المهرجان الدولي للسينما في الصحراء.. حنين الفن السابع إلى سحر الصحراء التونسية
أن تقضي أياما وليالي في قلب الصحراء التونسية، وتكون محاطا بالرمال مظللا بسعف النخيل وعراجين التمور التونسية، يعني أنك تعيش الحلم بالألوان الطبيعية في الصحو والمنام.
وأن تعيش في مكان يبعد عن أقرب نقطة حضرية أكثر من 150 كيلومترا، بينما تشاهد أفلاما سينمائية ممددا على كثبان الرمال، تحرسك نجوم الصحراء التي لا تشبه نجوم المدينة، فهذا يعني أن الحلم تحقق.
في عمق الصحراء التونسية، حيث الهدوء والجمال والبهاء، سعى القائمون على المهرجان الدولي للسينما في الصحراء في دورته التأسيسية إلى أن يجعلوا الحلم واقعا، بالسهر على أدق التفاصيل، حتى على مستوى أثاث سهرة الافتتاح، وبقية السهرات التي شهدت عرض الأفلام والعروض الموسيقية، وغيرها من الفعاليات التي أثثت أيام المهرجان.
انطلاقة راسخة لمهرجان وُلد كبيرا
لم يكتفِ المنظمون بتوفير الأثاث الصحراوي البدوي الأصيل ليسرح الخيال بعيدا وعميقا، بل إن الاحتفاء توسع حتى يشمل الأضواء التي كانت موظفة بشكل بديع جدا، ساهم في جمالية المشهد العام للواحة. كل ما صاحب فعاليات المهرجان كان يشي بدورة استثنائية، وينبئ بانطلاقة راسخة لمهرجان وُلد كبيرا.
لم يُخفِ مؤسس المهرجان المخرج التونسي حافظ خليفة سعادته بتحقق الحلم ونجاح المغامرة، وقال في حديث خص به الجزيرة الوثائقية: نحن إزاء مشروع ثقافي أكثر من مجرد تنظيم مهرجان، عملية النحت والرجوع إلى الصحراء والعمل على نشر الثقافة المسرحية أو السينمائية والوصول إلى فك العزلة عن الصحراء انطلقنا فيها منذ سنة 2021.
وبعد نضج هذه التجربة، لا يكفي الحلم، ولا بد من التمرس على إدارة المهرجان، ولا يكفي أن تكون فنانا، بل يجب أن تكون مديرا أيضا بكل ما للإدارة من الثقل المالي واللوجستي والشراكات وغير ذلك، مما يساهم في نجاح أي تظاهرة.
“أن نعيد لها بهاءها الصحراوي”
قد تتساءل لمَ اختار المنظمون منطقة نائية هجرها أهلها، وتفتقر لكثير من المرافق الحياتية، كالربط بشبكة الكهرباء مثلا، والمياه الصالحة للشرب، وشبكات الهاتف والإنترنت؟
وسؤال المكان جائز قطعا بل يجب أن يطرح، والإجابة أن هذا المكان من الناحية الجغرافيا منطقة سياحية بامتياز، تتوسط الجنوب الشرقي لتونس بين أربع محافظات، وذلك ما يعطيها ثراء وجمالا ببعدها عن المناطق الحضرية، وامتدادها في الصفاء البيئي والروحي، إنها واحة بهية تحيطها كثبان الرمال من كل جانب، فهي أشبه بجزيرة في قلب الصحراء.
قال مؤسس المهرجان حافظ خليفة: بما أن السينما هي الصورة، طرحنا السؤال التالي: كيف نجعل الصحراء وجهة سياحية؟
فهدفنا أن نعيد لها بهاءها الصحراوي، ونحن نعلم أن الجنوب التونسي في الثمانينيات والتسعينيات كانت مقصدا للمنتجين العالميين، من ذلك تصوير فيلم “حرب النجوم” (Star Wars) و”المريض الإنجليزي” (The English Patient)، وحتى “فرانكو زيفريلي” (مخرج إيطالي) فقد صوّر عددا من أعماله فيها.
وقد ابتعد الجميع في السنوات الماضية، من أجل ذلك برمجنا ندوة تناقش طرق عودة المنتجين التونسيين والعالميين للصحراء التونسية.
فالصحراء التونسية ليست رمال الصحراء فقط، بل هي شلالات تمغزة وشط الجريد وجبال بني خداش، وواحات نفطة وشنني، وبحيرات العين السخونة، وقصور تطاوين، ومغاور مطماطة الجبلية والدويرات وغيرها، بما يعطي إمكانيات كبيرة ومفتوحة للمنتجين وصناع السينما لإنجاز أعمالهم.
يعمل المهرجان الدولي للسينما في الصحراء على بعدين متوازيين، هما السينما والسياحة، وكلاهما يصبان في هدف واحد، ألا وهو جعل الصحراء التونسية قبلة لصناع السينما والمنتجين من تونس ومن العالم كما كانت سابقا، أي إعادة الروح فيها وتأسيس أستوديوهات سينمائية مفتوحة، مع ما سيوفره ذلك من جعلها وجهة سياحية ثقافية بامتياز.
أفلام متنافسة من القارات الثلاث
استقبل المهرجان عشرات الأفلام من دول عدة، واختارت لجنة الانتقاء 22 فيلما من 16 دولة.
وعن شروط اختيار الأعمال، قال رضوان العيادي عضو لجنة الانتقاء: اختيار الأفلام مسؤولية كبيرة، وأنا شخصيا أراها ممتعة وصعبة، فقد استقبلنا 178 فيلما من أكثر من 40 دولة، واختيار 22 فيلما فقط يدخل في التركيز على الجودة، وفي النهاية وقع الاختيار على 6 أفلام تونسية، ومثلت البقية ثلاث قارات هي آسيا وأفريقيا وأوروبا.
وفي ختام المهرجان أقيم حفل قدمت فيه المطربة التونسية روضة عبد الله عددا من الأغاني، فضلا عن عرض لمغني الراب “غرمول”، ووُزعت الجوائز على الفائزين في مسابقات الشباب التي انتظمت في إطار مخيم السينمائيين الشبان.
نتائج المسابقة الرسمية.. أعمال مستطرفة من أرجاء العالم
في الحفل أعلنت لجنة التحكيم نتائج المسابقة الرسمية، وهي برئاسة الفنان صالح الجدي، وعضوية الناقدة نايلة الغربي، والمخرجين عبد العزيز الحفظاوي، وحمدي الجويني، ومروان الطرابلسي.
آلت جائزة وردة الرمال الذهبية لفيلم “هم آواز” (Hum Awaaz) للمخرجة زينب يونس من باكستان، ونال الفيلم التونسي “حواء” للمخرجة هالة البرقاوي جائزة وردة الرمال الفضية.
أما جائزة وردة الرمال البرونزية فكانت من نصيب فيلم “21 سبتمبر” للمخرج “رحمان بورهاني” من إيران، وأسندت جائزة لجنة التحكيم لفيلم “صوب الضوء” للمخرج قاسم إسطنبولي من لبنان، وظفر فيلم “ليلة بيضاء” للمخرج عصام تعشيت من الجزائر بتنويه خاص.
وحول المقاييس التي اعتمدتها اللجنة لمنح الجوائز، قال الفنان التونسي صالح الجدي: نحن في دورة أولى، وتعاملنا مع أفلام لطلبة وهواة ومحترفين في ذات المسابقة، وطلبنا أن تنقسم المشاركات في الدورات القادمة إلى 3 أقسام أو فروع، واعتمدنا أساسا على طرافة الفكرة والمعالجة الفنية على مستوى السيناريو، وأيضا على مستوى اللغة السينمائية ومكونات الصورة.
“عدسة الصحراء”.. صناعة القصص التي تعكس ثقافة المكان
راهن المهرجان في دورته التأسيسية على الشباب، وجمع المولعين منهم بالسينما والصورة في رحاب ورشات، شملت جوانب من صناعة السينما، أمّنها مخرجون وممثلون، وقد انتظمت كلها تحت الخيام الصحراوية.
فقد قدم المخرج التونسي مروان الطرابلسي ورشة “التصوير الفوتوغرافي: عدسة الصحراء”، وأطّر فيها عددا من الشباب، وقدم لهم توجيهات وملاحظات حول التقنيات الأساسية للتصوير الفوتوغرافي، مع التركيز على التقاط المناظر الطبيعية والألوان الغنية والمشاهد الصحراوية الساحرة، انسجاما مع روح المهرجان، وشجع المشاركين على تطوير رؤيتهم، واتخاذ الكاميرا أداة لنقل جمال الصحراء وعمقها، وكيفية استخدام الضوء الطبيعي والظل لخلق صور تنبض بالحياة.
كما أتاح الطرابلسي الفرصة للمشاركين، لتعلم كيفية تجسيد القصص البصرية، التي تبرز تفاصيل الحياة اليومية وثقافة المكان.
“سيني موبايل”.. سينما عصر الهواتف الذكية
قدم المخرج السينمائي التونسي حمدي الجويني ورشة “سيني موبايل” التي تناولت موضوع السينما والمناخ. وخلال الورشة ركز على كيفية استغلال الهواتف الذكية، لإنتاج أفلام قصيرة وهادفة، تتناول قضايا المناخ والتغير البيئي.
كما شجع المشاركين على اكتساب المهارات التقنية اللازمة، لتصوير الأفلام وتحريرها بهواتفهم الذكية، وسلط الضوء على كيفية نقل الرسائل البيئية بشكل إبداعي مؤثر، فضلا عن شرح أهمية دور السينما في التوعية بالقضايا البيئية، ملهما الشباب والمبتدئين لاتخاذ السينما أداة لتسليط الضوء على القضايا التي تؤثر على كوكبنا.
وأطّر المخرج التونسي عبد الله يحيى -وهو مختص بصناعة الأفلام الوثائقية- ورشة “صناعة الفيلم الوثائقي”، فقدّم توجيهات قيّمة للمشاركين، استنادا إلى “تجربته العميقة ورؤيته الخاصة لهذا النوع من السينما”.
وقد ركز على أساسيات صناعة الفيلم الوثائقي، بدءا من البحث والتخطيط إلى التصوير والمونتاج، كما ناقش أهمية السرد الصادق، وضرورة احترام الموضوعات التي تُتناول، بالإضافة إلى كيفية بناء الثقة مع الشخصيات، وتوثيق اللحظات بحساسية عالية.
“ورشة السيناريو”.. أساليب بناء الحبكة واللمسة الفريدة
سيّر المخرج السينمائي والتلفزيوني التونسي عبد الحميد بوشناق “ورشة السيناريو”، وفيها “قدم دعما كبيرا للمشاركين، وشجعهم على الغوص في تفاصيل كتابة السيناريو بأسلوب فني مميز”.
وخلال الورشة، حرص بوشناق على توجيه المشاركين، مقدما نصائح عملية حول بناء الحبكة، وتطوير الشخصيات، وأهمية إضفاء الطابع الشخصي واللمسة الفريدة على السيناريو.
كما شاركهم تجاربه وتحدث عن كيفية تحويل الأفكار المبدئية إلى قصص مكتوبة تنبض بالحياة، مما ألهم الكتاب الناشئين على التفكير خارج القوالب التقليدية، وساعدهم في العثور على أصواتهم.
“الممثل أمام الكاميرا”.. تقنيات التجسيد في وجه العدسة
كانت الممثلة التونسية سهير بن عمارة حاضرة في المهرجان، من خلال الإشراف على ورشة “الممثل أمام الكاميرا”، وقد وجهت المشاركين وسلطت الضوء على التقنيات الأساسية للتفاعل أمام الكاميرا، مثل إدارة التعبير العاطفي، وفهم لغة الجسد، والتحكم في الأداء تحت توجيه الكاميرا.
واستندت بن عمارة في تأطيرها إلى تجربتها، مما ساهم في “إلهام المشاركين، ونقل خبراتها بشكل عملي فعال”. وتضمنت الورشة أيضا نقاشات حول تحديات العمل في مجال التمثيل، وكيفية بناء هوية فنية قوية ومميزة.
نقاش حول السينما في الصحراء
أدار الممثل المسرحي والسينمائي التونسي معز القديري ورشة حضرتها نخبة من الوجوه الفنية والسينمائية، إلى جانب عدد كبير من الشباب الشغوفين بعالم التمثيل والسينما.
وقد قدم القديري رؤى معمقة حول تقنيات التمثيل وأهمية التحضير للشخصيات، كما شارك تجاربه في تطوير الأداء أمام الكاميرا، مما ألهم الحاضرين وساعدهم على فهم أبعاد التمثيل الاحترافي، وشهدت الجلسة تفاعلا كبيرا وحوارا مفتوحا بينه وبين المشاركين.
وحول السينما والصحراء، انتظمت جلسة تفكير شارك فيها عدد من صناع السينما والصحفيين والنقاد والمولعين، ودار حوار طويل دام عدة ساعات حول حضور الصحراء في الأعمال السينمائية التونسية والأجنبية، فضلا عن استغلال الصحراء فضاءً للتصوير، والعمل على إعادة المنتجين وكتاب السيناريو والمخرجين إلى أحضان الصحراء التونسية، التي توفر إمكانيات واسعة لتصوير أعمال عالية الجودة.
كما تحدث المشاركون في الجلسة الحوارية عن ضرورة أن تعمل الدولة التونسية على توفير تشريعات وقوانين، تيسر العملية السينمائية، وتسهل عمل صناع السينما.
“السامور الشعبي”.. سهرات تعكس ثقافة الجنوب التونسي
يعد “السامور الشعبي” في الجنوب التونسي مناسبة ثقافية واجتماعية، تقام عادة في الأعياد والمناسبات، وتعد هذه السهرة تجسيدا للتراث الشعبي، فتقدم فيها الموسيقى الشعبية، والرقصات التقليدية، والأغاني التي تعكس هوية المنطقة الثقافية.
كانت سهرات “السامور” فرصة للمشاركين من كل الأعمار، للمشاركة في الرقص على أنغام “الطبل” و”الزكرة” في أجواء احتفالية، مع تجربة بعض الأطباق التقليدية الخاصة بالصحراء، مما ساهم في “تعزيز روح التواصل والتفاعل الاجتماعي بين المشاركين”.
وهي فرصة أيضا لإبراز بعض الخصوصيات والتقاليد المحلية، التي تقام حول النار (السامور)، وتعتمد على بقايا النخيل، لتنير ليل المولعين بالسينما والصورة والحياة.
“ترانيم الرمل”.. لوحات بصرية مستلهمة من الواقع
من الفقرات الجميلة في المهرجان، تابع المشاركون والجمهور عرضا بعنوان “ترانيم الرمل”، وهو عرض فني فريد، قدّمه الفنان التشكيلي الحبيب الغرابي، باستخدام تقنية الرمال المتحركة التي تظهر على الشاشة، ويجسد فيها لوحات بصرية ساحرة، مستلهمة من الواقع المحلي، ومما يعيشه العالم من أحداث.
يقدم العرض تجربة بصرية غنية، مع مرافقات موسيقية تزيد جمال اللوحات والمشاهد، وتروي قصصا وحكايات بلغة الرمال المتحركة، التي جعلتها أنامل الغرابي نابضة بالحياة.
قدّم المصور الفوتوغرافي التونسي نور الجلالي عملا بصريا حمل عنوان “رحلة رائد فضاء لاكتشاف الصحراء”، وهو عرض رقمي بتقنية المابنغ (Mapping) قُدّم في قلب الصحراء، حيث يقوم رائد فضاء باستكشاف “كوكب الصحراء”.
استخدم الجلالي في هذا العرض تقنيات الإسقاط الضوئي المبتكرة، لخلق بيئات افتراضية، تتفاعل مع الفضاء الطبيعي، مما أتاح للجمهور تجربة حسية ومرئية فريدة، أضافت بُعدا خياليا بديعا لرمال الصحراء وكثبانها.
إنها دورة أولى تأسيسية، انطلقت حلما وتجسدت واقعا، جمع حوله مئات من عشاق السينما والصورة والصحراء، وساهمت في تحريك مياه راكدة منذ سنوات، علّها تحرك القلوب والضمائر، لإعادة الروح في قطعة من الجنة كاد يلفها النسيان.
وليس غريبا أن تكون الصورة محفزا ومحركا وسببا في تغيير واقع بائس والتأسيس لواقع أفضل.