مهرجان سينما الواقع.. وثائقيات فلسطين تزين الشاشات الكبيرة في باريس
“تحرّكوا، لأننا سنحتاج إلى حماستنا. نظّموا أنفسكم، لأننا سنحتاج إلى قوتنا. ادرسوا لأننا سنحتاج إلى ذكائنا”. بهذه العبارة التي قالها الفيلسوف “أنتونيو غرامشي”، قدّم مهرجان “الواقع” للسينما الوثائقية بباريس أحد أقسامه الرئيسية “جبهة/جبهات شعبية”، واضعا إياها مسارَ عمل نشطا ومتفائلا وشجاعا “لحمايتنا من تدمير العلاقات الإنسانية” كما تقول الباحثة والفيلسوفة حنة أرندت، ثم “لحمايتنا من تدمير العالم”.
في دورة المهرجان الـ64 التي نُظمت ما بين 22-31 آذار/ مارس 2024، تساءل مبرمجو قسم “جبهة/ جبهات شعبية” عن إمكانية بقاء السينما سلاحاً في مواجهة قمع الأضعف ورعب الحرب، وأن يكون كل فيلم قادرا أن يكون بطريقة فريدة مكانا للقصة المضادة وأن يحافظ على روح النضال لدينا، وعلى رغبتنا في القواسم المشتركة، وقدرتنا على التفكير بشكل مختلف. في محاولة إجابة، قرروا في هذه الطبعة الجديدة اختيار أفلامٍ بدت لهم وكأنها مصممة لتعبر عن التأمل والعمل السياسي والذاكرة.
مهرجان سينما الواقع.. دعوة لإعادة تشكيل الذاكرة
في برمجة “الجبهة الشعبية” تتبعٌ لحالات العنف الحربي والانتشار الرهيب لكوارث متكررة، بحيث تبدو اليوم كلمات “جان لوك غودار” في فيلم “موسيقانا” (Our Music) الذي أنتج عام 2004: “لماذا سراييفو؟ لأن فلسطين”، في أوج قوتها وتعبيرها العميق عن تكرار التاريخ.
فقصة حصار سراييفو والطريقة التي شاهدها بها صناع الأفلام، تعيدنا حتماً إلى غزة وسكانها تحت القصف كما تحيل مشاهد أخرى قاسية لنزوح جماعي لأفراد أجبروا على ترك ممتلكاتهم، إلى ما يعيشه أهل غزة اليوم.
وقد اختيرت للعرض في قسم “جبهة/ جبهات شعبية” والمسابقة الرسمية أفلامٌ من فلسطين وعنها، تشهد على ما يعنيه الاحتلال العسكري الإسرائيلي، وعلى معركة الفلسطينيين ضد محاولات المحو (الهوية والوجود). أفلام كانت فيها الإيماءة السينمائية في مواجهة العنف شاهدا، ودعوة لإعادة تشكيل مجال الذاكرة.
“لا أرض أخرى لنا”.. مشارب شتى وهمٌّ واحد في مواجهة الاحتلال
أثار فيلم “لا أرض أخرى لنا” (No Other Land) الذي عُرض عام 2024، ضجةً في مهرجان برلين، بعد خطاب إدانة للعدوان الاسرائيلي على غزة من قِبل مخرجَيه الفلسطيني باسل عدرة والإسرائيلي “يوفال أبراهام”، وقد حضر أيضا للعرض في مهرجان سينما الواقع.
يتشكل فريق عمل الفيلم من الضفة والقدس، أما باسل فهو ناشط ومحامٍ وصحفي ومخرج فلسطيني من قرية مسافر يطّا في الضفة الغربية، يناضل ضد سياسة الاحتلال في السيطرة على الأراضي، ويوثق الإبادة التدريجية التي يمارسها جنود الاحتلال من هدم منازل وطرد سكان قرى فلسطينية.
وأما “يوفال أبراهام” فهو مخرج أفلام إسرائيلي وصحفي استقصائي يعيش في القدس، وقد اجتمعا معا ليحققا الفيلم، وساعدهما حمدان بلال، وهو مصور فوتوغرافي ومزارع فلسطيني من الضفة الغربية، وكانت مع الفريق “راشل سزور” وهي مصورة سينمائية من القدس.
يصور “لا أرض أخرى لنا” ما يعانيه باسل وكل فلسطيني منذ الطفولة، من محاولات تهجير وطرد في قريته، لا شيء يوقف الجيش الإسرائيلي، يتذرع بقرار محكمة لتحويل المكان إلى منطقة عسكرية. كما يبدي الفيلم تضامن صحفي إسرائيلي شاب، يرافقه في جولاته وتوثيقه ومجابهته للاحتلال.
تهجير القرى.. غطرسة تحت ذريعة “المناطق العسكرية”
لئن كان فيلم “لا أرض أخرى لنا” يبيّن ما يعرفه كثيرون، فإنه -بتوثيقه تدمير القرية التدريجي والهدم الممنهج- يجعل المُشاهد يرافق أناسا بعينهم، معايشا محنتهم وحياتهم اليومية الشاقة وهم يحملون متاعهم، متنقلين به بين كهوف محيطة، أو في الخارج انتظارا لانتهائهم من بناء آخر بديل له.
إنه يبدي روح تصميم لدى باسل وأهله وجيرانه للصمود وإعادة البناء، وإن شابتها أحيانا لحظات يأس. إن البقاء في الأرض -على استحالته أحيانا- هو ما يُبقي القرية فلسطينية. يوضح الفيلم الصورة للمشاهد الغربي بكل تفاصيلها، بحيث لا بدّ أن يدفع للتساؤل عن كيفية دعم مثل هذه الجرائم؟
تتجلى قوة الفيلم أيضا في هذه الصداقة المخلصة بين إنسانين يفترض أنهما عدوان، في إبداء غضب الصحفي الإسرائيلي لما تفعله حكومته باسمه، وما حدث في حياته من تغيير بعد أن تعلم اللغة العربية.
ثمة تفاصيل أخرى في الفيلم شديدة التأثير، ينبّه لها من غير كلام، منها هدم المدرسة الوحيدة من غير اكتراث بإخلائها، مع تبرير يتكرر دائما، ألا وهو “منطقة عسكرية”. لكن الكاميرا تدور حول مستوطنات مقابلة لمنطقة الهدم، كأنها تتساءل: ولكن ماذا تفعل تلك المستوطنات هنا؟ كأنها تثبتها شاهدا على الكذب وانعدام الإنسانية والغطرسة والاستهانة التي لا حدّ لها لمحتل لا يعبأ بالإنسان الفلسطيني.
“استعادة التضامن”.. أفلام يابانية توثق تاريخ الكفاح الفلسطيني
عرض مهرجان سينما الواقع أيضا فيلما يعكس دوافع وتطلعات واختفاء جيل، وهو فيلم “استعادة التضامن” (Restoring Solidarity R21 AKA) الذي أُنتج عام 2022، وفيه بكرات فيلمية أحضرها المخرج الفلسطيني مهند يعقوبي من اليابان.
وهي عبارة عن مجموعة من 20 فيلما مقاس 16 ملم، كانت حفظتها في طوكيو حركةُ التضامن اليابانية مع فلسطين في ستينيات وثمانينيات القرن الماضي، يعيد المخرج يعقوبي العمل عليها، وهذا الفيلم من إنتاج فلسطيني بلجيكي قطري.
يشرح بعض تلك الأفلام أسباب تضامن اليابان مع فلسطين، ويعيدها إلى فترة نشوء الحركات الفلسطينية وتزامنها مع تجديد معاهدة الدفاع بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية عام 1960 والتعاون العسكري بينهما، وهو ما أثار حينها غضب الطلاب فاندفعوا في مظاهرات احتجاجية.
لقد كان تفهم مأساة الشعب الفلسطيني ومؤازرة منظمة التحرير الفلسطينية بديهيا لهم في تلك الفترة، فانطلق صحافيون إلى بيروت، ليصوروا أفلاماً عن الحرب الأهلية، ورافقوا كل أحداثها، لا سيما في تل الزعتر وصبرا وشاتيلا، مسجلين مشاهد من العنف الصهيوني مع المدنيين، ومؤكدين على تشارك في أوضاع مثل هيروشيما وصبرا وشاتيلا.
كما سجلت الأفلام حوارات مع شخصيات سياسية فلسطينية، منها ياسر عرفات وهو يشرح نوعية العلاقات مع اليابان وإعجابه بهذا البلد، وأبو إياد، وتوفيق زياد الذي كان وقتها رئيس بلدية الناصرة، وهو يوجه سؤالا لمحدثه “إن لم تصنع سلاما مع من يعيش معها فكيف لإسرائيل فعل ذلك مع الجار العربي؟”. تاريخ يبدو بعيدا، بمفاهيمه النضالية والتضامنية عما يسود اليوم العالم العربي.
هذه الأفلام هي توثيق للنضال الفلسطيني ضد الصهيونية، سواء في غزة التي هي “صداع إسرائيل الدائم، والبؤرة الأكثر مقاومة للاحتلال”، أو أماكن أخرى من فلسطين، وهناك وثائق مهمة ونادرة عن أحداث تاريخية يعاد التذكير بها لتؤكد على تكرار التاريخ، ومنها خطاب عرفات الأول في الأمم المتحدة، وهو يختتمه بعبارة: “الحرب تندلع من فلسطين، والسلم يبدأ من فلسطين”، في حين الكاميرا تركز على مقعد اسرائيل الفارغ.
“التزلج، الحياة، القتال”.. إنسان مرح من غزة يواجه تحديات أوروبا
عُرض فيلمان في المسابقة الرسمية بمهرجان سينما الواقع، نال أحدهما تنويها خاصا في الجوائز الممنوحة.
وكان الفيلم البلجيكي “التزلج، الحياة، القتال” (The Roller, The life, The Fight) الذي أخرجه حازم القاضي و”أليترا بيزونيو” (2024)، يمثل تكرارا لما يعرض عادة حول مسار لاجئ للوصول إلى أوروبا ومعاناته، مع فرق أنه هنا فلسطيني من غزة.
وهذا يطرح السؤال عن التعاطف مع أي قضية ما، فهل يبرر عرض أفلام “لطيفة”، لكنها بحاجة إلى مزيد من جهد لإيصال قضية أساسية بلغة سينمائية أكثر اعتناء؟
هذا لم يمنع التعاطف مع الشخصية الرئيسية في بعض مواقف الفيلم، منها موقفه غير المبالي برفض السلطات البلجيكية أوراق اللجوء. وكأنه ردّ فعل إنسان معتاد على صدمات الحياة منذ طفولته، فهو ينظر للأمور على نحو نسبي، يتابع ابتساماته ومزحه بروح مرحة تفتقدها صديقته الايطالية في أوقات الشدة. هذه الفوارق الثقافية في التعامل مع الأزمات هي أفضل ما أبداه الفيلم.
“رحلة إلى غزة”.. أصوات الحياة وألوان الجمال التي لم نرها قط
نال تنويها خاصا فيلمُ “رحلة إلى غزة” (Journey Into Gaza) الذي أخرجه الإيطالي الفرنسي “بييرو أوزبيرتي” (2024)، وقد صُوّر قبل الحرب الحالية على غزة. وكان مخرج الفيلم ابن 25 عاما حين توجه عام 2018 إلى غزة، والتقى شبابا من عمره هناك.
يتميز هذا الفيلم بشاعرية تهتم بجمال الإطارات، وتصوير أماكن في غزة مميزة بجمال لم تعتد عليه العين، ولقاء شباب وشابات من هؤلاء الذين لا يظهرون في نشرات الأخبار، يبدون وهم يحاولون عيش حياة طبيعية، مع أنها مستحيلة بسبب الحصار وانعدام فرص العمل وانقطاع الكهرباء الدائم وثقل التقاليد.
غالبا ما تتوقف الكاميرا على صورة تبدو كأنها لوحة من ستارة جميلة يتلاعب بها الهواء، وطائرة ورقية تزين السماء، ووجوه مبتسمة وأصوات حياة مبهجة رغم كل شيء تنبعث من طبل حفل زفاف، أو أذان مؤذن. إنها أصوات الحياة.
لقد قرر المخرج الايطالي أن يرينا هذا المكان كما لم نشاهده، والغزاويين كما لم نرهم قط.