“الفيلم عمل فدائي”.. فلسطين المقاومة حاضرة في مهرجان الإسماعيلية السينمائي

انتهت فعاليات الدورة السادسة والعشرين من مهرجان الإٍسماعيلية، الذي يُعد واحدا من أقدم المهرجانات في العالم العربي، كما أنه من أوائل المهرجانات المتخصصة في الأفلام الوثائقية والقصيرة، وقد انطلقت أولى دوراته عام 1991.

عُقدت هذه الدورة ما بين 5-11 فبراير/ شباط 2025، وقد حملت اسم المخرج الوثائقي علي الغزولي. وقالت رئيسة هذه الدورة هالة جلال خلال المؤتمر الصحفي، إنها بذلت مع إدارة المهرجان مجهودا كبيرا في التذوق السينمائي، لاختيار الأفلام المشاركة بالدورة الحالية، من أجل الاستمتاع بصناعة السينما، وتشمل أفلاما من الهند ومصر وأوروبا وامريكا اللاتينية وآسيا.

الأهم هنا بين كل ذلك هو المرور على مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة، التي برمجها مروان عمارة مع فريقه، وتتضمن 10 أفلام، منها فيلم “الفيلم عمل فدائي”.

قدمت مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة 10 أفلام، منها الفيلم الفلسطيني “الفيلم عمل فدائي”، للمخرج كمال الجعفري، وقد قرر صناعته لتوثيق هجوم الجيش الإسرائيلي في لبنان عام 1982، بعد استهداف مركز الأبحاث الفلسطينية، والاستيلاء على أرشيفه، من الوثائق التاريخية المكتوبة والصور الثابتة والمتحركة، وذلك كل الأرشيف الفلسطيني الموجود آنذاك.

يؤرخ الفيلم جريمة تأتي ضمن جرائم أوسع وأبشع ولا تنتهي، من جرائم الاحتلال الصهيوني المستمرة على فلسطين، في الداخل والخارج، ويبدو سلاحا موازيا في لحظة تاريخية تعيشها القضية.

توقيت يرى فيه الفلسطيني تخاذلا عالميا أمام انتهاكات مستمرة على التاريخ والمستقبل كذلك، بتأييد أمريكي مُعلن على غير عادته؛ ويؤمّن تلك السرقة رئيس جديد يؤيد بقوة كل اليمين المتطرف في أمريكا، ثم في إسرائيل، ثم في أي مكان آخر.

الملصق الدعائي لفيلم “الفيلم عمل فدائي”

ليس الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” الأبشع ربما، لكنه الأكثر وضوحا في خذلان الفلسطيني من غيره، وغير الأمريكي عموما، لذلك يأتي “الفيلم عمل فدائي” مضادا للصورة التي يمررها الإعلام الصهيوني في العالم.

ثمة شيء فني وتاريخي يعبّر عنه الفيلم تعبيرا مثاليا، أو ربما عن إعادة معرفتنا بتعريف وسياق الفيلم الوثائقي أساسا يخص الأرشفة التي تبدو سلاحا مثاليا ضد إسرائيل، أو أي محتل آخر. فالمحتل الذي يعيد إنتاج التاريخ وفق خطاب جديد يرى نفسه جزءا منه، ولا يمكن تكذيب تلك الادعاءات إلا بالوصول إلى القديم التاريخي، فكل قديم هو سلاح جوهري ضد المحتل.

فالتاريخ عموما هو إدانة كافية لو بقيت كما هي. وربما لا نجد في القضية الفلسطينية كلها ما جعلها تصمد لليوم، أشياء أهم من حفاظ الفلسطيني على تاريخه، ثم إعادة إنتاجه في سياقات شتى، تكشف زيف الرواية الإسرائيلية المضادة.

تاريخ من الإدانة البصرية لإسرائيل

في كتاب “مذكرات ثقافة تحتضر”، يعيد د. شكري غالي تصوّر مفاهيم الحرية، من خلال عدة نماذج، كان على رأسها إعادة تخيل محاكمة سقراط، وبالتحديد إعادة طرح جزء من خطاب يتحدث فيه مع السلطة التي حكمت عليه بالإعدام.

لم تكذّب المحكمة خطابه فقط، بل سعت إلى إخفائه وعدم ترديده. يقول: إنكم مخطئون إذا ظننتم أنكم بقتلكم الناس ستمنعون أي ناقد من كشف شروركم، لا ليس أيسر الطرق وأشرفها أن تكمموا الأفواه.

كانت تلك الكلمات من خطاب طويل، يتحدث الكاتب فيه عن مفهوم الحرية، ويمكن إعادة تخيّله هنا في سياق مختلف، بدلا من الخطاب الحقيقي الذي يطرحه سقراط ويمحوه الآخر، قبل أن يعيد خلقه في شكل مختلف، فإن السردية التي يطرحها جعفري عن فلسطين في “الفيلم عمل فدائي” مشابهة، في وقت يطرح هو خطابا من التاريخ دون تدخل كبير، إذ يحاول الإسرائيلي محوه وإعادة بنائه بوجهة نظر عكسية.

أطفال يهود يعتدون على أقرانهم من الفلسطينيين

هذا التبادل أو “التخريب” بين السردية الفلسطينية (المخرج كمال الجعفري) عن التاريخ، وبين جزء كبير من خطاب الأفلام الصهيونية تقف في مواجهة مباشرة. وإذا كانت الثقافة لدى د. شكري غالي “تحتضر” بطرح سرديات بديلة خطأ، فإن الجعفري يعيد إحياء ذلك في كل مرة يؤرشف فيها التاريخ المسكوت عنه.

هذه هي النقطة المركزية؛ فالفيلم هنا ليس صراعا طويلا للتوثيق، ولا يطرح صورته في قصة شيقة ومونتاج مبهر، بل هو تضحية كاملة بالغطس طويلا في أرشيف مجهول ومجهّل، لمسح التراب من حوله وإعلانه والوقوف أمامه مرة أخرى، وتلك طريقة للحرب بجانب الحرب المستمرة بالسلاح.

كل يوم تسعى السلطات الإسرائيلية لمحو ذلك الأرشيف بالتوازي مع تزييف الجديد، محو منهجي لتفكيك الخطاب الفلسطيني الذي يقر بمشروعية الأرض والتاريخ، ويقول كثيرا عن التجاوزات اليومية التي تحدث، ويدين الخطاب من اللحظة التي خرج فيها ادعاء 1948، وصولا للحظة التي يبرر فيها الرئيس الأمريكي الجديد “البلطجة” والدمار والسرقة الإسرائيلية.

تدمير القرى الفلسطينية وطرد أهلها منها

يكذّب الأرشيف كل ذلك بلا أسلحة، لذلك يزعج الإسرائيلي ومن يدافع عنه كثيرا، فما لدينا من أرشيف فلسطيني مكتوب ومصوّر اليوم -بحسب مصادر إسرائيلية- لا يتعدى 2% اليوم، وأما ما بقي فتعمد السلطة الصهيونية إلى إخفائه. تلك النسبة المرعبة التي تبقى لكل عربي اليوم، ليخرج مشروع كمال جعفري، سواء فيلمه الأحدث الذي عرضه “الإسماعيلية السينمائي” أو غيره غنيمة أرشيفية، أعاد مونتاجها للتوثيق.

في فيلمه الأقدم “استعادة” يتساءل جعفري سؤالا بصريا ممتدا: كيف ننهي الاستعمار؟ تبدو الصورة في فيلم “استعادة”، تفكيكا لكل ما في الذهن عن الداخل الفلسطيني. كان ذلك تحديدا في عام 2015، أي قبل طوفان السابع من أكتوبر 2023 بزمن طويل.

يوثق الفيلم نظرة فلسطينية تعيد التفكير من خلال 50 فيلما روائيا إسرائيليا، عُرضت ما بين عقدي الستينيات والثمانينيات، ويعيد النظر في تلك الأعمال من خلال الأشياء التي يهمّشها الإسرائيلي في فيلمه، بينما دون أن يدري تصبح وثيقة إحياء، لواقع ينكره الفلسطيني مع الوقت كما أنكر غيره.

كذلك في فيلم “الفيلم عمل فدائي”، فإننا نقف أمام حادثة مركز الأبحاث الفلسطيني الذي نهبته إسرائيل سنة 1982، وفجرّته لاحقا كما تقول أغلب الروايات بواسطة عملاء لها في سنة 1983.

ومع أن فيلم الجعفري الجديد لا يدور حول مركز الأبحاث ذاته، فإن الفيلم -كما يقول- “ليس توصيفيا أو تاريخيا، فمركز الأبحاث كمنطلق للفيلم، لغته الأساسية، خلق صورة مضادة وأرشيف مضاد للأرشيف الكولونيالي السائد”. وفي سياق فيلمه الجديد “الفيلم عمل فدائي”، فإنه يستخدم مواد من الأرشيفات الإسرائيلية.

والأمر الذي يجعل مشروع الجعفري شديد الذكاء هو الحديث من لغة الإسرائيلي نفسه، فهو تكذيب من منطلق أفكاره، وليست مجرد تنفيثات مكبوتة عن التوحش الإسرائيلي فقط.

الأيادي الصهيونية الملطخة بدماء الفلسطينيين

يفهم جعفري جيدا الخطاب والوسيلة التي يقدّمه بها، ففي كل عمل يحمل كمال جعفري على كتفه فكرة إعادة تفكيك أو “تخريب” الصورة المفروضة رؤيتها، وفق الإسرائيلي أو المؤيد له تماما، كما لدى المعارض.

“الفيلم عمل فدائي” يطرح عنوانه من البداية، للاتفاق أنه بمنزلة سلاح محمّل بالذخيرة، لا مجرد توثيق للكذب، أو إدانة مباشرة تماما فقط، بل تورّط بصري عنيف ضد القتل والسحل والسرقة اليومية التي يمارسها الإسرائيلي، في أرض لا يمكن أن نعد شبرا واحدا منها إسرائيلي الأصل كما يقول الادعاء. فالفيلم إذن تحريض على الغضب والوقوف أمام كل ذلك بصريا، فالصورة تستخرج الاستفزاز فقط.

في أحد مشاهد الفيلم، يقترب مرتزقة إسرائيليون من أطفال فلسطينيين يلعبون الكرة في الشارع، وتتابع الكاميرا من بعيد هذا المشهد الذي يبدو عاديا، إلى أن يسرق العسكري الإسرائيلي الكرة من الطفل الفلسطيني الصغير، بلا سياق على الإطلاق، ويبعده بعنف بسلاحه، ويأخذ الكرة ويمشي.

تترك الكاميرا المشهد بلا تعليق صوتي أو مكتوب، تتفادى التعليق المباشر، لكنها تحرض على الغضب، وعدم تفهّم السلوك الحيواني الذي يُمارس على طفل. فهنا صغير يحاول اللعب في أرضه، التي يشعر فيها بالأمان، في حين يمنعه الإسرائيلي من ذلك، فتبدو معركة صفرية لا تمثّل شيئا، لكنها كاشفة نوعا ما.

هل نتحرك من مجرد الإدانة يوما ما؟

يبدو الفيلم في أغلب جوانبه فيلما صامتا يكتفي بإعادة تخيل الوضع.. كيف حدثت الأمور، وأين يقف الفلسطيني وسط كل ذلك؟

البطل الحقيقي في صناعة ذلك الفيلم كان إعادة تحريره ومونتاجه، ضمن سياق يطرحه مثل مرور عابر على أماكن وأشياء مختلفة، تقول بحساسية أهل الأرض وأرشفة تاريخهم، في مقابل المحو الإسرائيلي.

في المهرجان، وضمن المسابقة الطويلة للأفلام، كان ثمة فيلم لبناني اسمه “خط التماس” يطرح الفيلم اللحظة التي حملت فيها كافة الطوائف داخل لبنان أسلحتها أمام بعضها للدفاع عن نفسها، تلك اللحظة التي تقرر المخرجتان طرح سؤالهما عنها: من المسؤول عن كل ذلك؟

تجسيد لضحايا الاحتلال عبر العقود

المخرجة العربية فداء مع الفرنسية “سيلفي باليوت” تمرران تساؤلهما على الجميع، فقد نشأت فداء بزري -التي تشارك في الإخراج ويحكي الفيلم قصتها- في بيروت في الثمانينيات، فكانت تسمع قصص جدتها عن “الجحيم الأحمر”، وها هي الآن بدأت تتساءل عن قيمة الحياة وسط الصراع، وتواجه المسلحين بالمنمنمات، وتقارن بين منظورها الطفولي ومنظورهم.

يدين الفيلم الجميع تماما كما شعار الثورة: “كلّن يعني كلّن” (جميعهم يعني جميعهم). وبينما تمر المخرجة في “خط التماس” بلا إدانة للسبب الحقيقي وراء الحرب الداخلية في الوقت الذي يطرح كل مشهد ذلك، يتحرك “الفيلم عمل فدائي” في مهمة مضادة تماما، تدين إسرائيل في كل مشهد، من غير أن تقول أي شيء.

يمكن صيف “الفيلم عمل فدائي” بأنه العمل الأكثر راديكالية في مسابقة المهرجان؛ راديكاليا خطابيا مع ندرة الحوار داخله أو التعليقات فيه، وتجريبيا بصريا للدرجة القصوى. فيلم ضمن عدد قليل من الأفلام التي تعيد القضية الفلسطينية سينمائيا بأشكال تفهم الوسيط السينمائي وتجرّبه. فقد جعل فلسطين حاضرة في قلب نقاشات “الإسماعيلية السينمائي”.


إعلان