الجزيرة الوثائقية في مهرجان “إدفا” 2025

بين أسئلة الواقع واتساع خيال الصورة، تمضي الجزيرة الوثائقية في رحلتها العالمية عبر بوابة مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية “إدفا”، لتشارك في دورته الـ38 بثلاثة أفلام ذات إنتاج مشترك.

تُعرض هذه الأفلام ضمن “العرض العالمي الأول”، وقسمي “الضوء الساطع” و”مختارات المهرجان”، اللذين يحتفيان بالحس الإنساني والابتكار البصري في السرد الوثائقي.

تتوج هذه المشاركة مسارا متواصلا من العمل على تطوير المشهد الوثائقي العربي، عبر “أيام الجزيرة الوثائقية”، التي احتضنت على مدى عامين عددا من المشاريع الواعدة، رافقتها القناة في مراحل التطوير والإنتاج، ضمن رؤية ترسخ ثقافة التعاون الدولي وصناعة الصورة المؤثرة.

ويعد مهرجان “إدفا” من أعرق المهرجانات العالمية المتخصصة في الفيلم الوثائقي، ومنصة تجمع بين المبدعين والمنتجين والجمهور في حوار إنساني حول الصورة ومعناها.

أما الأفلام الثلاثة التي تحمل توقيع الجزيرة الوثائقية، فهي مختلفة الجغرافيا والأساليب، لكنها تلتقي جميعا عند إيمان مشترك بالصورة، بوصفها لغة قادرة على الكشف والمساءلة، والتعبير عن الإنسان في جوهره الأصيل.
فيلم “32 مترا”
تبلغ مدة عرض فيلم “32 مترا” 84 دقيقة، وسيُعرض عرضه العالمي الأول في قسم “الضوء الساطع”.
يسلط الفيلم الضوء على امرأة تركية تدعى حليمة، ترفض صورة دور النساء النمطية في قريتها المحافظة، فبينما يُنتظر منهن الاعتناء بالمنزل والأطفال، تؤمن حليمة بأن للحياة أفقا أوسع، فتقرر تنظيم مسابقة رماية للنساء، فيُقابلها الرجال بالرفض والسخرية.

يتتبع الفيلم هؤلاء النسوة بعطف وسخرية خفيفة، وهن يواجهن حجج الرجال بأن “الأسلحة ليست ألعابا” وأن “الرماية شأن رجالي”.
تلتقط الكاميرا حواراتهن الحميمية داخل البيوت وخارجها، فتميط اللثام عن مجتمع بدأ يتقبل التغيير بخطى حذرة، وتذوب تدريجيا أكثر الأفكار رسوخا حول أدوار الجنسين.

والنتيجة لوحة وثائقية دافئة، تصور امرأة حرة الإرادة، لا تنكسر أمام القيود، وتلهم الأخريات لإعادة صياغة علاقتهم بالعالم، بدعم من بعض الرجال المتفهمين.
فيلم “بين ضفتين”.. عبورٌ من الذات إلى الأم
في فيلم “بين ضفّتين”، ترافق الكاميرا الشابة سمية، التي نشأت في برشلونة، وتشعر بمسافة عاطفية تفصلها عن أمها الجزائرية الأصل.
في البداية، يسود بينهما توتر حذر، لكن المشهد يتبدل حين تقرر سمية زيارة جدتها في الجزائر، فتبدأ رحلة اكتشاف مزدوجة؛ عودة إلى الجذور، ومصالحة مع الذات.

تنغمس سمية في نسيج عائلة تبدو غريبة عنها في البداية، وتُمارس الطقوس الدينية جزءا طبيعيا من الحياة اليومية، كأنها تطبيق على الهاتف.
تتشابك اللقطات المنزلية العفوية مع حوارات دافئة وأفلام عائلية قديمة ومكالمات مرئية حديثة، فتصوغ صورة جديدة عن الهجرة، وعن الأمومة، وعن الانتماء، وعن مد الجسور بين الثقافات.

في هذا العمل الحميمي البصري، تصبح الزيارة العابرة رحلة تأمل في الذاكرة العابرة للحدود، فيلتقي الشمال بالجنوب، والجيل بالجيل، والهوية بالحنين.
“هدوء نسبي؟”.. بيروت في مرآة تاريخها المصور
تغوص المخرجة اللبنانية لانا ضاهر في تاريخ لبنان السمعي البصري بفيلمها “هل تحبني؟”، الذي يستند كله على مواد مسجلة من أفلام وبرامج تلفزيونية وأشرطة منزلية وصور فوتوغرافية، تمتد على مدى 70 عاما.

انطلاقا من أكثر من ألفي مصدر تسجيلي، تنسج المخرجة لانا سردا جديدا عن بيروت، المدينة التي لا تزال تبحث عن زمنها الضائع.
من مشاهد الحرب الأهلية إلى الحياة اليومية، من مبنى “برج المر” الذي أصبح شاهدا على الدمار، إلى الصحفي الذي يعود إلى منزله المهدّم بعد الغارات الإسرائيلية، ومن سيارة الأجرة البيروتية التي يحمل قصص الركاب، إلى الدليل السياحي الذي يرافق زوارا أجانب بين أطلال المدينة.
لا تقدم المخرجة توثيقا باردا، بل تستعيد ذاكرة جماعية متشظية، تتنقل بحرية بين الأزمنة والوسائط، لتقول إن الذاكرة مثل المدينة؛ فوضى جميلة، وحنين لا يخضع للترتيب الزمني.

في بلد لا يدرّس تاريخه الحديث في المدارس، يغدو هذا الفيلم شهادة نادرة على هوية بيروت المتعددة الطبقات، وعلى قدرتها على النهوض من بين الركام، بصوت يحمل موسيقى السؤال، لا أجوبة الماضي.