“أحلام عابرة”.. رحلة بحث عن حمامة ضالة في الأرض المحتلة

بعد أن أوشك “سيزيف” على الوصول بالحِمل الحجري إلى القمة، أفلتت قبضة يده إرثه الثقيل، فبدأ مرة أخرى دوامة الصعود المتكرر نحو الأعلى، وهكذا في ملحمة دائرية، لا تتوقف ديمومتها عن الدوران.

وكذلك حال الطفل الفلسطيني سامي، أثناء رحلة بحثه عن حمامته الهاربة من عشها، فيواصل التنقل من هذا المكان إلى ذاك، عله يمسك بأثر منها.

تُشكل هذه الرحلة العمود الفقري للفيلم الفلسطيني “أحلام عابرة”، وهو أحدث أفلام المخرج الفلسطيني المرموق رشيد مشهراوي، وقد انطلق عرضه العالمي الأول في افتتاح الدورة الـ45 من مهرجان القاهرة السينمائي.

تُرى ما الذي يجمع هذه الشخصية الإغريقية المتخيلة ببطلنا المعاصر؟

يمكن حصر الإجابة على السؤال بين جدران فكرة الفيلم العامة، التي يتكئ السرد على أرضيتها الرحبة، فلئن كان “سيزيف” يواصل الارتفاع بإصرار، بحثا عن التحرر من عبء ذنبه، فإن الأقدار تدخل سامي عنوة في خضم رحلة لا نهاية لتسلسلها الممتد والمعقد في نفس الآن.

فكل منهما يبحث عن حلمه، أولهما يدور في فلك التحرر من حجيم عذاب الآلهة، أما الآخر فيواصل ظاهريا رحلة البحث الدؤوبة عن الحمامة، بكل ما تبطنه من دلالات ورمزيات متوارية، بين ثنايا البناء السردي للفيلم.

طلب الضالة العائدة إلى موطنها.. رحلة إلى بيت لحم

يبدو مضمون فيلم “أحلام عابرة” مهموما بدلالات عميقة، فلا يقتصر على الحديث عن فلسطين دولةً وقضية على حد السواء، بل يغلف الحكاية بغشاء فكري أكبر وأعمق، يدور حول الصراع الدائم للوصول إلى مرفأ الحلم.

ملصق الفيلم الفلسطيني “رحلة عابرة”

تدور أحداث الفيلم حول الصبي سامي (الممثل عادل أبو عياش) الذي ينتظر عودة حمامته التائهة، وبحلول اليوم الثالث لاختفائها، يقرر شد الرحال إلى بيت لحم، لزيارة خاله كمال (الممثل أشرف برهوم)، بحثا عن ضالته، ظانا أنها عادت لموطنها الأصلي.

ومن رحم هذا الانتقال القصير المؤقت، تتكاثر المسافات وتستحيل إلى رحلة أطول، يكشف في محطاتها المتناثرة وشائج الداخل الفلسطيني وتفاصيله.

قد تبدو القصة تقليدية الشكل، وهذا صحيح بدرجة كبيرة، لكن ليستقيم معيار الحكم، ينبغي وضع الشكل والمحتوى على الميزان، كل منهما أمام الآخر، ومن ثم يمكن الوصول إلى رؤية متوازنة، تزيح الستار وتفصح عن المكنون المستتر بين السطور.

“أحلام عابرة”.. حكاية تدور بين قوسين سرديين

تنفتح الشاشة على اللقطات الأولى، فنرى كمال وهو يعمل في نحت الخشب، ثم ينتقل بنا السرد إلى سامي، فنراه يجدد بحثه عن الحمامة بعد استيقاظه المفاجئ من النوم، في حين تسعى أمه إلى تهدئة انفعاله المحموم بالغضب، لكن الفشل يحبط محاولاتها.

بعد ذلك ترافق الكاميرا سامي، فيخبره جاره أبو سليمان بأن الحمامة إذا تركت عشها عادت إلى مكانها الأول، وهنا تتوقد الفكرة في رأسه، وتبدأ رحلة السفر المفاجئ إلى خاله كمال، الذي أهداه إياها قبل أسبوعين.

فقد نسج السيناريو أحداثه وجعلها تدور بين قوسين؛ فكانت ضربة البداية من مخيم قلنديا بالقرب من القدس، فينطلق في طريقه إلى بيت لحم، وتبدأ رحلة البحث عن الحمامة، ومنها إلى القدس القديمة ثم حيفا، حتى يعود إلى المخيم، وعندها ينغلق القوسان معا.

أبطال فيلم “رحلة عابرة”

كل سرد دائري كهذا -معتمد على التنقل من مكان إلى آخر- لا بد أن يرافقه خيار زمني ملائم، لذا تدور الأحداث في نطاق اليوم الواحد، وبذلك يمكن تصنيف السرد الفيلمي تطبيقا عمليا على المنطق الأرسطي في الحكي.

ويعتمد ذلك على الالتزام بوحدة الزمان، وكذلك وحدة المكان الذي يخرج من محدودية الحيز الواحد، إلى رحابة الأمكنة المتعددة، لكنها لا تخرج جميعا عن حاجز الحد الفلسطيني.

سردية بصرية للهوية الفلسطينية

تنطلق الشخصيات في رحلة طويلة، لا يتعدى زمنها يوما واحدا، وخلال الرحلة تمارس الكاميرا مهامها الموكلة إليها، فتقتنص المشاهد واللقطات الحية، وذاك ركن أساسي من النسيج الدرامي للفيلم.

وكأننا نقف أمام سردية بصرية لفلسطين، تحفظ ما تيسر من الهوية الفلسطينية، المعرضة على الدوام والاستمرار لخطر النبش والإزاحة نحو الهامش.

إن أي قوام فكري مثل هذا يحتاج إلى بنيان سردي وحكائي يدعمه ويبرز مكنونه، لكن السيناريو لم يلجأ للحلول العويصة التي تستعرض العضلات السردية، بل قدم الحكاية والمغزي المراد بسرد خطي تقليدي الهيئة، يعتمد على الفصول الدرامية الثلاثة، التي يسلم كل منها الآخر في سلاسة، وصولا إلى الذروة المنتظر إشتعال جذوتها، فهل من ذروة حقا؟

أسلوب ماكر من أفلام الطريق

يدخلنا السيناريو مباشرة في صلب أحداثه، بعد تمهيد ضئيل للحجم الزمني، فالأحداث كلها تدور وتندفع إلى الأمام، في نتيجة حتمية لهروب هذه الحمامة، ويمثل هروبها الحدث المحفز المستند عليه المعادلة السردية، فهي اللبنة التي ستؤسس عليها الأحداث تباعا، مع العلم بأن المتفرج لن يكحل عينه برؤية هذا الطائر.

وهنا يكمن جواب السؤال السابق، فنحن أمام فيلم ماكر الهيئة، لا تُقاس أحداثه وفق المنطق الدرامي المعتاد، وليست له ذروة درامية بالمعنى المتعارف عليه، بل تتوالى المشاهد على أسلوب متناسق الإيقاع.

مريم ابنة كمال

فنحن أمام فيلم من “أفلام الطريق”، وذلك وفقا لمنظور الأنواع السينمائية المعترف به دوليا، فيخوض فيه البطل غمار رحلة ما، يلج بوابتها على حين فجأة، ويخرج منها محملا بإرث إنساني مكتسب. وهذا ما نراه على مدار زمن الفيلم (80 دقيقة).

ملامح الشخصيات الموزعة في زوايا الحكاية

يقحم السرد شخصياته في مساراتها المرسومة، من غير أن يقدم عوالمها أو تاريخها، لكنه يستعيض هذا الأسلوب بآخر أكثر حداثة، فتتوزع المعلومات على مسار السرد، وكلما توغلنا في الحكاية تنكشف تدريجيا ملامح الشخصيات، وهكذا تلتئم شذرات السرد، مع مرور الأحداث وتدفقها.

بعد لقاء سامي بخاله كمال، نجده متعاطفا مع إصراره لاستعادة الحمامة، فيبدآن برفقة مريم (الممثلة إيميليا ماسو) ابنة كمال رحلتهم إلى القدس القديمة، ظنا أن صاحب الحمامة القديم في تلك المنطقة، لكنها لم تهبط هناك، فعشها الأصلي في حيفا.

من هنا تنطلق أواصر السرد وتتسع، ومن هذا العمق تتضح معالم الشخصيات، وكذلك النطاق المحيط بهم، فنرى عوالمهم وحيواتهم المملوءة بشتى أنواع الحصار والخناق.

بهذه الكلمات يسهب سالم صديق كمال في وصف الشعب الفلسطيني المرابض في رحاب المدينة القديمة بالقدس، وذلك بعد أن صدر بحق دكانه الواقع جغرافيا داخل الحي الأثري أمر إزالة، وذلك لاستقدام مزيد من المستوطنين الإسرائيليين.

معاناة على طول الخط السردي

يصل بنا الفيلم إلى لب هويته الفكرية المستترة بأسوار السرد، فيبرز حياة الفلسطينيين المصبوغة بالمعاناة، من تعنت الاحتلال وغطرسته.

ولاكتمال هذه البلاغة التعبيرية، يوزع مَشاهد المعاناة على طول الخط السردي، من غير أن نشعر بإقحامها في البنية السردية، لكنه يضيفها بذكاء وحساسية، ويخرج بها من ضيق المباشرة، إلى اتساع الرمز والتأويل، وذلك ما يغلف رداء الفيلم عموما.

أبطال الفيلم يتأملون أرجاء وطنهم المحرومين منه

ترافقنا الكاميرا داخل هذه الدائرة الجهنمية من المعاناة، فنرى البداية من المخيم والجدار العازل ذي الأسوار الشائكة، ونرى جموع الفلسطينيين داخل ذلك المربع السكني الصغير نسبيا.

وعندما ينطلق سامي وحده إلى بيت لحم، نجد أن الاحتلال قد أغلق الطرق المؤدية إلى المدينة، فندخل في طرق الالتفاف والدوران، هربا من تلك القبضة الأمنية الخائفة، التي يقدمها الفيلم بأسلوبه الساخر.

تغاضي ملاك الأرض.. سكون يخفي براكين الغضب

خلال مشاهد تفتيش المعابر، تخضع كل شاردة وواردة لمجهر الشك والريبة، فلا يفلت أحد من هذا المدخل إلى ذاك، إلا بعد إعمال الفحص والتفتيش الدقيق المشوب بالرعب من كل ما هو عربي.

ولا يكتفي السرد بتقديم هذه الرؤى، بل يسهب في العمق على نحو أكثر تأثيرا، فالجنود والمستوطنون لا يتوانون عن بث ضغائنهم تجاه أهل البلدة، وما على الأصل إلا أن يخفض جناح الغيظ تجاه الفرع، فيتغاضى أهل البلدة طواعية حتى لا ينفرط عقد الغضب.

نقاط التفتيش الإسرائيلية التي تضيق على الفلسطينيين حركتهم داخل بلدهم

وهكذا يرسم السيناريو البيئة العامة للأحداث، فيجعلها مفعمة برياح الكراهية الممزوجة بالخوف من الآخر وعدم قبوله، فالفيلم يقدم شهادته عن العلاقة الحقيقية بين الفلسطينيين والإسرائليين، فالحياة ليست وردية اللون كما يتوهم بعض الناس.

يمكن القول إن الفيلم يدور حول العلاقة الملبتسة والمعقدة، بين أصحاب الأرض ومستعمريها، فالطرف الثاني من المعادلة يمارس دوره القمعي بامتياز، في حين يقبع الطرف المقابل في سكون، بانتظار ثوران بركانه الغاضب.

أشواك باقية من تاريخ قديم

مع تقدم السرد للأمام، وبيان ملامح هذه الرحلة المفاجئة، ينكشف تاريخ الشخصيات ودوافعها شيئا فشيئا، فوالد سامي أسير في سجون الاحتلال، بعد اعتراضه على نزع ملكية أرضه لصالح اليهود.

وأما كمال فهو ذو تاريخ نضالي يعمل على إخفاء رتوشه بين الحين والآخر، ولا يكشف الفيلم عن الخلاف العائلي بين عائلة سامي وكمال على جرعة واحدة، بل يزيح ستار الغموض عنه على مراحل متدرجة.

طرق التفافية طويلة يعبرها الفلسطينيون خلال حركتهم بين مدن فلسطين

وبالعودة إلى هذا السجل القديم، نفهم دوافع العلاقة المركبة بين كمال وسامي، وهي تتعدى العلاقة الأسرية المعتادة بين الخال وابن أخته، فكل منهما يرى الآخر مكملا له، أما سامي الذي لم ير والده منذ 6 سنوات، فهو يرى في كمال صورة الأب الغائب.

وعلى الناحية الأخرى، لا يكتفي كمال بوضع سامي في مكانة الابن فحسب، بل يبذل أقصى ما لديه، تكفيرا عن الإحساس بالذنب تجاه صديقه والد سامي، فقد قُبض عليه بسبب تأخر كمال غير المقصود.

قد تبدو هذه العناصر كلها زوائد درامية لا طائل من وراء سردها، لكن بإحالتها إلى قواعدها الأولى وتجريدها من ما يحيط بها من زخارف فنية، يمكن تحليل عناصر الصراع الدرامي، الذي يحكم مفاصل السرد.

اختلاف الأجيال حول الحمامة والقضية

يخلو الفيلم من أي صراع واضح المعالم، كما أن إيقاعه هادئ متمهل، لكن في المقابل يمكن الوصول إلى تأويلات متباينة الصياغة، حول ما يدور أمامنا من أحداث، فالاختلاف بين الأجيال جلي ملموس.

أما سامي فهو متشبث حتى الحافة برأيه في مواصلة البحث عن الحمامة، وكذلك مريم التي يتناغم رأيها مع رأيه، فهما يقفان في زاوية واحدة ضد كمال.

وأما فهو مستمر معهما في البحث والمساعدة، لكنه غير متفائل بإيجاد الطائر الهارب، وكأننا أمام صراع أجيال، يلقي بظلاله على القضية الفلسطينية، ومدى تناولها وتعاطيها.

رسول بخاتم الجد إلى الزنزانة.. دلالات رمزية

يتنقل الأبطال من القدس القديمة إلى حيفا، وفي الطريق الممتد يرتاحون بإحدى الاستراحات، وفي تلك الأثناء ينسى سامي قفص الحمامة الفارغ، وحين يعود إليه يفاجئ بتفجير قوات الاحتلال له، بعد الاشتباه به.

وهنا يمكن تفكيك شيفرة الحمامة وتأويلها، فيمكن استنباط دلالتها المباشرة بوصفها رمزا للسلام، وكل من طرفي المعادلة يراه من منظوره، أما سامي ورفاقه فهم يبحثون عنها بلا جدوى، وأما الجانب الإسرائيلي فيقدم على التخلص السريع منها.

المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي

مع توالي الحكي وتدفق مساراته، يصبح السؤال عن سبب إصرار البطل على عودة الحمامة فرضا أساسيا لاكتمال الفهم، فالواقع أن رغبة التواصل مع الأب الأسير هي محرك البحث عن الحمامة، فقد ربط سامي خاتم جده في ساق الطائر، سعيا منه لإيصاله إلى والده داخل السجن.

نقد لاذع للواقع الفلسطيني قبل الطوفان

اعتمد الفيلم على توليف النسيج السردي بطبقة رقيقة من الشاعرية المفعمة بالرمزية، وقد أسهمت مع الموسيقى التصويرية -المتكئة على أوتار العود- في تقديم جرعة فنية بالغة العذوبة، متجانسة الرؤى والأفكار على مستوى المضمون، في مقابل صورة معبرة عن الواقع الفلسطيني قبل طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر.

وقد اختار فريق العمل التصوير في الأماكن الواقعية، من تصريح بذلك من سلطات الاحتلال، بحسب قول مخرج الفيلم رشيد مشهراوي في أحد الحوارات الصحفية.

لا يجد أبطالنا أثرا للحمامة في حيفا، فيرجعون إلى النقطة الأولى، وهنا يلتقي قوسا السرد بالعودة إلى المخيم، فما يبحث عنه أبطالنا لا وجود له.

وبقليل من التدبر، يمكن القول إن الفيلم يقدم قراءة ملائمة تستشرف الواقع -ولا تخلو من نبرة انتقاد وسخرية لاذعة- الذي يثبت أن سبل السلام قد تقطعت أوصالها، وتفشت رائحة الدماء في الأجواء.

تُرى هل من أحد يوقف تدفق هذا السيل الجارف؟


إعلان