، وهو يقبل بالفعل الانتقال إلى مسكن لا يكاد يصلح للسكن، مطلوب منه أيضا إدخال إصلاحات عديدة عليه، لكن ما العمل وقد أصبح يعتمد الآن على ما يجود به عليه أصدقاؤه وأقاربه من مساعدات وقروض مالية لحين ميسرة.
منى الطبيبة.. منقبة متشددة ترفض إجراء العملية
تشعر إسراء بالأسى، وترفض بكل حسم إخراج ابنها الأكبر نوار (قام بالدور عمرو الياس) من المدرسة الخاصة، بسبب عدم القدرة على دفع المصروفات التي قفزت فجأة أيضا، أما أختها فتعدها بتولي تكاليف تعليم نوّار، لكن المشكلة الكبرى هي أن إسراء وزوجها يرغبان في التخلص من الجنين الذي لم يكمل بعد ستة أسابيع، رغم أن إسراء نفسها تتردد كثيرا في البداية في القبول بهذه الفكرة لأنها تراها “جريمة” في حق طفل لم يولد بعد.
من هنا تنشأ تساؤلات كثيرة حول مسؤولية الآباء عن الأبناء الذين أتوا بهم إلى هذا العالم، وما إذا كان التخلص من طفل لم يولد بعد يمكن اعتباره شيئا مشروعا من أجل توفير حياة أفضل للآخرين؟
تتمثل المشكلة الأخرى في صعوبة العثور على طبيب يقبل إجراء مثل هذه العملية، وهو ما يستعرضه الفيلم من خلال مشاهد مختلفة، وبينما تبدي الطبيبة منى صديقة إسراء تعاطفا كبيرا معها، فإنها -وهي المنقبة المتشددة دينيا- ترفض رفضا قاطعا إجراء مثل هذه العملية، رغم ما يتردد عن وجود “فتاوى” تبيح الإجهاض خلال المرحلة الأولى، أي قبل أن يصبح للجنين روحا كما يقال.
وعندما ينجح أحمد في العثور على طبيبة أو ممرضة تقبل إجراء العملية سرا في المنزل بغرفة نوم الزوجين، أي في ظروف تتصف بغياب أي إمكانيات طبية ملائمة؛ تقتحم الطبيبة المنقبة منى الشقة فجأة، وتوقف هذه العملية التي تراها خطرة على صديقتها.
من هنا يلمح الفيلم إلى احتمال تغير موقفها من إجراء العملية، وهو ما يستغرق بعض الوقت، بين التفكير والمراجعة الدينية والاستماع لشرائط بعض الشيوخ الذين يفتون بجواز الإجهاض في بداية الحمل.
دموع الاعتذار.. مشهد صادق يجسد نبل الشخصية
من الواضح أن الرغبة في التخلص من الجنين الذي جاء نتيجة إهمال في استخدام العازل الطبي، نشأت أساسا نتيجة تردي الأحوال المعيشية لأسرة أحمد، أي بدافع اقتصادي، بينما الصورة التي يقدمها الفيلم لأحمد هي صورة رجل متحضر ومتعلم، يناقش بكل وضوح رؤية الفكر السائد الذي يريده أن يقبل بالطفل الرابع، سواء بدعوى أن الأطفال نعمة من الله، وأن رزقهم يأتي معهم، أو أنه من الحرام التخلص من الأجنة، وغير ذلك من المبررات القوية، حتى من بين المطلعين أكثر من غيرهم على الظروف القاسية التي تعيشها أسرة أحمد، والتي يتخذها الفيلم نموذجا مصغرا للواقع الأكبر في اليمن.
تراكم الضغوط النفسية يدفع أحمد إلى أن يدفع إسراء بيده خلال مناقشة حادة بينهما، وهو ما يغضبها ويجعلها تحتج وتوبخه كثيرا، لكن أحمد -وهو نموذج للرجل اليمني العصري المتحضر- يعتذر مرة ومرتين وثلاث مرات في صدق شديد، معربا عن شعور حقيقي بالندم، وعندما تستمر في توبيخه لا يخجل من البكاء أمامها.
ونحن نرى هذا المشهد في تلقائية مثيرة للإعجاب من جانب الإخراج والأداء، فهناك براعة في التحكم في المشاعر من دون مبالغة أو إفراط. والمشهد مُصاغ بمنتهى الرقة، ويعكس النبل الكامن في الشخصية، ويمكن القول أيضا إن من مزايا هذا الفيلم بشكل عام أنه يقول لنا في صدق ووعي، إنه على الرغم من قتامة الصورة العامة، فإن هناك أيضا شخصيات أخرى كثيرة تجسد التآخي والتساند الإنساني، من خلال ما تقدمه من دعم ومساندة لأحمد وإسراء في محنتهما.
فالفيلم يبتعد عن تلك الصورة السوداء التي لا ملمح للأمل فيها، رغم أنه لا يغفل عن الإشارة إلى الفساد الموجود داخل المستشفيات، من الرشوة والتحايل والبيروقراطية والتدخل الفظ في الحياة الخاصة للآخرين.
بطولة المكان.. لقطات ثابتة تغوص في حيرة الشخصيات
إنني أعتبر هذا الفيلم فيلما ثوريا حقيقيا، بمعنى أنه يجترأ على خدش القشرة السائدة العتيقة السائدة في اليمن، خصوصا تلك التي تتعلق بالعلاقة بين الرجل والمرأة، وفي مواجهة موضوع يمس حياة الأسرة، ويلمس ما هو مستقر من مفاهيم تتعارض مع الفهم الحقيقي للدين وللعلم.
كما يتميز الفيلم بشجاعة كبيرة في تصوير الواقع دون مباشرة فجة، ودون مبالغات مفتعلة، في سياق لا يخلو من مناظر متعددة للبيئة والمحيط والأماكن، فنحن نشاهد الإنسان دائما في إطار المكان، حيث شوارع عدن والبحر والبيوت المدمرة بفعل الحرب.
يختار المخرج عمرو جمال في براعة اللقطات الثابتة التي تتيح لنا التأمل في حيرة تلك الشخصيات المعذبة، مع استخدام زوايا التصوير التي تتيح الجمع بين الشخصيات والمكان، بحيث يمكن القول إن المكان في الفيلم (أي مدينة عدن نفسها) تلعب أيضا دور البطولة في هذا الفيلم المثير للشجن والأسى، الذي يستدرجك من خلال سيناريو محكم ومحبوك إلى قلب موضوعه، ثم في تداعياته، لكي تخوض مع إسراء وأحمد تلك الرحلة المضنية داخل متاهات الواقع، بحثا عن الخلاص بالمعنى الاجتماعي.
ورغم الصورة القاسية التي يقدمها الفيلم للواقع بشكل عام، فإن الكاميرا ترصد أيضا في براعة التناقض بين جمال الطبيعة وبين الواقع المتدني، والدمار الذي صنعه الإنسان في صراعه الأحمق من أجل السيطرة، بغض النظر عن انعكاس هذا الصراع على حياة الناس العاديين الذين يريدون أن يعولوا أبناءهم ويوفروا لهم حياة كريمة.
أداء الممثلين.. سحر يحمل القصة إلى قلب المُشاهد
إننا نرى في صورة ملموسة تماما ترجمة لمعنى شظف العيش، حيث تراجع القدرة على شراء المأكولات الأساسية، والطعام المقتصد الذي لا يكاد يكفي أفراد الأسرة، والاستغناء عن الكثير مما كان يتمتع به الأطفال، ثم اضطرار أحمد للعمل سائقا لحافلة، والمشاكل الكثيرة التي يصطدم بها خلال عمله اليومي (وهو جانب يجعل الفيلم يميل أيضا لأن يصبح أحد أفلام الطريق ويمنحه الكثير من الحيوية).
ثم نرى كيف أصبح العبء الاقتصادي ينعكس على الركاب الذي يتعامل معهم، حيث نفاذ الصبر والتوتر المحموم وقوة من الجيش لا تتورع عن الاصطدام بمؤخرة سيارة الميكروباص وتدميرها، ثم تختفي دون أدنى شعور بالمسؤولية، وهو ما يجعل أحمد مسؤولا عن إصلاح السيارة من مال لم يعد يملكه.
لم يكن الفيلم ليأتي على كل هذا الجمال والرونق والسحر الذي يستولي على المشاهدين من دون ذلك الأداء البديع من جانب الممثلين الذين قاموا بالأدوار الرئيسية، وهم خالد حمدان في دور أحمد الذي يحاول النجاة بأسرته من واقع أليم دون أن يفقد الحب والتساند، وعبير محمد في دور إسراء التي تبحث عن حل لمشكلتها التي ستلقى بظلال قاسية على أسرتها، وسماح العمراني في دور منى الطبيبة التي تتردد كثيرا، وترفض القيام بعملية الإجهاض ثم تراجع نفسها، لتغلبها مشاعرها الإنسانية في النهاية.
عمرو جمال.. مخرج شاب يطرح تساؤلات فلسفية
المخرج الشاب عمرو جمال في فيلمه هذا، وهو فيلمه الروائي الثاني بعد “10 أيام قبل الزفة” (2018)؛ ينجح في صنع عمل واقعي يفيض بالتعليق الشعري على الواقع، دون أن يخلو من تساؤلات فكرية وفلسفية، من خلال إضاءة شاحبة قاتمة تعكس الجو العام، مع لقطات محكمة ذات تكوينات موحية، سواء تلك التي تدور داخل السيارة، أو خلال ذلك البحث الشاق المعذب من أجل التحايل على ظروف الحياة الشاقة.
ولا شك أن الصورة الممتازة من ناحية الإضاءة والتكوين، توفرت للفيلم بفضل مساهمة مدير التصوير الهندي “ميرينال ديساي” الذي صوّر الفيلم البريطاني الشهير “مليونير العشوائيات” (Slumdog Millionaire) عام 2008.
لم يكن غريبا أن يفوز الفيلم بجائزة منظمة العفو الدولية “إمنستي إنترناشيونال”، وقدرها خمسة آلاف يورو في مهرجان برلين، كما تقاسم جائزة الجمهور لأفضل فيلم لأفلام عرض في مسابقة “بانوراما” بالمهرجان نفسه.