مهرجان سالونيك للفيلم الوثائقي الـ27.. دورة غارقة في السياسة والبيئة والحروب

مع أن هذه المدينة تضجّ بالحياة نهارا وليلا، وهي عامرة المقاهي والمحلات التجارية، وتراقص كورنيش شاطئ بحر إيجه الذي تطلّ عليه، فإنها لا تنسى الاهتمام على ما يبدو بقضايا محلية وعالمية.

يخرج المعترضون إلى شوارعها للتعبير عن غضبهم، في قضية مضى عليها عامان، وراح ضحيتها أبناء لهم في حادث اصطدام قطار، ويحتجّ آخرون في ساحة تعج بالمطاعم على طرد زملاء من مؤسسة سياحية، في بلد يعد وجهة مفضلة لسياح العالم، ويعبّر آخرون عن تضامنهم مع غزة واهتمامهم بقضايا العالم، واطلاعهم الدقيق عليها، من خلال حلقات نقاش تجري في دور السينما بعد عرض فيلم ما.

الملصق الدعائي لمهرجان سالونيك 2025

نشهد هذا خلال انعقاد مهرجان “سالونيك” الدولي للفيلم الوثائقي، وهو مهرجان يثبت دوره في توثيق الواقع من خلال خياراته، وقد عقدت الدورة السابعة والعشرون منه هذا العام، ما بين 6 إلى 16 آذار/ مارس.

في حفل الافتتاح أعلنت مديرة المهرجان “إليز غالادو” أن هذا التوثيق بات أكثر من مجرد فيلم، إنه عمل تحدّ ضد العبث الذي نعيش فيه، فالأفلام الوثائقية اليوم تتساءل عن الأكاذيب، وتعزز التفكير النقدي، وتذكرنا أنه حتى في هذا الظلام توجد بدائل.

دورة تئن بهموم العالم السياسية والبيئية

تعكس اختيارات المهرجان المتنوعة ذلك، فالأخطار المحدقة بالعالم اليوم من حروب وكوارث بيئية وتحولات اجتماعية تتجلى واضحة في الأفلام المشاركة في شتى الأقسام، منها أفلام عن أوضاع سياسية (غزة وروسيا) وأخرى عن عالم مهدد بأخطار بيئية (تصحر الغابات، واكتظاظ المدن، وانقراض الطيور).

وكذلك مواضيع اجتماعية عدة كانت وما زالت أساسا متينا للوثائقي، تتناول وتتعامل مع الصدمات التي تنتقل عبر الأجيال، وتتصور التحرر من كل أشكال القمع، وتتأمل مستقبل البشرية، وترسم خريطة لعلاقتنا بالبيئة، وتقف ضد كل أشكال التمييز والتحيز.

“متمرّدات أيسلندا” وثائقي عن النساء يوم المرأة العالمي

قضايا ملحة وحديثة في الأفلام الوثائقية الثلاثين -ومنها تسعة يونانية- المشاركة في أقسام المسابقة الثلاثة؛ “المسابقة الدولية”، وقسم مسابقة “الوافدون الجدد”، ومسابقة “إلى الأمام”.

تتنافس هذه الأفلام أول مرة عالميا أو دوليا أو أوروبيا، وتتطلع إلى جوائز المهرجان الرسمية فضلا عن الجوائز المستقلة، التي يصاحب معظمَها جوائز نقدية. كما سيكون الفائز بجائزة الإسكندر الذهبي في المسابقة الدولية مؤهلا تلقائيا للتقدم للترشح لجوائز الأوسكار في فئة الأفلام الوثائقية الطويلة.

هناك أقسام أخرى غير تنافسية في المهرجان، لا تقل أهمية عن تلك المشاركة في المسابقات الرسمية الثلاث، ومنها “آفاق مفتوحة”.

“التعايش هراء”.. كوميدية يهودية تكافح من أجل المساواة

تقدم الممثلة الكوميدية “نعوم شوستر إلياسي” عروضا فردية سياسية، تتناول النضال من أجل المساواة التامة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وتقضي أوقاتها في العمل على هذا، وهي ابنة أمّ إيرانية يهودية، وأب روماني يهودي، وقد ولدت في إسرائيل.

الفيلم الوثائقي “التعايش، في المؤخرة”

وتقول إنها فشلت من خلال عملها في الأمم المتحدة بتحقيق أي تقدم في هذا المضمار، فتحولت نحو العرض الكوميدي الفردي. وقد اهتمت المخرجة اللبنانية الكندية أمبر فارس بهذه الشخصية النادرة في المجتمع الإسرائيلي، وعملت عنها فيلمها الوثائقي “التعايش هراء”. (Coexistence, My Ass).

بإيقاع سريع مشوق، يكشف هذا الفيلم المهم أعماق الأفراد في المجتمع الإسرائيلي، وخيبات هؤلاء الذين لا يقبلهم مجتمعهم، بسبب نظرتهم الموضوعية، وبحثهم عن الحق وحقوق الآخرين.

“تحت الأعلام والشمس”.. عودة إلى ديكتاتورية باراغوي الطويلة

يستعيد فيلم “تحت الأعلام والشمس” (Bajo las banderas, el sol) لـ”خوانغو بيريرا”، تاريخ باراغواي، وسقوط دكتاتورية “ألفريدو ستروسنر” عام 1989، أحد أطول الأنظمة الاستبدادية في العالم، وقد حكم 35 عاما.

بلا سرد ولا تعليق مصاحب، يستعين الفيلم بكنز ثمين منسي من الأرشيف البصري والسمعي المحلي، من الأخبار والتلفزيون وأفلام الدعاية للنظام والوثائق السرية، فيستعيد الحرب الباردة، والتحالفات الدولية.

إنه فيلم غني ومدهش عن لعبة القوة التي تنتهجها الديكتاتوريات والآليات الخفية للسلطة، لتزدهر عبر بناء الفكر التلقيني وعبادة الشخصية والاحتفال بالنظام.

“طفل الغبار”.. جنود أمريكيون نسوا أبناءهم في فيتنام

يدور فيلم “طفل الغبار” (Child of Dust) للبولندية “فيرونيكا ملكزيوسكا”، عن واحد من آلاف الأطفال غير المرغوب فيهم، والمهمشين الذين تخلى عنهم الجنود الأمريكيون بعد حرب فيتنام.

فيلم “طفل الغبار” للبولندية “فيرونيكا ملكزيوسكا”

لقد تحقق حلم أحدهم بعد أن بلغ 55 عاما، فوجد والده بعد طول بحث، ولكن المواجهة لم تكن سهلة، فعلى الابن أن يواجه تحديات عدة، منها نقاط ضعفه وصراعاته الداخلية وندوب الحرب العميقة.

الفيلم أسئلة عميقة حول الهوية والفجوة بين عالمين وثقافتين مختلفتين تماما.

“انطلاق المباراة”.. متعة بصرية تحكي قصة فريق نسائي

بعيدا عن السياسة، عُرض فيلم “انطلاق المباراة” (KICK-OFF)، الذي يتابع فيه المخرجان الألمانيان “روزر كوريللا” و”ستيفانو أوبينو” فريقا نسائيا لكرة القدم بقرية نائية في قرغيستان.

 مشهد من فيلم “انطلاق المباراة” 

إنه فيلم مبهج بألوانه وجذبه البصري، وبشخصياته النسائية المرحة النشيطة، التي تجد في لعبة كرة القدم متنفسا بعد يوم حافل بالعمل، مقسم بين مهام عدة، منها رعاية الأطفال والبيت والتدريس، أو التمريض وجز الأعشاب، أو حلب البقرات، وكل المهام التي تقع على عاتق المرأة وحدها.

يُظهر الفيلم دور الرياضة واللعب معا، بوصفهما التعبير الأكثر تلقائية عن الفرح البشري، وجاء الإخراج متوائما مع هذه العفوية، سلسا خاليا من التكلف.

“نوفاماكس سكاي لاند”.. فيلم يلتقط جمال مدينة أثينا وقبحها

يستضيف قسم “إلى الأمام” التنافسي أفلاما مبتكرة، تتحدى السائد وتستخدم لغة سينمائية جريئة ومتميزة. ومن الأفلام العشرة التي عُرضت، لفت الانتباه فيلم “نوفاماكس سكاي لاند” (Novamax Skyland)، للمخرجة اليونانية “ديونيسيا كوبانا”، ويشير العنوان إلى علامة تجارية لأطباق استقبال البث التلفزيوني، التي تمتلئ بها سطوح الأبنية في أثينا.

الفيلم اليوناني “نوفاماكس سكايلاند” في مسابقة إلى الأمام

وعلى مدى ساعة وعشرين دقيقة، تجول الكاميرا بين شرفات المدينة، تتابع الفصول وما يلحقها من تبدل في المنظر العام. وتلتقط قصصا عابرة لسكان من خلال شرفاتهم، قصص مجتزأة وإيماءات لأفراد لا يرون الكاميرا في مدينة يتعايش الجمال فيها (المزروعات والجبال المحيطة) والقبح (الأبنية السكنية وكثافتها وعشوائيتها واحتلالها للمساحات الخضراء).

لا أصوات إلا صياح من هنا، أو مشاجرة هناك، أو صوت آلة تقطع الأشجار، أو طائرات تحلق في عرض عسكري، أو إذاعة تعلن وصول طائرات جديدة، أو حريق هائل على أطراف المدينة. فيلم يقترب من حياة الناس بلا فضول، ويعلن عن مدينة دون كلام وشرح.. إنه جذاب مع أنه طويل.

“صمود”.. كفاح البيئة في أرياف تعبث بها يد الإنسان

فيلم آخر عن البيئة في مسابقة “وافدون جدد” قادم من جمهورية التشيك، إنه فيلم “صمود” (Resilience) للمخرج “توماس إلسيك”، فيلم بديع في تصويره وإطاراته، وأيضا في طرحه لقضايا بيئية معاصرة، داعيا للتفكير بدور البشرية، في عالم يتأرجح على حافة الهاوية، مسلطا الضوء على هشاشة الطبيعة العميقة والعواقب الوخيمة لأفعال الإنسان.

الفيلم التشيكي “صمود” في مسابقة قادمون جدد

نرى أفرادا يكرسون حياتهم لإنقاذ الطبيعة، ومنهم “بافيل” الذي يعتني بمروج تضررت، بسبب إزالة الغابات في وسط المساحات الخضراء الشاسعة بالريف التشيكي، كما يسعى للحفاظ على الأنواع النباتية النادرة.

أما “كلارا” فتعمل في جمعية علم الطيور، ونراها تجوب الأرض مع كلابها، بحثا عن مصائد طعم غير قانونية، فتكشف التهديدات التي تواجه الحيوانات المحلية، ومنها النسر ذو الذيل الأبيض، ويتبع الفيلم أسلوب الإثارة في بحثه عن قاتل الحياة البرية.

“أبو زعبل”.. محاولة التعافي في عائلة أرهقتها السياسة

شاركت أفلام عربية في قسم “آفاق مفتوحة” غير التنافسي. فمن مصر فيلم “أبو زعبل” لبسام مرتضى، وفيلم “رفعت عيني للسماء” لأيمن الأمير وندى رياض. وكانا قد شاركا في مهرجانات عدة، ولهذا لم يشتركا في المسابقات الرسمية.

في فيلم “أبو زعبل”، يمزج بسام مرتضى بين الذاتي والعام في سياق سياسي، ويستعيد ذكريات طفولته بعد 35 عاما، مستعينا بنقاشات مع والديه، ومقابلات مع الأصدقاء، وتسجيلات قديمة، وصور وقصاصات من الصحف.

الفيلم المصري “أبو زعبل” في مسابقة آفاق مفتوحة

بسام هو ابن ناشطين سياسيين، وقد زار -وهو ابن 5 سنين- أباه محمود أول زيارة في سجن أبو زعبل سيئ السمعة، وهو يحاول اليوم فهم الأسباب، ومداواة جراح أسرته المحطمة، كاشفا في نفس الوقت الظروف السياسية، وتاريخ مصر المعاصر في ذلك الوقت.

“رفعت عيني للسماء”.. فتيات يحلمن بتأسيس فرقة مسرحية في الصعيد

في “رفعت عيني للسماء”، يتابع المخرجان أيمن الأمير وندى رياض فتيات قبطيات بإحدى قرى الصعيد، ويعرض أحلامهن بعمل مسرح جوال في القرية، ينددن فيه بما يفرض عليهن من قيود اجتماعية وأعراف لا ترى المرأة أكثر من ربة بيت وزوجة، وإن كان هذا دورا مهما فهذا لا يعني فرضه على النساء، بل ينبغي أن يتركن يخترن.

فيلم “رفعت عيني للسماء”

الفيلم واقعي في نظرته، ولا يحاول فرض فكره أو فرض انتصارها، فهو يبدي الواقع كما هو، وبعض الفتيات من هؤلاء قد اخترن الحياة الزوجية والتربية، متخليات عن حلم الفرقة. ولكن بعضهن أو واحدة منهن تابعت حلمها، وفتحت الطريق أمام أخريات.

الفيلم شائق مع أن بعض المشاهد لم تبد تلقائية، بل كأنها مزج بين فيلم وثائقي ينقل الواقع، وآخر روائي يخترعه.

“خرطوم”.. خمس قصص تختزل حكايات السودان المنهك

من السودان يحضر فيلم “خرطوم” لأنس سيد وراوية الحاج إبراهيم، ويدور حول حياة خمسة أفراد من عوالم مختلفة في مدينة واحدة، يكافح كل على طريقته للحياة والقتال من أجل الحرية، في بلد تغرقه اضطرابات اجتماعية وسياسية.

“خرطوم”، حياة خمسة أشخاص من عوالم مختلفة في مدينة واحدة

صوّر الفيلم عام 2022، عندما أطاحت القيادة العسكرية بالحكومة المدنية السودانية، ومن خلال لحظات يومية في شوارع المدينة والاحتجاجات والسرديات الشخصية، ينقل الفيلم واقع الحرب الأهلية والنضال من أجل البقاء، وتصميم الناس على إبقاء أحلامهم حية، حتى بعد هربهم ولجوئهم إلى الخارج.

أفلام غزة.. “يجب نقل الرسالة الصحفية بأي ثمن”

عُرض في المهرجان فيلمان عن غزة؛ أحدهما “يلا باركور” للمخرجة الفلسطينية عريب زعيتر، وفيه نستكشف أنقاض غزة وواقعها القاسي، من خلال فريق الباركور الرياضي، وتطرح مع اللاعب مسائل الذاكرة والهوية والانتماء، والتجاذب بين البقاء والرحيل، والتمسك والتخلي.

الفيلم الفلسطيني يالله باركور في قسم آفاق مفتوحة

وجاء “عيون غزة” للمخرج السوري محمود الأتاسي، ليسلط الضوء على استهداف إسرائيل للصحفيين الفلسطينيين، عبر متابعة 3 منهم في شمال غزة، مجبرين على المخاطرة بحياتهم. وبعيدا عن أهاليهم يتحدثون مع السكان المحليين، ويقدمون تقارير عن القصف الإسرائيلي، ويعانون من نقص تغطية الهاتف، يحركهم شعور بالالتزام بالتعريف بالإبادة.

كان المخرج يتواصل مع الصحفيين لعمل الفيلم، وهو ينقل صورة مؤثرة عن الدمار المذهل في غزة، وما يعانيه أهلها، وهذا الاتكال اليومي على الله، الذي لم يبق لهم أحد سواه.

فيلم “عيون غزة” للمخرج السوري محمود الأتاسي

وقد أثار هذا التكرار لذكر الله تساؤل بعض المشاهدين في “سالونيك”، فبقي معظمهم لطرح الأسئلة والتعليق على الفيلم.

فيلم تلفزيوني يترك كبير الأثر في نفوس متلقيه عن الوحشية الإسرائيلية، وكما قال المخرج وأحد الصحفيين الجرحى في الفيلم “يجب نقل الرسالة الصحفية بأي ثمن”.


إعلان