“الفيلم طرح لحالة إنسانية وليس خطابا”.. حوار مع مخرجة “يلّا باركور” الراقص على أنقاض الموت بغزة

يبدأ بعض الخطابات التي تؤصّل الصراع العربي الإسرائيلي من اللغة، فتحاول أن تفهم مركزيات تلك العداوة، ونجد ذلك مثلا عندما نفكك مصطلح “الغولم”، أي المخلوق المصنوع من الطين (الغبار)، مع أنه غير مكتمل كما جاء في الأساطير اليهودية.

يحمل “الغولم” على جبهته كلمة “إيميت” (Emet) العبرية أي الحقيقة، ونفهم أن ذلك “الغولم” قد تشكّل بيد رجل دين يهودي، لينجي أرواح اليهود من خطر يقترب من السامية، لكنه يتحرّر من سيطرة صانعه، وينشر الخوف والذعر والموت، ويصبح مضادا للوصية التوراتية الأساسية التي تقول “لا تقتل”.

ومع فشل محاولات إخضاع “الغولم” لسيطرة اليهود، يدمّر الحاخام “الغولم” بمحو الحرف الأول من كلمة “إيميت” لتصبح “مت” أو موت. ويخلق هذا التضاد بين الفعل والنتيجة التي كانت عكسية من خلاله بداية جيدة عموما للحديث الآن.

باتت صناعة “الغولم” -التي تهدف للدفاع- خطرا على صانعها، وكذلك أشياء عدة صنعها اليهودي في الداخل الفلسطيني للتخويف والدمار، ثم حوّلها الفلسطيني إلى شيء يصلح للعب والمخاطرة والتحرر.

يدّمر الإسرائيلي البلد، فيذهب الفلسطيني الصغير إلى ذلك الدمار، ثم يقف فوقه متجاهلا كل شيء، ليلعب ويخاطر أكثر. تماما كما يفعل أبطال فيلم “يلا باركور”، الذي عُرض بمهرجان البحر الأحمر السينمائي في أكتوبر/ تشرين الأول 2024.

مهرجان البحر الأحمر السينمائي

تحت شعار “للسينما بيت جديد” أُقيم في ميدان الثقافة بمدينة جدة التاريخية حفل الافتتاح العرض العالمي الأول لفيلم “ضي”، وهو إنتاج سعودي مصري مشترك، يروي قصة المراهق “نوبي ألبينو” الذي يبلغ من العمر 11 عاما، وله صوت جميل.

يشارك عدد كبير من الأفلام في هذه الدورة من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، التي تأتي في سياق منافسة شديدة، من مهرجانات عربية أخرى مثل مهرجان القاهرة السينمائي، ومهرجان مراكش الدولي، ثم مهرجان البحر الأحمر.

“يلّا باركور” يشارك في مهرجان البحر الأحمر السينمائي

حاولنا تتبع عدد من الأعمال التي لا تزال تحرص على تفكيكها الفني بالاجتماعي والسياسي في سياق الدول التي خرجت منها، وكان على رأسها الحديث الآني عن فلسطين، من خلال فيلم المخرجة الفلسطينية الأمريكية عريب زعيتر.

يحكي فيلم زعيتر قصة أحمد وأصدقائه، الذين يقضون أوقاتهم في ساحات غزة يلعبون “الباركور”، وهي رياضة حركات الوثب والقفز في أماكن وأوضاع خطرة.

يبدو الفيلم مسارا جديدا موازيا للقصة الفلسطينية، بينما تخرج الخطابات الفلسطينية لتترك حكايات السكينة التي يطلبها الفلسطيني. يحكي الفيلم قصة جيل مختلف يتلاعب مع الخطر، يألفه تماما كما يألف الحرب. يرمي ذاته مُختارا داخل الخطر واحتمالية الموت أحيانا.

“يلا باركور”.. ضحكات وأفراح على أنقاض المأساة

في فيلمها القصير “أمنية أخيرة”، تصور المخرجة عريب زعيتر قصة سيرين، التي تتلقى خبرا مؤلما يخص جدتها، وتمضي برحلة طويلة كي تجتمع بها، وعند وصولها تدرك مدى صعوبة فهم ما تطلبه جدتها، ولكن عندما تتوصل سيرين لرغبة الجدة، يتبين لها أن تحقيق تلك الرغبة يفوق كل عائق واجهته خلال تلك الزيارة. فهناك عروض لأناس وُلدوا في فلسطين وعاشوا خارجها، أما هذا الفيلم فيحكي عن من هم في الداخل.

أطفال الباركور، ضحكات وأفراح على أنقاض المأساة

تصنع الفتاة عريب زعيتر أفلامها من بيتها، وهي أفلام تفتح آفاقا فكرية تماما. ومن أجل ذلك فضّلنا أن نترك حديثها المفتوح تماما على الأسئلة، ولا نقتطع منه شيئا. ويبدو من الفيلم -وربما من حوارها- أنها تحتاج أن تحكي كثيرا عن بلدها الذي تفتده، وربما ليس لديها ما يعوّض ذلك في الغربة.

فمن منزلها الحاليّ في الولايات المتّحدة، تتصفّح عريب الإنترنت، بحثا عن صور تستحضر بها شيئا من والدتها، فوجدت المراهق أحمد مطر وأصدقاءه، وهم أعضاء فريق باركور، يتخذون أنقاض مباني غزة المدمّرة مسارات عقبات، ويضحكون بفرح على خلفيّة الانفجارات.

تتعقّب عريب أحمد عبر الإنترنت، ثم يصبحان صديقين، وفي الوقت نفسه، تجد أنه عازم على أن يكون “الباركور” طريقه للخروج من وطنه الذي أصبح سجنا. وهناك يتداخل لديها الذاتي مع العام، لإعادة تذكر فلسطين.

عريب زعيتر

عريب زعيتر صانعة أفلام مستقلة، حصلت على الماجستير بالفيلم والفيديو من الجامعة الأمريكية بواشنطن، وقد عملت في منحة الفيلم والفيديو الخاصة بـ”غولدمان ساكس” لدى المتحف الوطني الأمريكي، وتحديث أجهزة البث والإعلام لدى وكالة الأنباء الأمريكية “أسوشيتد برس”.

عريب زعيتر صانعة أفلام فلسطينية

كما عملت مديرة للتدريب الإقليمي لدى الهيئة الملكية للأفلام بالأردن، ثم أستاذة جامعية مشاركة بواشنطن، تدرّس الإنتاج والإخراج وتاريخ السينما الوثائقية. وأستاذة مساعدة في تاريخ الفيلم الوثائقي والإنتاج السينمائي في واشنطن.

وقد التقينا بها على خلفية المهرجان، وأجرينا معها حوارا مفتوحا عن الفيلم والهجرة والسينما الفلسطينية.

ما المعيار الذي فاضلت فيه بين فيض التسجيلات المصورة التي سجلها أحمد؟

كان الموضوع أشبه بعملية جراحية، فالفيديوهات التي قدمها لي أحمد كانت عبارة عن فيض، ومن السهل الوقوع بحب كل فيديو من ذاك الفيض، فكل فيديو يحكي قصة مدهشة عن عالم يخصني، ولكنه صعب المنال.

مشهد تدريبي للباركور الغزاوي

كثيرا ما كنا ندخل غرفة المونتاج، فنضع المواضيع الرئيسة التي نود أن نتطرق إليها، ونختار المقاطع التي تندرج تحت تلك المواضيع، ثم نبني المشاهد.

ومن خلال هذا الإجراء تكمل بعض الفيديوهات طريقها إلى جدول العمل الزمني، وفيديوهات تُستثنى مع أهميتها وكمّ الروعة التي تحملها.

وكيف ترين دورك في عمل مثل “يلا باركور”؟ هل بدا عملا طبيعيا للمخرج؟

أظن أن دور المخرج بعمل كهذا تتضاعف صعوبته، فلطالما كنت أشدد على طلبتي بالجامعة عن أهمية الحصول على إذن الدخول -بكافة أبعاده- إلى شخصيات العمل الوثائقي، وقد كان هذا الشيء مفقودا في فيلمي هذا، وكأني ضربت بعرض الحائط أحد أهم متطلبات الفيلم الوثائقي.

لكن هذا القرار كان متعمدا، فالغاية الأساسية من الفيلم هي التعبير عن حالة البعد عن مكان وأناس أنتمي لهم، ولكن ليس لدي طريق إليهم سوى هذا العمل. فشكّل هذا الشيء أمرا أشبه بالتحدي، وصار هدفي أن أستفيد من هذا العائق، وأشكل لغة سينمائية تعبر عما أريد قوله بهذا العمل.

ملصق فيلم “يلا باركور”

أما السيطرة عن بعد، فهي الأمر الذي أخذ وقتا وجهدا طويلا، وكنت على تواصل دائم مع المصور الرئيسي إبراهيم العطلة، الذي أراه عينا وأذنا لهذا العمل في غزة، بالإضافة إلى الخطوات التي ذكرتها سابقا، وبالتحديد التصوير الذي قمت به من طرفي.

كنا نتبادل الآراء دائما، فأُرسل له شرحا وأطلب مراجع بصرية عن المادة التي أحتاجها، فيجمع الطاقم والتصوير من طرفه، بينما أكون أنا قيد الانتظار، وجهازي وهاتفي بجانبي إذا طلب رأيي بشيء، أو استدعى توضيح أمر ما أو استشارتي بعوائق.

كان الطاقم بغزة من أكثر الطواقم الذين تعاملت معهم تعاونا وصبرا وحرفية، فلو طلبت إعادة لقطات معينة أو أرسلت ملاحظات ما، كانوا يسارعون بالإعادة بلا كلل ولا ملل.

كيف يمكن دمج الذاتي بالعام في سياق الحديث الفلسطيني اليوم؟ وإلى أي مدى يساعد ذلك على إيصال صوت فلسطين؟

في الحقيقة، لا أرى الموضوع محددا بهاتين الصفتين، لا سيما عندما يكون الموضوع متعلقا بالحديث عن فلسطين وأهلها، ففلسطين غدت أشبه برمز يرقى فوق المكان والحدود الجغرافية، وكل ما يتعلق بهما من وثائق ولوجستيات. وبتجردها من تلك القيود، يصبح توصيف الذاتي والعام صعبا.

الفيلم يشارك في المسابقات الدولية

فالخبرة الفلسطينية لم تعد ملتزمة بهوية فردية تقليدية، يمكن تعميمها على كل من هو فلسطيني، أنا أرى خبرتي الشخصية الذاتية مختلفة تماما عن خبرة زوجي وأولادي. وكذلك أحمد، فخبرته مختلفة عن خبرتي، أو حتى عن خبرة أي من أفراد عائلته.

لكن كل منا ينتمي لهذه الهوية، ويتمسك بها ويدافع عنها بطريقته، فصوتنا الجماعي ورفضنا لمحو هويتنا وانتمائنا هو جدير بإيصال صوتنا نحن الفلسطينيين.

كيف ترين الخطاب الفني سينمائيا وأدبيا في الحكاية الفلسطينية؟ وما الذي تغير في رأيك في الخطاب القديم واليوم؟

عندي يقين هائل بضرورة التعبير الفني وبفاعليته، وبنفس الوقت لا أرضى بنعته بالخطاب، فمتى ما حمل العمل النمط الخطابي ضاعت منه خصائص الفن، فالعمل الفني بطبقاته وتفاصيله الدقيقة -التي تتيح مساحة للتفكير والتأمل- أبعد ما يكون عن الخطاب، فقلما يتسم الخطاب بتلك الخصائص.

السينما هي الفن السابع، وتكاد تضم جميع الفنون تحتها، عندما تستعمل وسيلة للتعبير. والفن أيضا مرآة للشعوب ويلخص تجاربهم، ولا ينبغي أن يحدد الفن بزمان ما، وإلا أضحت فاعليته ضعيفة.

ولكن السينما الفلسطينية مرت بعدة مراحل حتى استطاعت إثبات وجودها عالميا، فقد جذبت العالم بأسره للإصغاء إليها، عندما تخلصت من صفة الخطاب السياسي، وبادرت بطرح التجارب الإنسانية، وغدت تقدم لوحات بصرية تنافس عالميا، وتقدم فيها طرحا للحياة اليومية، وتتطرق أيضا للأمور السياسية بشكل غير مباشر، مما يعزز النقد وقوة الطرح، مقارنة بما هو مباشر.

كيف نفكر في دعم تلك الأفلام في القادم؟

هناك عدة مبادرات لدعم الأفلام في عالمنا العربي، ولكنها مع الأسف غير كافية، مما يجعلها تنافسية للغاية، ويتسم كثير منها بقيود ومعايير صعبة التحقيق، فصانع الأفلام منا غالبا ما يجد نفسه أمام سنوات من العمل والانتظار، في سبيل إنتاج عمله وإيصال صوته.

العمل الفلسطيني عمل متنوع ومطلوب، وتجاربه متفاوتة ومختلفة كما ذكرت سابقا، فهناك مبادرات عامة وشخصية تتبنى إنتاج العمل الفلسطيني، ولكن النسبة في قدرة الأعمال على جذب الدعم متفاوتة.

أؤمن بضرورة “الاكتفاء الذاتي” لدعم وإنتاج الأفلام الفلسطينية، بحيث تكون الجهات والأفراد التي تتبنى العمل عبارة عن جهات وأفراد من العالم العربي، لكن هذا الأمر قلما يتحقق، وذلك بسبب الإمكانات وما يقابلها من المغامرة بتمويل أعمال لصناع لم يستطيعوا بناء أسمائهم بعد، بغض النظر عن قوة الطرح الذي يقدمونه وخصوصيته.

كما أؤمن أيضا بتخصيص ورشات عمل لدعم سردية هذه الأفلام، فبحالة الفيلم الفلسطيني خاصة، هناك قابلية لأن يأخذ منحى سياسيا بحتا لا إنسانيا، فالأصوات الناشئة تحديدا تحتاج للالتفات لصقل أعمالها بالفوارق الدقيقة، التي تجعل تلك الأعمال أكثر تأثيرا ومصداقية.

هل ترين الخروج من غزة أو فلسطين هو الحل عموما هذه اللحظة؟ وإلى أي مدى يبرر ذلك دراميا من خلال قصة البطل؟

العيش بأمن وكرامة من أبسط حقوق الإنسانية، أفرادا كانوا أم شعوبا، ولا أستطيع أن أضع الحل أو عدمه على عاتق الأفراد الذين اختاروا الخروج، وفي حالة أهالي غزة وفلسطين، فإن مسببات الرحيل واضحة ومنطقية.

أردت تسليط الضوء على أحد هذه المسببات التي يعانيها الغزيون، وأولئك الذين لجؤوا إلى غزة منذ عقود، وهو الحبس القسري في المدينة، فما عاناه أحمد إنما هو أمله المحبط بتحقيق حلم متعلق بإتقانه للعبة الباركور.

غايته أن يجوب العالم، ليتسابق ويمثل فلسطين بهذه اللعبة، ثم يعود إلى وطنه بعد كل جولة تنافسية. لكنه وجد أن الوضع الذي ولد فيه لم ولن يسمح له بذلك.

وهذا الوضع لم يكن هو سببه ولا حتى أهله أو المدنيين، ولم يختره أي منهم ولن يختاره أي منا لنفسه أو لأهله، بل هو واقع فُرض عليهم وعلينا، وتبعات رفض هذا الواقع هي ما نعانيه نحن المغتربين وما أضحى يعانيه هو بعد تركه للمدينة؛ الفقد وعدم الانتماء والغربة.

إلى من نقدم الفيلم الفلسطيني اليوم؟ لا يبدو ذلك تساؤلا، بل مساحة للتفكير معا فيمن نسعى إلى إيصال صوتنا إليهم في الداخل العربي والخارج العالمي؟ هل ما زلنا نحتاج إلى إثبات قضية الظالم والمظلوم، أم تخطى الخطاب تلك المنطقة؟

مرة أخرى، أقول إن الفيلم طرح لحالة إنسانية، وليس خطابا. وهذا الطرح لا بد أن يولد تساؤلات، وليس بالضرورة أن نطلب من المتلقي الإجابة أو الحل، بل علينا أخذه لمعايشة الرحلة أو الحالة التي يطرحها الفيلم.

الفيلم الجيد هو الذي يستدعي من المتلقي التفكير، هو الذي يؤثر به ويبقى معه، والفيلم الفلسطيني وصوت الفلسطينيين يجب تقديمه للجميع.

كثيرا ما أسمع “ليش بدك تورجيني هيك فيلم؟ ما أنا عارف وفاهم”.

لكن أرى في هذه الإجابة بعض التقصير والهروب من الواقع، فالواقع المطروح يولد ردة فعل لا يمكن التنبؤ بها، ولذلك حتى لو كان لدينا بعض من الإشباع من هذه الحكايات في العالم العربي، فعلى صانع الفيلم الفلسطيني تقديم صوته للداخل العربي.

ولا شك أن وصول الصوت للخارج العالمي أصعب وأكثر تعقيدا، لكن الحاجة لإجباره على الإصغاء أكبر، فهو كثيرا ما يكون ضحية لوجهة النظر المشوهة بالعالم الغربي.

أما قضية الظالم والمظلوم فالموضوع أكثر تعقيدا من ذلك، فالأبيض والأسود مرفوض بالبناء الدرامي، لأنه لا يعكس طبيعة الواقع، ولذلك فسيفشل بإقناع الخارج العالمي وسيتهم بالانحياز ببساطة، وذلك لغياب التفاصيل لدى المتلقي من أبناء العالم الخارجي.

على الفيلم أن يطرح شخصيات بتفاصيلها ومعطيات حياتها، ويترك للمتلقي البحث والاكتشاف.


إعلان