مهرجان الفيلم العربي بسان فرانسيسكو.. نسخة موسومة بأحزان فلسطين تتحدى ضعف الموارد

كانت الأجواء دافئة نشطة، والحوارات سلسة متناغمة بين الحضور، من الخطوة الأولى في افتتاحيّة مهرجان الفيلم العربي بدورته الـ28، وذلك بمدينة سان فرانسيسكو الأمريكيّة، الذي اختتم فعالياته في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي.

فرمزيات المقاومة الفلسطينيّة حاضرة في كوفيّة فلسطينيّة تحمل على الأعناق، وكلمة “فلسطين حرّة” منقوشة على الصدور، وخريطة للأرض المحتلة مطرزة بألوان العلم الفلسطيني، فالحضور هنا محمل بفكر المقاومة، مثل كثير من الأفلام المنتقاة للعرض هذا العام.

 “نريد أن نصنع أفلاما تغير السرديات.. نريد أفلاما تحفزنا وتلهمنا وتتحدانا”

إيلانا حديد

بدأت إقامة مهرجان الفيلم العربيّ في سان فرانسيسكو عام 1996، واستمر عاما بعد عام، لكنّ ما تبع طوفان الأقصى أثّر على الدعم المادي، فاضطرت الإدارة لتحويل الفعاليّة في العام الماضي 2023 من دور السينما إلى البث عبر الإنترنت، لكنّه عاد هذا العام الحالي بقوّة، حتى نفدت جميع تذاكر ليلة الافتتاح في واحدة من أكبر دور العرض في مدينة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا.

طوفان الأقصى.. انسحاب منظمات “تقدمية” من دعم المهرجان

قال مدير المهرجان التنفيذي “سيرج باكاليان” في حفل الافتتاح: حين حدث السابع من أكتوبر، فقدنا بعد 3 أيام شركتين من أكبر رعاتنا، ثمّ فقدنا دعم منظمات “تقدميّة”.

ولذا نصحه البعض أن لا يقيم حفل الافتتاح في “قصر الفنون الجميلة”، وقالوا لن تستطيع جذب النّاس، واقترحوا أماكن أقل تكلفة.

قصر الفنون الجميلة بـ”سان فرانسيسكو”

يقول “باكاليان”: لن أكذب عليكم، لقد كنت مضطربا، لكننا أخبرنا (من دور العرض) أن هذا هو أكبر عرض لفيلم لهذا العام. فلن نتراجع، بل سنستمر 11 ليلة، وحتى نهاية المهرجان.

وقد عُرضت الأفلام في صالات شتى، في سان فرانسيسكو وأوكلاند، كما أتيحت المشاهدات وبعض الفعاليات عبر الإنترنت.

البطيخة للتوزيع.. شركة فلسطينية تنصر القضية فنيا

اقترن اسم عائلة حديد بالأزياء والموضة، والجديد هو أنّ “إيلانا حديد” أصبحت من أبرز الناشطين الأمريكيّين، من حيث الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة، بل إنّها الآن المديرة الإبداعيّة لشركة البطيخة للإنتاج والتوزيع (Watermelon Pictures)، أول شركة توزيع ذات ملكيّة فلسطينيّة.

ساهمت الشركة في عدّة أفلام وثائقيّة عن القضيّة الفلسطينيّة، منها “العقيدة الإسرائيلية” (Israelism) الذي عُرض عام 2023، وفيلم “أزيحوا الجدار” (Walled Off) الذي عُرض عام 2024، وقد مارس اللوبي الصهيوني ضغوطا كثيرة لإيقاف عرض هذين الفيلمين.

تملك الشركة حق توزيع فيلم الافتتاح في شمال أمريكا، وهو الفيلم الوثائقيّ “الحياة حلوة.. رسالة إلى غزة” (Life is Beautiful)، المقرر عرضه في دور سينما بالولايات المتحدة في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. وهذا العمل هو من إنتاج مشترك للجزيرة الوثائقيّة، وقد حصد جائزة أفضل وثائقي في مهرجان نورديسك بانوراما 2024.

ملصق فيلم “العقيدة الإسرائيلية” الذي عُرض عام 2023

تحدثت “إيلانا حديد” في كلمة قدمت بها الشركة وفيلم الافتتاح، فقالت: نريد لأفلامنا أن تقوم بدور أكبر من مجرد زيادة التوعية. نريد لأفلامنا أن تجمعنا معا. نريد لأفلامنا أن تجمعنا لنحزن، لنضحك ولنتشارك خبرات من النوعية التي تمتد إلى حوارات أخرى وتخلق روابط. نريد أن نصنع أفلاما تغير السرديات. نريد أفلاما تحفزنا وتلهمنا وتتحدانا. ولهذا السبب فنحن في غاية الفخر بتقديم فيلم الليلة “الحياة حلوة.. رسالة إلى غزة”.

ثم قالت: هذا الفيلم هو شهادة على صمود شعب غزة والفلسطينيين. هذا الفيلم هو شهادة على هذا الصمود، مجسدا هنا في المخرج محمد الجبالي. نأمل أن يلهمنا هذا الفيلم جميعا مواصلة النضال من أجل غزة، ونأمل أن نرى محمد في فيلمه القادم، وهو يضع قدمه على أرض فلسطين المحررة.

“الحياة حلوة”.. مغترب فلسطيني أغلقت الأبواب في وجهه

هذه أول مرة يفتتح فيها مهرجان الفيلم العربي بفيلم وثائقي، منذ إطلاقه عام 1996.

يوّثق محمد الجبالي في فيلمه رحلة خرج فيها من غزّة إلى النرويج، ضمن برنامج للتبادل الطلابيّ لدراسة السينما، ثمّ قامت الحرب في 2014، وأغلق معبر رفح الذي هو البوابة الوحيدة من وإلى غزّة.

وقد حُرم من العودة إليها 7 سنوات، فعاش مبعدا تتحكم فيه عنصريّة أنظمة شتى، اجتمعت دون اجتماع على حرمان شاب فلسطينيّ من حقه في عودة كريمة لبلده، أو إقامة مقننة في بلد آخر.

تتخلل الفيلم رسائل ومكالمات هاتفيّة إلى أمّه يصبرها ويتصبر بها حتى يلقاها، فالرسالة في الفيلم موجهة إلى أمه، لكنّ العنوان يقترح عموم الرسالة، فحكاية الجبالي مميّزة في تفاصيلها، لكنّها حكاية شعب بأكمله.

“من المسافة صفر”.. حكايات الواقع القادمة من حرب غزة

عرض المهرجان عدة أفلام فلسطينية، من أبرزها فيلم “من المسافة صفر” للمخرج الفلسطيني رشيد المشهراوي، وقد تقدمت به فلسطين لمسابقة الأوسكار، وهو عبارة عن 22 فيلما قصيرا لاثنين وعشرين من المخرجين، وكلها مصورة في غزة في وسط الحرب والقصف والدمار، في وضع تهجير وجوع وخوف، ولكونهم يصورون من منطلق الأحداث سميّ الفيلم “من المسافة صفر”.

الفيلم ملهم لكل من يتحجج بقسوة الظروف في وجه إنهاء عمل، أو التقاعس عن توصيل رسالة، ففي وسط الهموم والشتات تخرج سينما واقعيّة لا تصَنُّع فيها ولا مساحيق تجميل. سينما تقلب الأفكار في رأس المشاهد، تعرض لقطات رآها في الأخبار أو على المنصات الاجتماعيّة، ممزوجة بفكرة إبداعيّة، بسلاسة تجعل المشاهد يتساءل عن الجدار الفاصل بين الواقع وبين ما بني عليه من خيال.

المخرج الفلسطيني رشيد المشهراوي مخرج أفلام “من المسافة صفر”

جميع الأفلام وجميع الأبطال خارج كل مناطق الراحة التي يمكن تخيلها، فريق من صنّاع الأفلام ليس بأيديهم إلا صلابة عقليّة ويقين بأنّ لحياتهم سببا، ولا خير فيهم إن لم يثبتوا وجودهم من خلال هذا العمل المشرق الموجع.

22 قصة معقدة في بساطتها وبسيطة في عقدتها، حكايات مؤلمة تتسرب إليها البسمة والأمل من حين لآخر، عن شعب يصر على حياة لها معنى، وقد صوّر بعضها بإضاءة الهواتف، وأما شخصياتها فهي مثل تلك التي نراها في المرآة كل يوم، لكن لديهم من القوّة النفسيّة ما مكنهم من إخراج عمل سيظل أثره في أذهان السينما العالميّة، يسجل عار العرب والغرب حول ما يحدث لأهل فلسطين الآن.

ظهر ذلك واضحا في الوجوم الذي اعتلى وجوه الجمهور في المهرجان بعد مشاهدة العمل، فقد تأثروا بقصص الحب والفراق، ولا سيما فيلم “جلد ناعم” لخميس مشهراوي، الذي يشارك إحساس طفلة فارقها النوم، بعد أن كتبت أمّها اسمها على يدها.

“إلى أرض مجهولة”.. خوف وجوع وتشريد يتلاعب بالقيم

من الأفلام الفلسطينية التي عرضها المهرجان أيضا، فيلم “إلى أرض مجهولة” للمخرج مهدي فليفل، وقد خطف الأنظار عند عرضه بمهرجان كان السينمائي 2024.

يسلط الفيلم الضوء على آثار الظلم العام على حياة الأفراد، ممثلا في بطلي الفيلم رضا وشاتيلا، والمشاق التي تواجه من أراد من الفلسطينيين حياة بعيدة عن أرضه المغصوبة، وتلاعب الخوف والتشريد والجوع والرفض بقيم بطلي الفيلم، وربما امتد ذلك إلى المشاهدين أيضا.

“عودة عائدة”.. حلم فلسطينية يمتزج رمادها بتراب بلادها

فيلم “عودة عائدة” (Aida Returns) للمخرجة كارول منصور (2023)، هو وثائقي صورت فيه حوارات مع والدتها الراحلة عائدة دجاني، وهي ناجية من نكبة 1948، وُلدت في يافا وهُجّرت مع أهلها، وكان حلمها أن تعود إليها.

بدأت كارول منصور حواراتها المصوّرة في 2007، في بداية إصابة والدتها بالألزهايمر، وكان الهدف تنشيط ذاكرتها، والتواصل معها بطريقة مختلفة. تقول المخرجة: وددت لو علمت أنّني كنت سأصنع فيلما. كنت سأسأل مزيدا من الأسئلة عن فلسطين، كنت سأتعمق في أسئلتي.

يدور الفيلم حول شعور المخرجة بمسؤوليّة تحقيق أمنيّة والدتها الراحلة، في حق العودة إلى يافا، وإن كان ذلك في صورة رماد يمتزج بتراب فلسطين.

“رحنا بس ما رحنا”.. هجرة من لبنان الذي نتركه ولا يتركنا

يضطر كثير من أبناء الدول العربيّة للرحيل عن بلادهم، لكنها لا ترحل من أفئدتهم، فكان مناسبا أن تمتد فكرة الشتات المشترك إلى لبنان، التي تقع فيها هجمات واغتيالات وتفجيرات، منها ما عُرف من وراءه، ومنها ما خُمّن فاعله، فكان فيلم “رحنا بس ما رحنا”
(We Never Left) للمخرجة لولوى خوري. الذي يدور حول اللبنانيين في الشتات، ممن غادر لبنان لكن لم يخليها. الفيلم يوصل رسالة شباب يحبون بلادهم، ويعترضون على أحوالها، ويرون أن لا سبيل لتحقيق الأحلام إلا بالتغريب.

ومن المجدول أن يعرض فيلم “رحنا وما رحنا” في مهرجان أفلام كرامة لحقوق الإنسان الذي تقام فعالياته من 5 إلى 12 ديسمبر، كانون الأول 2024 في العاصمة الأردنيّة عمان.

هذا هو العرض الأول للفيلم، وأول فيلم لمخرجته لولوا خوري، ولكن هذا لا يعني أنّها جديدة على السينما، فقد عملت في تحرير أفلام وثائقية نالت جوائز، منها “فردوس بلا شعب” (Paradise Without People) و”غبار وحجارة” (Dusty and Stones). ومن أعمالها أيضا الفيلم الوثائقي الحاصل على 16 جائزة، ألا وهو “مدينة الأشباح” (City of Ghosts).

“ميسي بغداد”.. قصة طفل تعكس نكبات الغزو الأمريكي

من الأفلام التي عرضها المهرجان الفيلم القصير “ميسي بغداد” (Baghdad Messi)، وهو من إخراج سهيم عمر خليفة.

يروي الفيلم قصة الطفل حمودي الذي يحب “ميسي” وكرة القدم، لكنّه فقد إحدى رجليه في انفجار بالعراق، ثم أبعده رفاقه عن اللعب معهم حتى لا يخسروا المباريات، فصار أمله الوحيد جهاز التلفاز المستهلك، الذي يجمعه ورفاقه لمشاهدة مباريات “ميسي” و”رونالدو”.

يحيي الفيلم -على قِصره- شبح تدمير الولايات المتحدة الأمريكيّة للعراق، وتشريد أهلها، ثم فتحها للحرب الأهليّة وللعصابات، بناء على اتهامات باطلة عن أسلحة دمار شامل وغيرها. كل هذا الدمار بدعوى إرساء الديمقراطيّة.

برنامج تكوين الطلاب.. جيل جديد من صنّاع الأفلام

عرض المهرجان كذلك الفيلم السعودي “هجّان” الذي أخرجه أبو بكر شوقي، والفيلم الجزائري “صف أول” للمخرج مرزاق علوش، و”احكيلهم عنّا” للمخرجة الأردنيّة رند بيروتي، إلى جانب عدد من الأفلام المتنوعة.

وقد أتاح المهرجان والمعهد العربي للإعلام والأفلام فرصةً لمجموعة من طلاب الثانوية والجامعة، للالتحاق ببرنامج صيفيّ عن صناعة الأفلام، كان من نتاجه مشاريع أفلام قصيرة عرضت للجمهور.

ومن تلك الأعمال فيلم وثّق فيه تنظيم طلاب المرحلة الثانويّة بمدينة أوكلاند احتجاجا خرج فيه طلاب المدينة من المدارس، منددين بالاحتلال الإسرائيلي، وبتواطؤ الولايات المتحدة في دعمه.

لجنة التحكيم.. توليفة مهنية تعكس تطور السينما العربية

تحت إدارة “سيرج باكاليان” التنفيذيّة، ومايا لبان المديرة الإداريّة، حرص المهرجان على دعوة محكمين ذوي قدر كبير من المهنيّة، من العرب أو ممن لديهم دراية بالثقافة العربيّة، ومن هؤلاء ميكو سعد، وهو مقدم برامج، وعضو في لجنة تحكيم جوائز الغولدن غلوب، وممثل حائز على جوائز ومخرج أفلام كذلك.

“النقطة العمياء” مسلسل للكاتب هادي نيكولاس ديب

ومنهم أيضا نيكولاس منصور، وهو محرر أفلام حاصل على عدة جوائز وترشيحات، وقد أشاد المهنيون بمهاراته، ولا سيما في مسلسل “كي وبيلي” (Key & Peele) وفيلم “كلا” (Nope).

ومنهم أيضا سحر جاهاني، وهي كاتبة عملت في أعمال شهيرة بهوليود، منها مسلسل “رامي” (Ramy)، ومسلسل “13 سببا” (13 Reasons Why)، كما أن لها خبرة في إخراج الأفلام القصيرة.

ومنهم كذلك كاتب السيناريو هادي نيكولاس ديب، الذي عُرف بعمله في الأعمال التليفزيونيّة، ومنها “المجند” (The Recruit)، و”نقطة عمياء” (Blindspot)، و”كيف تفلت من جريمة قتل؟” (How to Get Away with Murder).

“وداعا جوليا”.. لفتة على السودان الذي لا يأخذ حقه

اختتم المهرجان بالفيلم السوداني “وداعا جوليا” (Goodbye Julia)، وهو من تأليف محمد كردفاني وإخراجه.

ففي وسط مذابح فلسطين ولبنان، لا تأخذ السودان المساحة التي تستحقها، فكانت لفتة قيّمة أن يختتم بفيلم يذكر بمأساة شعبها.

اختتم المهرجان بالفيلم السوداني “وداعا جوليا”

حصل الفيلم حاصل على تقييم 100% على موقع التقييمات الشهير “الطماطم الفاسدة” (Rotten Tomatoes)، وهو أول فيلم سوداني يشارك في مهرجان كان للأفلام، وفاز فيه بجائزة الحريّة 2024، وكان الاختيار الرسمي للسودان في مهرجان أوسكار. وقد فاز بعشرة جوائز دوليّة في المجمل.

“نحن صامدون وسنستمر في النموّ”

اختتم المهرجان فعالياته قبل يومين فقط من الانتخابات الأمريكية التي أجريت في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، وكان من المستبعد أن يتابَع المهرجان المفعم برسائل المقاومة بمعزل عن تلك الانتخابات، فهذه أول مرة تسيطر فيها السياسة الخارجيّة على خيارات الناخب الأمريكي، وأول مرة يتودد فيها المرشحون للناخبين العرب، وهنا يبرز دور الفن والسينما.

اختتم المهرجان فعالياته قبل يومين فقط من الانتخابات الأمريكية

وقد قالت مايا لبان -وهي مديرة المهرجان الإدارية- في حفل الافتتاح: لقد عملنا شراكة مع منظمات مرموقة، تؤمن أننا ظُلمنا بسبب ما يجري الآن.

وتتحدث عن تلك الشراكات قائلة: هذه الشراكة نتمنى أن تساعد في تقديم أصواتنا، وإعادة هيكلة سرديتنا، وكيف يرانا العالم، فكلما عرضنا قصصا من بلادنا، أثرنا على الثقافة هنا وعلى الخريطة السياسيّة، لتكون أكثر عدلا معنا.

وحين سُئل المدير التنفيذي “سيرج باكاليان” عن مستقبل المهرجان، قال: نحن صامدون وسنستمر في النموّ.


إعلان