“أوبنهايمر” و”شخصيات خفية”.. ازدواج المعايير في الإعلام الهوليودي
مع أن هوليود ذات وجوه متعددة، فإن الإعلام الأمريكي -ولا سيما الهوليودي- هو القاطرة الظاهرة والخفية لقيادة انحيازات الأفلام، بتأثيره المزدوج على جهات الإنتاج والجمهور.
يختار الإعلام غالبا الأفلام التي تعالج ظواهر اجتماعية معاصرة، مثل فيلم “الشبكة الاجتماعية” (The Social Network)، أو الأفلام التي تحقق اختراقا تقنيا مثل “المصفوفة” (Matrix)، أو الأفلام التي تُناغم روح العصر مثل فيلم “لا لا لاند” (La La Land)، ويلعب دورا واعيا في دعمها، حتى لو لم تكن الأفضل في مجالها.
أما النوع الرابع من الأفلام التي يتبناها الإعلام بلا قيد، فهي التي تدعم المزاج العام في مرحلة ما، أو تلمس همّا عاما مسكوتا عنه، وهو ما تحقق في حالة فيلم “أوبنهايمر” (Oppenheimer) للمخرج “كريستوفر نولان” (2023).
لكن ذلك التبني والانحياز لفيلم يوثق جريمة قتل جماعي، إنما يوضح المفارقة الإعلامية الكبرى، حين يُصرف النظر عن الاهتمام بفيلم ينصف فئة أخرى، ظُلمت تاريخيا وسينمائيا.
ذلك الانحياز تؤكده الضجة التي أثارها الإعلام، والنقد السينمائي للفيلم، وترشيحات الجوائز التي بلغت رقما قياسيا، في مقابل فيلم هوليودي آخر، هو “شخصيات خفية” (Hidden Figures)، للمخرج “ثيودور ملفي” (2016)، وقد وصل تقييم الجمهور له نفس النسبة التي منحها النقاد لفيلم “أوبنهايمر”، لكنه لم يرشح إلا لجوائز قليلة مقارنة بغيره، فضلا عن اهتمام النقاد الذي كان أقل مما نال “أوبنهايمر”.
الأبيض والسوداء.. صراع أقوى حلقات المجتمع وأضعفها
تسوق المقارنة بين الفيلمين إلى تصور الصراع بين رجل أبيض وامرأة سوداء، قبل منتصف القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو صراع محسوم بين أقوى حلقات المجتمع (الرجل الأبيض) وأضعف حلقاته (المرأة السوداء).
تصلح المشتركات الكثيرة بين الفيلمين مبررا لاختيارهما في إطار المفارقة الغريبة للإعلام، فكلا العملان خرجا من عاصمة السينما العالمية، وكلاهما ينطلقان من قصة حقيقية، تحقق فيها للولايات المتحدة إنجاز تاريخي، غيّر مجرى التاريخ.
فبينما يرصد “أوبنهايمر” قصة صانع القنبلة الذرية في حكاية أشبه بإعادة تقديم له، يعيد “شخصيات خفية” تقديم الأحداث التي أدت لنجاح الولايات المتحدة في الصعود للفضاء، عبر أبطالها الحقيقيين الذي عملوا في المكاتب المغلقة، ولم ينسب لهم الفضل، بسبب ألوانهم وأصولهم الأفريقية.
“أوبنهايمر”.. عالم باع نفسه لشيطان صناعة الموت
يعد “أوبنهايمر” فيلما دراميا تاريخيا يتناول قصة حياة “روبرت أوبنهايمر”، الفيزيائي الأمريكي الذي أدار مشروع إنشاء أول قنبلة ذرية في التاريخ، مما ساعد في إنهاء الحرب العالمية الثانية من خلال تفجيري “هيروشيما” و”ناغازاكي”، اللذين دمرا المدينتين اليابانيتين وقتلا الآلاف.
يتابع الفيلم حياة “أوبنهايمر” منذ أيام الجامعة، إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين جعلته شهرته يتورط في المكائد السياسية.
لا يكتفي الفيلم بسرد مساهمة العالم “روبرت أوبنهايمر” في صناعة القنبلة النووية، وإشرافه على “مشروع مانهاتن” لصناعتها، بل يتطرق أيضا إلى الصراع الذي عاشه بين العلم والأخلاق خلال حياته كلها، والمفارقة التي جعلت عالما عبقريا مثله يقع في رهان “فاوست” الشهير.
فقد باع روحه وعقله لشيطان صناعة الموت، وقضى سنواته الباقية محاولا التكفير عما فعله، فحاكمته الدولة الأمريكية على نياته. وقد شارك في البطولة “كيليان ميرفي” و”ايميلي بلانت” و”مات دايمون”.
“شخصيات خفية”.. نسوة سود حملن أمريكا إلى السماء
تدور أحداث فيلم “شخصيات خفية” أثناء سباق الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لإرسال أول إنسان إلى الفضاء، فتجد وكالة “ناسا” موهبة غير مستغلة في مجموعة من عالمات الرياضيات الأمريكيات السود، كنّ صواحب العقل المدبر وراء واحدة من أعظم العمليات في التاريخ الأمريكي.
يستند الفيلم إلى قصص 3 من هؤلاء النساء المعروفات باسم “الحواسيب البشرية”، فنتابعهن وهن يرتقين بسرعة في “ناسا”، بجانب عدد من أعظم العقول في التاريخ، بعد أن كُلفن بحساب عملية الإطلاق المهمة لرائد الفضاء “جون غلين” إلى المدار، وضمان عودته سالما.
تجاوزت النسوة “دوروثي فوغان” و”ماري جاكسون” و”كاثرين غوبلز جونسون” كل الخطوط الفاصلة بين الجنسين والعرق والمهنة، ورسخ تألقهن ورغبتهن في تحقيق أحلام كبيرة، تفوق كل ما حققه الجنس البشري من قبل في التاريخ الأمريكي.
ويكمن سر الاحتفاء المبالغ فيه بفيلم “أوبنهايمر” في كون المشروع، هو ما جعل الولايات المتحدة دولة عظمى، قادرة على قيادة العالم، وفرض إرادتها منذ الحرب العالمية الثانية حتى الآن.
ثمة جدل أخلاقي يحيط بالحكاية، لفت بعض النقاد النظر إليه، لكن الجدل الأخلاقي الواضح كان موضوع فيلم “شخصيات خفية”، فهو يحكي قصة إنجاز أمريكي آخر هو الصعود للفضاء، ولكنه يتبنى منظورا مغايرا، فيحاول إنصاف جنود مجهولين بذلك المشروع، أُخفيت أدوارهم عمدا، لا لذنب سوى أن بشرتهم سمراء.
“كريستوفر نولان”.. اسم ضخم يصنع أولى محطات النجاح
قدمت الصحافة الفنية مشروع فيلم “أوبنهايمر” للجمهور تقديم المشروعات القومية، ومهدت الظروف السياسية والتحديات التي تواجه الدولة الأمريكية الأجواء لاستعادة حالة الشعور بالقوة، التي نتجت عن تحقيق الانتصار الساحق في الحرب العالمية الثانية، وإعادة بناء القوى العالمية، طبقا لما تتطلبه الإرادة الأميركية.
وساعد على نجاح المشروع القومي الجديد وجود اسم المخرج “كريستوفر نولان”، صاحب النجاحات المشهودة في هوليود، ومنها:
- فارس الظلام (The Dark Knight) عام 2008.
- زرع الأفكار (Inception) عام 2010.
- بين النجوم (Interstellar) عام 2014.
لذلك لم يكن غريبا أن يشهد افتتاحا أسطوريا، ثم إيرادات مليارية.
بلغت إيرادات “أوبنهايمر” في الولايات المتحدة وكندا نحو 400 مليون دولار أمريكي، وكاد يلامس حافة المليار دولار عالميا، مقابل تكلفة إنتاجية بلغت 100 مليون دولار.
أما فيلم “شخصيات خفية” فبلغت تكلفة إنتاجه 25 مليون دولار، وحقق إيرادات في الولايات المتحدة وكندا تقارب 170 مليونا، ثم نحو 240 مليون دولار عالميا فقط.
فوارق هائلة في الأرقام
عند البحث عن عدد النتائج التي يظهرها متصفح “غوغل” في البحث عن الفيلمين، وُجد أن نتائج “أوبنهايمر” بالإنجليزية وحدها تتجاوز 350 ألف نتيجة، وبالعربية تتجاوز 7 آلاف نتيجة، وهي أرقام في لغتين فقط، ومساحات نشر تتعلق بالصحافة الرقمية فقط، وتتضاعف الأرقام أكثر من مرة عند البحث بلغات أخرى، وعبر وسائط ورقية وتلفزيونية.
أما فيلم “شخصيات خفية”، فقد بلغت نتائج البحث عنه بالإنجليزية نحو 150 ألف نتيجة، ونحو ألفي نتيجة باللغة العربية.
وفي موقع “الطماطم الفاسدة” (Rotten Tomatoes) المتخصص بالسينما، تناول الجمهور فيلم أوبنهايمر” في نحو 508 مراجعات نقدية، مقابل 323 مراجعة لـ”شخصيات خفية”، وأما التقييم على المستوى الجماهيري والنقدي، فقد بلغ لكل منهما نسبة 93%، أما “أوبنهايمر” فقيّمه الجمهور بـ91%، والنقاد بـ93%، وهو ما يعني تفوق “شخصيات خفية” على المستوى الجماهيري.
جوائز الأوسكار.. بون شاسع في أكبر مضمار سينمائي
رُشح فيلم “شخصيات خفية” لثلاث جوائز أوسكار، ألا وهي أفضل فيلم، وأفضل ممثلة مساعدة للممثلة “فيكتوريا سبنسر”، وأفضل سيناريو مقتبس للثنائي “أليسون شرودر” و”ثيودور ميلفي”، لكنه لم يحصل على أي أوسكار، ورشح بعد ذلك لأكثر من 87 جائزة، نال منها 31 جائزة.
أما “أوبنهايمر” فقد فاز بنصيب الأسد في ترشيحات الأوسكار 2024، فقد رُشح لثلاث عشرة جائزة فاز منها بخمس، ألا وهي أفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل ممثل لـ”كيليان ميرفي”، وأفضل موسيقى تصويرية، وأفضل ممثل مساعد لـ”روبرت داوني جونيور”، كما فاز بأربعين جائزة أخرى منها “غولدن غلوب”، و”بافتا”، وجوائز النقاد.
نال “أوبنهايمر” ثناء نقديا واسع النطاق، وخاصة لمخرجه “كريستوفر نولان” وأداء “كيليان مورفي”، ومن مبررات هذا الاحتفاء تعقيده الموضوعي وإنجازاته الفنية، مما أدى إلى إثارة نقاش واسع النطاق عبر وسائل الإعلام. وسلطت مراجعات كثيرة الضوء على عمقه الفكري، وأهميته الثقافية في تصوير حياة “روبرت أوبنهايمر” أثناء مشروع مانهاتن.
ومع أن فيلم “شخصيات خفية” نال ثناء نقديا، فإنه نال نوعا مختلفا من التغطية الإعلامية، فقد احتُفي به لتسليطه الضوء على مساهمات الأمريكيات السود، التي تجاهلتها وكالة “ناسا” أثناء سباق الفضاء، مع اعتراف أكثر تركيزا بأهميته الملهمة والتاريخية.
لقد كانت نبرة المراجعات تميل إلى التأكيد على تأثيره العاطفي والمجتمعي، بعيدا عن تميز عناصره الفنية.