مهرجان الجونة السينمائي الـ7.. أفلام تخطف الأضواء والجوائز وتنصر فلسطين والقضايا العربية
بكثرة عدد الأفلام العربية الحاصلة على جوائزها، تميزت عن سابقاتها الدورة السابعة من مهرجان الجونة السينمائي الدولي بمصر، مما يؤشر على حضور لافت للسينما العربية في الدورة الحالية، ويتمثل بنيل لبنان 4 جوائز فيها، وفلسطين 3 جوائز، إلى جانب حصول سوريا وتونس ومصر على جوائز مهمة أيضا.
ولتزامن انعقادها مع ظروف سياسية مضطربة تشهدها المنطقة، فقد كان طبيعيا أن تنعكس أوضاع الحرب في غزة ولبنان في كلمات الفائزين العرب بحفلها الختامي.
“ما بعد”.. فكرة سينمائية صادمة وفوز مستحق
ليس حصول الأفلام العربية على الجوائز مجاملة ولا تعاطفا مع صناعها جراء ما تعيشه المنطقة، بل جاء لاعتبارات فنية في المقام الأول. وأبرز شاهد على ذلك هو الفيلم الفلسطيني “ما بعد”، للمخرجة مها الحاج، فأغلبية النقاد توقعوا فوزه بالجائزة الذهبية عن فئة أفضل فيلم قصير، وذلك لقوة فكرته وحداثتها، إلى جانب اشتغالاته الجمالية المذهلة، التي تجعله من أفضل الأفلام العربية خلال العقود الماضية.
أضف إلى ذلك حساسيته العالية، وفكرته الصادمة عن فقد الفلسطيني لأولاده وأحبته، إلى درجة أنهم يتخيلون -للتخفيف من ثقلها وقساوتها- عالما موازيا للواقع في أذهانهم، يستعيدون فيه خساراتهم المؤلمة، الآتية للمُشاهد عبر قصة رجل وامرأة يتحدثان عن أولادهم وأحفادهم.
كلامهما لا يخلو من مناكفات تقليدية حول شكل التعامل مع الأبناء والأحفاد، ويبدوان في منزلهما المعزول وكأنهما يعيشان حياة عادية، لكننا نكتشف أنهما يتحدثان عن أطفال لم يكبروا ولم يتزوجوا ولم يخلّفوا لهم أحفادا، لأنهم قُتلوا وهم أطفال في غزة على أيدي قوات الجيش الإسرائيلي.
اللحظة التي يكتشف فيها المُشاهد حقيقة ما يعيشه الزوجان، تدعو للتأمل في حال الفلسطينيين تحت الوحشية التي تواجههم، ولكنها تدعو أيضا لتأمل قوة تأثير سينماهم، وتطور أساليب تعبيرها من المباشرة والخطابية، إلى الفنية الجمالية القادرة على نقل قضيتهم إلى الشاشة، بأشد التعابير السردية حساسية، الواصلة بكل محمولاتها السياسية والإنسانية إلى العالم كله.
“برتقالة من يافا”.. عناء الفلسطيني في أرض أجداده
في هذا السياق يأتي أيضا الفيلم القصير “برتقالة من يافا” للمخرج محمد المغني، وقد فاز بجائزة “نجمة الجونة الفضية للفيلم القصير”، مناصفةً مع البرتغالي “كيف استعدنا والدتنا” (How We Got Mother Back).
يبدو الفيلم الفلسطيني مهموما بحصار ابن البلد الفلسطيني في وطنه، وما تمارسه السلطات الإسرائيلية من تضييق للخناق، وحرمان من الوصول إلى أهله ومنزله.
“شكرا لأنك تحلم معنا”.. نظرة فلسطينية إلى الذات
على مستوى الفيلم الروائي الطويل، فاز فيلم “شكرا لأنك تحلم معنا” للمخرجة الفلسطينية ليلى عباس بجائزة “نجمة الجونة لأفضل فيلم روائي عربي”، مناصفةً مع التونسي “ماء العين” لمريم جعبر.
ويتأتى فوز الفيلم الفلسطيني من قوة معالجته لموضوعات تمس حياة الطبقة المتوسطة الفلسطينية ومشكلاتها، وتأتي أهميته أيضا من نظرة الفلسطيني إلى ذاته، وموقف المجتمع من قضايا المرأة، والتمييز الواقع فيه بين الذكور والإناث.
بروح مرحة ونظرة نقدية مسؤولة، تعالج المخرجة كل تلك القضايا باشتغالات جمالية لافتة بقوتها، على المستوى الكتابي والإخراجي.
مسابقة الفيلم الروائي القصير
على المستوى العربي، منحت لجنة مسابقة الفيلم الروائي القصير جائزتها لأفضل فيلم عربي للفيلم المصري “أمانة البحر” للمخرجة هند سهيل.
كما تَشارك فيلم أمير يوسف “فجر كل يوم” مع السويسري “بلا صوت” (Voiceless) في التنويه الخاص الممنوح من اللجنة.
وفاز اللبناني “مد وجزر” للمخرجة ناي طبارة بالجائزة البرونزية ضمن نفس المسابقة.
“نحن في الداخل”.. حضور وازن للوثائقي اللبناني
على مستوى الفيلم الوثائقي، حصل فيلم “نحن في الداخل” للمخرجة اللبنانية فرح قاسم بجائزة نجمة الجونة لأفضل وثائقي طويل، كما منحته لجنة مسابقة “نيتباك” للفيلم الآسيوي جائزتها، لاعتبارات وردت في كلمة رئيس المسابقة.
فقد أشاد به وبموضوعه المتناول للعلاقة الخاصة بين المخرجة ووالدها، ومحاولتها لفهم تجربته في مجال الشعر، وعلاقته بالوسط الثقافي الطرابلسي.
ومن ذلك المدخل العائلي تذهب فرح إلى العالم الخارجي في مدينتها وبلدها لبنان، لتربط ذلك الخاص بالعام، في أسلوب سينمائي بارع.
وفي نفس المسابقة فاز الفيلم المصري “رفعت عيني للسما” للمخرجين ندى رياض وأيمن الأمير بجائزة أفضل فيلم وثائقي عربي، مناصفة مع السوري “ذاكرتي مليئة بالأشباح” لأنس زواهري.
وذهبت جائزة نجمة الجونة البرونزية للنرويجي “نوع جديد من البرية” (A New Kind of Wilderness) للمخرج “سيله إيفينسمو ياكوبسن”، والفضية نالها الوثائقي البلجيكي “موسيقى تصويرية لانقلاب” (Soundtrack to a Coup d’Etat) للمخرج “يوهان غريمونبريز”.
جدل يلازم جوائز الروائية الطويلة
لكثرة الأفلام الجيدة المتبارية في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، يبدو مستغربا فوز الفيلم الفرنسي “أثر الأشباح” (Ghost Trail) للمخرج “جوناثان ميّيه” بالجائزة الذهبية، وفوز الفيلم الهندي “الفتيات يبقين فتيات” (Girls Will Be Girls) بالبرونزية.
ويبقى الاتفاق على أن اللجنة التي منحت الجوائز مكونة من عدد قليل من الأعضاء، ووجهة نظرهم لا تمثل بالضرورة وجهة نظر بقية النقاد والجمهور، شأنها شأن أي لجنة تحكيم أخرى.
تأتي الملاحظة حول الفيلم الفرنسي “أثر الأشباح” الفائز بالذهبية، مع أن كتابته مميزة وفكرته خارجة عن المألوف، في تناول آثار الحرب الأهلية السورية على المتضررين منها، ومنهم بطل الفيلم “حميد” الذي يعاني من عقدة تعذيبه في السجن.
يجسد الفيلم عملية البحث عن معذبه، حين يسمع بوجوده في أوروبا، فيسعى للانتقام منه وتقديمه للعدالة، ويشترك مع منظمة سورية سرية تتطوع لكشف الضالعين في تعذيب السوريين المعارضين، حين يشدون الرحال إلى الخارج.
ربما يتأتى الجدل من وجود أفلام مهمة غيره، تقترح قراءة بصرية للواقع خارج المألوف، كما فعل المخرج الصيني “شونغفان يانغ” في فيلمه “غريب” (Strange).
وفي هذا الإطار لا بد من الإشادة بالفيلم المغربي “الجميع يحب تودا” لنبيل عيوش، المشارك في المسابقة، وذلك لجماليات اشتغاله، ولدور بطلته في رفع مستواه.
“مشقلب”.. فكاهة ناقدة للخراب الحاصل في لبنان
يولي المهرجان جائزة “سينما من أجل الإنسانية” اهتماما خاصا، وقد حصدها الفيلم اللبناني “مشقلب”، من إخراج الرباعي “لوسيان بورجيلي”، وبان فقيه، ووسام شرف، وأريج محمود.
أربع قصص مشحونة بروح فكاهية ناقدة، تتطرق إلى الخراب الحاصل في لبنان، والمشاكل التي واجهت الناس في ظل أزمات سياسية واقتصادية ضاغطة، تجد طريقها إلى السينما باشتغالات ذكية، تختصر واقعا مريرا، لا يمكن أن يعاد صوغه فنيا وبإيجاز مثل السينما.
أما الاحتفاء السنوي بالسينمائيين فكان عربيا أيضا، فقد احتفت الدورة الحالية بمنجز الثنائي اللبناني جوانا حاجي توما وخليل جريح، وقدمت لهما جائزة “الإنجاز الإبداعي”.
الجوائز المستحدثة.. تكريمات للعاملين وراء الكاميرا
يتمثل جديد الدورة الحالية في استحداث جائزة “ما وراء الكاميرا للإنجاز الإبداعي”، وتُمنح للسينمائيين العاملين “وراء الكاميرا”، ممن يقدمون إسهامات كبيرة في مجال صناعة الأفلام، ويؤدون أدوارا حاسمة في نجاح عدد من المشاريع المهنية التي شاركوا فيها طيلة حياتهم.
وقد مُنحت الجائزة لمصممة الأزياء المصرية ناهد نصر الله، وفي مجال الموسيقى أعطيت للموسيقار أحمد الصاوي، ولمدير التصوير عبد السلام موسى.
أما مشروع “سيني جونة” للأفلام القصيرة، فهو مشروع جديد يراد به دعم صناعة السينما المصرية وصُناعها، ويتميز عن غيره بحجم جائزته، ويبلغ مجموعها أكثر من مليوني جنيه مصري.
ارتباك البرمجة وضعف لجان التحكيم.. نواقص المهرجان
من أبرز الملاحظات المسجلة على الدورة، ارتباك برمجة العروض وتداخل أوقات عرضها، مما يعني حرمان المُشاهد من فرص مشاهدة أفلام مهمة، بسبب تداخلها مع أخرى، تُعرض في نفس الوقت.
والملاحظة الأخرى هي حاجة المهرجان لاستقطاب أسماء سينمائية بارزة للجان مسابقاته الكبرى، ولا سيما مسابقة الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة، كما ينبغي الاعتناء بمواعيد العروض والالتزام بها.
كل هذا لا يتعارض مع الجوانب الإيجابية الكثيرة الأخرى، التي تجعل مهرجان الجونة واحدا من أهم المهرجانات العربية.