الجزيرة الوثائقية في مهرجان “إدفا” 2025

مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية "إدفا" من أهم المهرجانات الوثائقية في العالم، ويشكل منصة للتبادل والإلهام، تجمع بين صُناع الأفلام والفنانين والجمهور والمهنيين من مختلف القارات. الملصق من تصميم رواس سعيد.

بين أسئلة الواقع واتساع خيال الصورة، تمضي الجزيرة الوثائقية في رحلتها العالمية عبر بوابة مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية “إدفا”، لتشارك في دورته الـ38 بثلاثة أفلام ذات إنتاج مشترك.

يقدم المهرجان طيلة العام سلسلة من المبادرات، تشمل العروض العامة، ودعم الإنتاج، والأسواق السينمائية، وبرامج تطوير المواهب والتعليم، فضلا عن مركزه الوثائقي الدائم بحديقة فوندل بارك في أمستردام

تُعرض هذه الأفلام ضمن “العرض العالمي الأول”، وقسمي “الضوء الساطع” و”مختارات المهرجان”، اللذين يحتفيان بالحس الإنساني والابتكار البصري في السرد الوثائقي.

تعرض الجزيرة الوثائقية مشروع فيلم “شمس الآخرين” للمخرجة أسماء المدير ضمن فعاليات منتدى “إدفا” لتطوير الأفلام 2023، في عرض يعكس التزام القناة بدعم الأصوات العربية الجديدة، وإبراز الرؤى الإبداعية في السينما الوثائقية

تتوج هذه المشاركة مسارا متواصلا من العمل على تطوير المشهد الوثائقي العربي، عبر “أيام الجزيرة الوثائقية”، التي احتضنت على مدى عامين عددا من المشاريع الواعدة، رافقتها القناة في مراحل التطوير والإنتاج، ضمن رؤية ترسخ ثقافة التعاون الدولي وصناعة الصورة المؤثرة.

أحمد محفوظ، مدير قناة الجزيرة الوثائقية، يلقي كلمة في اللقاء السنوي الذي تنظمه القناة مع المنتجين العرب، على هامش مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية “إدفا” عام 2023، مؤكدا أهمية التعاون العربي في تعزيز حضور الوثائقي في الساحة العالمية

ويعد مهرجان “إدفا” من أعرق المهرجانات العالمية المتخصصة في الفيلم الوثائقي، ومنصة تجمع بين المبدعين والمنتجين والجمهور في حوار إنساني حول الصورة ومعناها.

في قلب هذا السحر، تمتد حديقة فوندل بارك في أمستردام، التي تصبح خلال المهرجان مسرحا سينمائيا مفتوحا، بها شاشة ضخمة، وصوت محيطي نابض بالحياة، ومقاعد تستقبل مئات من هواة السينما الوثائقية، في تجربة تجمع بين سحر الطبيعة وسحر الصورة

أما الأفلام الثلاثة التي تحمل توقيع الجزيرة الوثائقية، فهي مختلفة الجغرافيا والأساليب، لكنها تلتقي جميعا عند إيمان مشترك بالصورة، بوصفها لغة قادرة على الكشف والمساءلة، والتعبير عن الإنسان في جوهره الأصيل.

فيلم “32 مترا”

تبلغ مدة عرض فيلم “32 مترا” 84 دقيقة، وسيُعرض عرضه العالمي الأول في قسم “الضوء الساطع”.

يسلط الفيلم الضوء على امرأة تركية تدعى حليمة، ترفض صورة دور النساء النمطية في قريتها المحافظة، فبينما يُنتظر منهن الاعتناء بالمنزل والأطفال، تؤمن حليمة بأن للحياة أفقا أوسع، فتقرر تنظيم مسابقة رماية للنساء، فيُقابلها الرجال بالرفض والسخرية.

مشهد من فيلم “32 مترا”.. امرأتان تجلسان على ضفة البحيرة في سكون، وتمتد خلفهما الجبال كأنها صدى لصلابتهما. لحظة تأمل صافية تختصر روح الفيلم، حيث تصبح الطبيعة مرآة لحوار صامت عن الحرية والاختيار

يتتبع الفيلم هؤلاء النسوة بعطف وسخرية خفيفة، وهن يواجهن حجج الرجال بأن “الأسلحة ليست ألعابا” وأن “الرماية شأن رجالي”.

تلتقط الكاميرا حواراتهن الحميمية داخل البيوت وخارجها، فتميط اللثام عن مجتمع بدأ يتقبل التغيير بخطى حذرة، وتذوب تدريجيا أكثر الأفكار رسوخا حول أدوار الجنسين.

امرأتان تقفان عند ضفة الماء، إحداهما تصوب بندقيتها نحو المدى، والأخرى تراقب في صمت. مشهد يتجاوز فعل الرماية ليصبح رمزا للمقاومة الداخلية، حيث تصبح اللقطة مرآة لهدوء يخفي قوة، ولصوت نسائي يتعلم إصابة الهدف بلا خوف

والنتيجة لوحة وثائقية دافئة، تصور امرأة حرة الإرادة، لا تنكسر أمام القيود، وتلهم الأخريات لإعادة صياغة علاقتهم بالعالم، بدعم من بعض الرجال المتفهمين.

فيلم “بين ضفتين”.. عبورٌ من الذات إلى الأم

في فيلم “بين ضفّتين”، ترافق الكاميرا الشابة سمية، التي نشأت في برشلونة، وتشعر بمسافة عاطفية تفصلها عن أمها الجزائرية الأصل.

في البداية، يسود بينهما توتر حذر، لكن المشهد يتبدل حين تقرر سمية زيارة جدتها في الجزائر، فتبدأ رحلة اكتشاف مزدوجة؛ عودة إلى الجذور، ومصالحة مع الذات.

مشهد من فيلم “بين ضفتين”.. لقطة تنبض بالدفء الإنساني تجمع 3 أجيال أمام باب البيت، حيث يمتزج الحنين بضحكات الأطفال، وتصبح الصورة العائلية جسرا بين ذاكرة الغربة ودفء الجذور

تنغمس سمية في نسيج عائلة تبدو غريبة عنها في البداية، وتُمارس الطقوس الدينية جزءا طبيعيا من الحياة اليومية، كأنها تطبيق على الهاتف.

تتشابك اللقطات المنزلية العفوية مع حوارات دافئة وأفلام عائلية قديمة ومكالمات مرئية حديثة، فتصوغ صورة جديدة عن الهجرة، وعن الأمومة، وعن الانتماء، وعن مد الجسور بين الثقافات.

لحظة من فيلم “بين ضفتين”، حيث ترسم يد الجدة بالحناء جسرًا من التراث والمحبة يصلها بقلب حفيدتها ، إنه تقليد عائلي يذيب المسافات ويروي قصة الانتماء والعودة إلى الأصل

في هذا العمل الحميمي البصري، تصبح الزيارة العابرة رحلة تأمل في الذاكرة العابرة للحدود، فيلتقي الشمال بالجنوب، والجيل بالجيل، والهوية بالحنين.

“هدوء نسبي؟”.. بيروت في مرآة تاريخها المصور

تغوص المخرجة اللبنانية لانا ضاهر في تاريخ لبنان السمعي البصري بفيلمها “هل تحبني؟”، الذي يستند كله على مواد مسجلة من أفلام وبرامج تلفزيونية وأشرطة منزلية وصور فوتوغرافية، تمتد على مدى 70 عاما.

“من سجلات بيروت الحية، لقطة تختزل حب الحياة برغم كل شيء. رقصة عفوية في قلب جلسة عائلية، تذكرنا بأن أفراحنا الصغيرة هي ذاكرتنا الأجمل. لقطة من فيلم “هدوء نسبي؟” للمخرجة لانا ضاهر.

انطلاقا من أكثر من ألفي مصدر تسجيلي، تنسج المخرجة لانا سردا جديدا عن بيروت، المدينة التي لا تزال تبحث عن زمنها الضائع.

من مشاهد الحرب الأهلية إلى الحياة اليومية، من مبنى “برج المر” الذي أصبح شاهدا على الدمار، إلى الصحفي الذي يعود إلى منزله المهدّم بعد الغارات الإسرائيلية، ومن سيارة الأجرة البيروتية التي يحمل قصص الركاب، إلى الدليل السياحي الذي يرافق زوارا أجانب بين أطلال المدينة.

لا تقدم المخرجة توثيقا باردا، بل تستعيد ذاكرة جماعية متشظية، تتنقل بحرية بين الأزمنة والوسائط، لتقول إن الذاكرة مثل المدينة؛ فوضى جميلة، وحنين لا يخضع للترتيب الزمني.

كم من القصص لم تُروَ؟ وكم من الذكريات تبعثرت؟ هنا، تتكدس آلاف اللحظات المنسية في أفلام كاميرات قديمة، لتصبح شاهدا على ذاكرة بيروت المتشظية. لقطة معبرة من فيلم “هدوء نسبي؟” الذي يغوص في سجلات لبنان البصرية

في بلد لا يدرّس تاريخه الحديث في المدارس، يغدو هذا الفيلم شهادة نادرة على هوية بيروت المتعددة الطبقات، وعلى قدرتها على النهوض من بين الركام، بصوت يحمل موسيقى السؤال، لا أجوبة الماضي.


إعلان