دموع كثيرة وضحك قليل.. مجانين السياسة بكاميرا عقلاء السينما

اشتعلت المنافسة بين الواقع والخيال السينمائي، وشهدت أروقة السياسة ما لم يكن المبدع السياسي يجرؤ على تصويره ولو في إطار الخيال، واحتل المجانين الذي تسربوا إلى قصور الحكم أماكنهم، فأصبحت الأفلام التي كان يقدمها السينمائيون -على أنها تمس أقصى حدود الخيال- واقعا ملموسا يعرض على الشاشة، لكنه واقع يسبب البكاء لا الضحك.

تناولت السينما عبر تاريخها أولئك المجانين بأساليب تجمع بين السخرية والدراما والتهويل، ولعل أشهر هذه الأعمال فيلم “د. سترينغلوف” للمخرج “ستانلي كوبريك”، فقد قدم شخصيات سياسية وعسكرية، منها جنرال مهوس بفكرة الحرب النووية، ليعكس سخرية من التصعيد العسكري خلال الحرب الباردة، وقد استخدم “كوبريك” الكوميديا السوداء لإبراز العبثية في القرارات السياسية المتهورة.

الملصق الدعائي لفيلم “الدكتاتور”

وفي فيلم “الدكتاتور”، يظهر مستبد مجنون مستوحى من قادة حقيقيين، مع مبالغة كوميدية تكشف جوانب سخيفة ومدمرة من السلطة المطلقة، وليس الجنون منحصرا في الشخصية، بل في النظام الذي يدعمها.

وفي فيلم” موت ستالين”، نجد جنونا جماعيا لقادة عدة مات كبيرهم، وهم القادة السوفيات الذين يقعون في حالة فوضى سياسية، ويرصد الفيلم الصراعات الداخلية والقرارات الغريبة التي تبدو غير عقلانية لدى المشاهد.

ومن الاتحاد السوفياتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، يشاهد محبو الكوميديا صورة ساخرة من السياسة الغربية في فيلم “هز الكلب”، فنرى مستشارا سياسيا ومنتجا هوليوديا يتلاعبان بالرأي العام، باختلاق حرب وهمية لصرف الانتباه عن فضيحة رئاسية.

الملصق الدعائي لفيلم “ألوان أولية” بطولة “جون ترافولتا”

ومرة أخرى في أمريكا، نجد فيلم “ألوان أولية”، وهو مستوحى من حملة “بيل كلينتون” الرئاسية، فنرى حاكما جنوبيا ذا طموح سياسي هائل، لكنه مليء بالتناقضات والسلوكيات المتهورة.

ليس الجنون صارخا هنا، بل يتجلى في الفوضى الشخصية والسياسية التي تحيط به، ويظهر ذلك أن القادة الغربيين قد يظهرون بمظهر “عادي” وهم يتخذون قرارات غريبة.

بين جنون الواقع السياسي في العالم وخيال السينما الذي يصور ويتنبأ ويكتشف، تدور أحداث الأفلام الخمسة، التي تعد الأبرز في تصوير مجانين السياسة على الشاشة.

“دكتور سترينغلوف”.. كوميديا تسخر من عبثية السباق النووي

لا يزال فيلم “دكتور سترينغلوف” (Dr. Strangelove) أحد أفضل الأفلام السياسية الساخرة، وهو فيلم كوميديا سوداء جريء، يسخر من جنون الارتياب في الحرب الباردة، والمنطق العسكري، والعبثية المرعبة للردع النووي.

صدر الفيلم عام 1964، في ذروة التوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ويكشف هشاشة وجنونا في عقيدة التدمير المتبادل المؤكد، والتصور بأن التهديد بالإبادة الكاملة سيمنع الطرفين من شن هجوم نووي.

ويكمن جوهر الفيلم السياسي في فرضيته الساخرة بوحشية، فنرى الجنرال الأمريكي “جاك دي ريبر” يشن ضربة نووية أحادية على الاتحاد السوفياتي، بسبب وهمه حول مؤامرات شيوعية، لتلويث “سوائل الجسم الأمريكية الثمينة”.

يعكس هذا الدافع السخيف نقد “ستانلي كوبريك” للنزعة العسكرية اليمينية، وصعود الأفكار المتطرفة في مواقع السلطة الهائلة، فهذا الجنرال السفاح ليس رجلا مجنونا، بل هو رمز للكيفية التي يمكن أن يؤدي بها الحماس الفكري غير المقيد بالعقل أو الرقابة، إلى كارثة عالمية.

يبني “كوبريك” السرد على سلوكيات تتسم بعدم الكفاءة والالتزام الأعمى بالإجراءات، فيصوَّر الرئيس الأمريكي (الممثل بيتر سيلرز) على أنه يحاول يائسا تهدئة الأزمة، لكن يعوقه نظام لم يصمم للدبلوماسية، بل للتدمير.

تمزج مشاهد غرفة الحرب بين الملهاة والرعب، فتجسد رسالة سياسية مركزية؛ ألا وهي أن أقوى القادة هم سجناء المؤسسات التي يقودونها، وقد بدا اتصال الرئيس العقيم مع رئيس الوزراء السوفياتي المخمور مضحكا محزنا، ولكنه كاشف أيضا، فالقرارات التي تؤثر على مصير العالم تتخذها عقول محدودة.

الملصق الدعائي لفيلم “دكتور سترينغلوف”

تجسد الشخصية الرئيسية “الدكتور سترينجلوف”، وهو عالم نازي أصبح مستشارا أمريكيا، وهو مزيج بشع من العقلانية العلمية والجنون الفكري.. ويلمّح به “كوبريك” إلى أن الحرب الباردة ليست صراعا بين الديمقراطية والشيوعية، بل هي فساد أخلاقي أعمق، تتلاشى فيه المذاهب الفكرية، ويبرر التحالف مع الشر سعيا للبقاء.

ليس الفيلم فيلما كوميديا عن الحرب النووية فحسب، بل هو نقد رائع للسلطة السياسية والفكرية ووهم السيطرة، وبعد مرور 60 عاما، لا يزال صدى رسالته يتردد صداها؛ ومفادها: أن الخوف قد يصبح سياسة في أيدي الأقوياء، ويمكن أن يتنكر الجنون في صورة إستراتيجية.

“الديكتاتور”.. جنرال نرجسي جسّد خصال زعماء عرب

يقدم فيلم “الديكتاتور” (The Dictator) الذي أخرجه “لاري تشارلز” (2012) صورة كاريكاتيرية جريئة عن الاستبداد، من خلال شخصية الجنرال علاء الدين (الممثل ساشا بارون كوهين)، وهو الحاكم الأعلى لجمهورية الوادي في شمال أفريقيا.

يقدم الفيلم صورة لاذعة عن الديكتاتورية بالكوميديا المبالغ فيها، التي تكشف العبثية والقسوة والنرجسية الكامنة في السلطة المطلقة.

الجنرال علاء الدين هو مزيج من الصورة التي يصدرها الإعلام الغربي عن معمر القذافي وصدام حسين و”كيم جونغ أون” وغيرهم، ويجسّد ذلك بزيه العسكري الملتهب، ودعايته التي لا تنتهي، وعبادة الشخصية المبنية حول صورته، والأنانية الشديدة، والانفصال عن الواقع الذي يميز كثيرا من الحكام المستبدين.

ولا يقدمه المخرج “لاري تشارلز” شريرا، بل مهرجا سخيفا، يعدم موظفيه حسب هواه، ويسمي لغته باسمه، ويرى أن العالم يدور حول متعته وبقائه.

يجبر علاء الدين على العيش مجهول الهوية في مدينة نيويورك بعد الانقلاب، فيحوّل المخرج النغمة من المهزلة الإمبراطورية إلى شيء يشبه السخرية من سمكة خرجت من الماء. فبعد تجريد علاء الدين من سلطته، تتصادم غطرسته مع القيم الديمقراطية والحياة العادية، كاشفة عبثية نظرته للعالم.

الدكتاتور في سباق الـ100متر للرجال يطلق على منافسيه النار

يتجنب المخرج “تشارلز” طوال العمل إضفاء الطابع الإنساني على علاء الدين بالمعنى التقليدي، مع أنه مجبر على التغيير خلال الفيلم، لكنه لا يتوب ولا يصلح تماما.

يستخدم فيلم “الديكتاتور” الفكاهة لرسم صورة دقيقة للاستبداد الحديث، ويبتكر “لاري تشارلز” و”ساشا بارون كوهين” شخصية مضحكة ومرعبة في آن واحد، وهي انعكاس لعبثية الحكم الاستبدادي وخطورته، قد تكون الضحكات صاخبة، لكن الرسالة السياسية مدمرة بهدوء.

“موت ستالين”.. صراع على السلطة بسخرية تصبغها الدماء

يعدّ فيلم “موت ستالين” (The Death of Stalin) للمخرج “أرماندو إيانوتشي” (2017) إنجازا سينمائيا نادرا، فهو يغوص في التاريخ السياسي السوفياتي، ويحوّله إلى كوميديا ​​قاسية بدون أن يخلّ بجاذبيته العاطفية. ومع أنه يوصف غالبا بأنه ساخر، فهو كوميديا ​​سوداء، تصطدم فيها الفكاهة بالرعب الحقيقي.

لا يكمن جوهر الفيلم الدرامي في المشاعر المفرطة ولا الخطب الرنانة، بل في هشاشة الحياة المرعبة في ظل الاستبداد، فغالبا ما يكون الضحك هو الرد الوحيد على عالم أكثر من ظالم.

تدور أحداث الفيلم بعد وفاة “جوزيف ستالين” عام 1953، ويتتبع الصراع على السلطة بين أفراد دائرته المقربة، وهم “نيكيتا خروتشوف” و”لافرينتي بيريا” و”جورجي مالينكوف” و”فياتشيسلاف مولوتوف” وآخرون.

يصور الفيلم هؤلاء تافهين، يتخبّطون في ترتيبات الجنازة، ويطعنون بعضهم ببهجة كرتونية، ويصدرون أوامر متناقضة. لكن وراء الفكاهة حقيقة مرعبة؛ فهؤلاء رجال لهم سلطة مطلقة على الحياة والموت، ويعملون في نظام قائم على الخوف والتعذيب والتلاعب.

يوازن المخرج بين الكوميديا ​​والدراما برفضه الفصل بينهما، فينشئ الكوميديا من العنف والقمع، وهي كوميديا محزنة بقدر ما هي مضحكة، فنشهد تنفيذ إعدامات بلا مبالاة، وعندما تناقَش قائمة بأسماء محكومين بالإعدام، يحدث الأمر كأنه سلوك يومي عادي بلا أهمية.

يؤدي الممثلون أدوارهم بلا لهجات ساخرة ولا إيماءات مضحكة، فنرى “خروتشوف” (الممثل ستيف بوسيمي) ماكرا محسوبا، أما “بيريا” (الممثل سيمون راسل بيل) فيخفي وراء سحره الزائف شعورا بالتهديد. ويرتكز أداء الممثلين على الكوميديا ​​في أجواء شخصية حقيقية، مما يجعل التحول النهائي إلى وحشية علنية يبدو طبيعيا لا صادما.

الملصق الدعائي لفيلم “موت ستالين”

ولعل الجانب الأكثر دراماتيكية في الفيلم هو كشفه البطيء لقسوة النظام، فما يبدأ سلسلة من الاجتماعات السخيفة والمناورات السياسية يصبح عنفا صريحا، يتضمن اعتقالات وجرائم قتل وخيانة.

وتُعرض مذبحة “بيريا” قرب النهاية بصمت مرعب، يتناقض تناقضا صارخا مع المزاح السابق، مذكرا المُشاهد بأنه تحت الكوميديا، لكنها كوميديا بلون الدماء. وليس هذا التحول في النغمة خروجا عن إيقاع الفيلم، بل هو غايته الطبيعية، مؤكدا على مدى التقارب الحقيقي بين الكوميديا ​​والمأساة في الأنظمة الشمولية.

“هزّ الكلب”.. قلق يغلي تحت أجواء الفكاهة

فيلم “هزّ الكلب” (Wag the Dog) للمخرج “باري ليفينسون” (1997) هو كوميديا ​​سياسية ساخرة، ذات طابع كوميدي أسود، وتكشف آليات التلاعب الإعلامي والخداع الحكومي.

يزدهر الفيلم بالحوارات الذكية والسيناريوهات السخيفة، لكن تكمن قوته الحقيقية في الدراما المقلقة، التي تغلي تحت أجواء الفكاهة، فالضحكات ذكية ولاذعة ومتكررة، لكنها مصحوبة بقلق دائم، ويدرك المشاهد أن المهزلة التي تتكشف على الشاشة ليست ممكنة فحسب، بل قابلة للتصديق بشكل مرعب.

قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تهدد فضيحة جنسية فرص الرئيس الحالي في الفوز، ولتشتيت انتباه الجمهور، تُختلق حرب وهمية في ألبانيا، مرفقة بأغاني وطنية ولقطات حربية وبطل حرب خيالي، ويرعى اختلاقها خبير العلاقات العامة “كونراد بريان” (الممثل روبرت دي نيرو) بسخرية هادئة، والمنتج الهوليودي “ستانلي موتس” (الممثل داستن هوفمان).

تتميز كوميديا ​​الفيلم بالذكاء ثم الذكاء، لا سيما في التفاعلات السريعة بين “بريان” و”موتس”، اللذين يتعاملان مع الخداع العالمي بنفس الكفاءة العفوية، التي يتعامل بها التصوير التجاري.

ولكن وراء هذا الإيقاع السريع تكمن دراما الفيلم الحقيقية، فنرى السهولة المرعبة التي يمكن بها اختلاق الحقيقة، وسرعة أن يصبح الخيال حقيقة في أيدي أولئك الذين يتحكمون في السرد، ولا تلقي عبثية الحبكة بظلالها على الأخطار.

الملصق الدعائي لفيلم “هز الكلب”

ويكمن التوتر الدرامي في أن هذه الأوهام الإعلامية تؤثر على الرأي العام والسياسات وحياة البشر، فتبدأ عواقب القرارات الجنونية تظهر، وتتغير مسارات الطائرات، ويحشد الجنود، ويبدأ الجمهور احتشاده خلف صراع مختلق. ويضمن إخراج “ليفينسون” ألا يصبح الأسلوب كوميديا ​​هزلية، بل يحتفظ بما تعنيه الحكاية، ليعكس فسادا عميقا في الأنظمة الديمقراطية.

لا تنفصل الكوميديا ​​والدراما في الفيلم، فلا يضحكنا “ليفنسون” وكاتب السيناريو “ديفيد ماميت” فحسب، بل يجعلاننا نتساءل عما نؤمن به، ومدى سهولة التلاعب به. والنتيجة فيلم مسلٍّ ومقلق في آن واحد، مضحك ومؤرق. ففي عصر “الأخبار الكاذبة” والاستعراض الإعلامي، ازدادت أهمية الفيلم وإثارة للقلق.

“ألوان أساسية”.. هوس بالسلطة على حساب القيم الأخلاقية

ألهمت رواية “جو كلاين” (1996) كاتب السيناريو “إيلين ماي”، فاقتبس منها فيلما يحمل اسمها “ألوان أساسية” (Primary Colors)، وأخرجه “مايك نيكولز” (1998)، وهو ليس كوميديا ​​سياسية، بل كشفا دراميا للانحلال الأخلاقي في غلاف من السخرية، فيثير ضحكا كثيرا، لكن الفكاهة لا تكاد تخفي الثقل العاطفي والأخلاقي الذي يثقل كاهل القصة.

تدور أحداث الفيلم حول الحاكم “جاك ستانتون” (الممثل جون ترافولتا)، وهو سياسي جنوبي، يجسّد بوضوح شخصية الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون” وفريق حملته الانتخابية الذي يؤمن به، ليس لأنه مثالي، بل لأنه قد يمثل شيئا أفضل، من خلال عيون “هنري بيرتون” (الممثل أدريان ليستر)، الذي يعمل في الحملات الانتخابية، ويشهد تناقض النيّات النبيلة مع ضرورات الفوز القاسية.

بلهجة حماسية وحيوية، تقدم اللحظات الكوميدية سلوكيات “ستانتون” المبالغ فيها، وفوضى الحملة الانتخابية المتعثرة، وكذلك تصرفات “ليبي هولدن” (الممثلة كاثي بيتس) الفاضحة، لكن مع تقدم أحداث القصة، تبدأ تلك الضحكات تختفي.

وتبرز عيوب “ستانتون” وخياناته وتلاعباته وتنازلاته الأخلاقية، فلا تكون نزوات محرجة، بل أعراضا لنظام فردي، تعلو فيه الشخصية على المصالح العامة، والحقيقة قابلة للتفاوض. وتبرز الدراما الحقيقية عندما يتعين على “هنري” والجمهور، أن يقرر ما إذا كان الفوز يستحق ثمن النزاهة.

يبدع المخرج “نيكولز” في بناء التوتر داخل الكوميديا، وخير مثال على ذلك هو الحبكة الفرعية التي تتناول خصما سياسيا ذا ماضٍ مشكوك فيه. إن أساليب الحملة القذرة لإسقاطه -مع أنها اتسمت بالسخرية والفكاهة السريعة- تبدو في النهاية وحشية ومتطفلة.

يضعف الألم الذي يسببه ضحك الفريق، وتكشف هذه المشاهد رسالة الفيلم العميقة؛ ألا وهي أن الصالحين في سعيهم للسلطة قد يصبحون متواطئين في أفعال مفسدة للأخلاق.

جون ترافولتا” في دور الرئيس الأمريكي “بيل كلينتون”

يستخدم فيلم “ألوان أساسية” الكوميديا لإغراء المشاهد، والدراما لإيقاظ وعيه، فيجبر الجمهور على مواجهة الحقيقة المزعجة، المتمثلة في أن المثالية غالبا ما تكون الضحية الأولى في السياسة الحديثة.

ختاما، لم يكن ما قدمه المخرجون الخمسة في هذه الأفلام خيالا خالصا، بل جاءت جذوره من واقع السياسة البائس، وقد بالغ صناع الأفلام في تصوير الجنون، حتى اقترب ما قدموه من الواقع.


إعلان