مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي الـ59.. قصص إنسانية ملهمة وحكايات من الشرق

أكبر مهرجان سينمائي في جمهورية التشيك، وأحد أقدم المهرجانات السينمائية في القائمة “أ” (A)، وتلك فئة المهرجانات الكبرى مثل “كان” و”برلين” و”البندقية” و”سان سيباستيان” و”مونتريال” و”شنغهاي” و”طوكيو”.

إنه الحدث الأهم في جميع أنحاء أوروبا الوسطى والشرقية لدى صانعي الأفلام والمشترين والموزعين والصحفيين، إنه مهرجان “كارلوفي فاري” السينمائي الدولي (KVIFF).

مهرجان “كارلوفي فاري” الـ59 السينمائي الدولي 2025

نُظمت دورة هذا العام بين 4-12 تموز/ يوليو 2025، بغياب رئيسه “يري بارتوشكا”، الذي توفي منذ أشهر، وتكريما لجهوده الكبيرة في السينما التشيكية منذ 50 سنة، وفي تطوير المهرجان منذ عام 1994، عُرض في حفل الافتتاح -خلافا للعادة- فيلم “علينا أن نؤطره!” (2025) وهو عبارة عن حوار معه أجراه التشيكيان “ميلان كوشينكا” و”جاكوب جوراسيك” في تموز/ يوليو 2021.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

الفيلم إلقاء نظرة على الذات في مرآة ذكريات رجل رفض بشدة كل اقتراحات عمل سيرة ذاتية أو فيلم عنه، لكنه في هذا الحوار يلامس مواضيع عددا، من أيام مدرسته والثورة المخملية، إلى لقاءاته مع النجوم. وقد مسّ الفيلم قلوب الجمهور فمنحه جائزته.

تكريم “يري بارتوشكا” رئيس المهرجان الذي رحل قبيل انعقاده

وكعادة المهرجانات الكبرى، فقد كرم المهرجان عددا من السينمائيين العالميين، واحتفل بمرور 50 عاما على ظهور الفيلم الشهير “طائر فوق عش الوقواق” (One Flew Over the Cuckoo’s Nest) للمخرج التشيكي “ميلوش فورمان”، وحضر هذه المناسبة النجم الأمريكي “مايكل دوغلاس”، وهو منتج الفيلم، وقد استقبله الجمهور استقبالا حافلا.

“من الأفضل الجنون في البرية”.. صائد الجائزة الكبرى

تضمنت “الكرة البلورية” مسابقة المهرجان الرئيسية تنوعا تمثل في 12 فيلما، جاءت من إيران وتركيا وبولندا والنرويج والبرتغال وفرنسا والولايات المتحدة وليتوانيا وإسبانيا واثنان من جمهورية التشيك.

وقد فاز الفيلم التشيكي الوثائقي “من الأفضل الجنون في البرية” (Better Go Mad in the Wild) بالجائزة الكبرى، التي تمنح للمخرج والمنتج معا، وقدرها 25 ألف دولار. وهو من إخراج “ميرو ريمو” المعروف بأصالة الأسئلة التي يطرحها في أفلامه، وهذا فيلمه الوثائقي الثالث.

فيلم “من الأفضل الجنون في البرية”

فكرة الفيلم مأخوذة من سؤال استفزازي، طرحه أحد الكتب حول إمكانية قضاء حياة بأكملها في مكان واحد. إذ يصور المخرج توأمين مُتشاجرين، يعيشان حياة غريبة بعيدة عن العصر في مزرعتهما المتهالكة، لكنهما في عالم مجنون كعالمنا، قد يكونان في الواقع أعقل الناس على وجه الأرض، كما رأت اللجنة مانحة الجائزة.

فقد قالت إن الفيلم جرعة من الهواء النقي، أو غطسة سريعة في بركة خارجية، أو لحظة تأمل بينما تقضم بقرة لحيتك. إنها عبارات مبتكرة للقول إنه فيلم يشعرك أنك حر في تجسيده أسلوب الحياة الذي يصوره.

“ليس عدلا”.. حين تتعقد الحياة في إيران يزهر الأمل

في الفيلم الإيراني “ليس عدلا” (Bidad) للمخرج “سهيل بيرقي” تصوير مدهش للحياة المعاصرة في إيران وتغيراتها السريعة، لا سيما بعد حركة “امرأة، حياة، حرية”، التي جسدت تمرد الإيرانيات على وضع الحجاب، وعلى حرمانهن من حقوق أخرى، منها الغناء الفردي مثلا.

بطلة الفيلم الإيراني “ليس عدلا”

فيلم عاطفي وقصة حب بين شابة تهوى الغناء وشاب هامشي، لكن غناء المرأة الفردي ممنوع في إيران، والشابة لا تقنعها فكرة أن تكون صوتا ضمن أصوات أخرى في جوقة موسيقية، بل تريد اختيار أغانيها وكلماتها، لذلك يكون غناء الشارع وسيلتها لإيصال صوتها لجمهور بدأ يتكاثر حولها. يلفت الأمر نظر السلطات، فتوجه لها اتهامات عدة.

يبدي الفيلم معاناة الشباب الإيرانيين وتمردهم، في ظل ضغوط المسؤولين عليهم، وتدخلهم في خياراتهم الشخصية. إنه مبتكر في أسلوبه وجرأته وحيويته وتنقله بين شتى أنواع السينما. في تحولاته السردية المباغتة لفكرة مألوفة، يقدم معالجة جديدة، متجاوزا كثيرا من محرمات السينما الإيرانية.

سهيل بيرقي الإيراني الفائز بجائزة لجنة التحكيم

نال الفيلم جائزة التحكيم الخاصة (15 ألف دولار)، لأنه يعكس الشجاعة اللازمة لإنتاج فيلم كهذا في إيران، وينتهي بنبرة متناقضة لكنها متفائلة، لأنه حيثما تكون هذه الحياة يكون الأمل، كما بررت اللجنة.

جائزة الإخراج.. حصاد القصص الإنسانية المؤثرة

ذهبت جائزة الإخراج لمخرجين اثنين معا، في نوع من تقدير وبادرة إيمان بتنوع السينما، وللقول إن أمامك طرقا عدة لتكون مخرجا عظيما. الفيلمان يمثلان طرفي نقيض من حيث النهج، لكن كلا منهما على حدة يقدم أداء إخراجيا مؤثرا للغاية.

فاز المخرج الليتواني “فيتوتاس كاتكوس” عن فيلم “الزائر” (The Visitor)، وهو أول أفلامه الروائية الطويلة، وقد اختار اللجوء إلى الحرية في الإخراج وإبداء التفاصيل، فيبدو بطله العائد من النرويج إلى مسقط رأسه في ليتوانيا لبيع شقته، كأنه يستغل حرية مفاجئة، تتيح له التصرف على هواه بلا قيود، معتمدا مصادفة اللقاءات وعفوية السلوك في شيء من خفة وعدم مبالاة.

الفيلم الفرنسي “أولاد الآخرين” الفائز بجائزة الإخراج

أما المخرج الثاني الفائز، فهو الفرنسي الشاب “ناتان أمبروزيوني” عن فيلمه “الأولاد أولا” (Les Enfants vont bien)، وهو فيلم مؤثر جميل الصنع، يتميز بعرض ثري وبسيط عن لقاء عائلي غير متوقع بين أختين بعد سنوات عدة.

فحين تزور “سوزان” وطفلاها منزل أختها “جين” من غير ميعاد، يبدو في البداية أنها تحاول إعادة تأسيس العلاقة مع أختها، لكن هذا الوهم يتحطم مع ضوء الصباح، فقد رحلت “سوزان”.

إنه فيلم حميمي، يرسم صورة لامرأة مجبرة على أن تصبح أما لأطفال لا تكاد تربطها بهم معرفة تذكر، وهي قصة بسيطة مؤثرة، وتأمل في الطبيعة الهشة للتعايش الاضطراري، ومدى قوته عندما يولد من الحب.

“بيا شيلتا”.. أداء مؤثر في قصة تكشف خبايا النفس

نالت الممثلة النرويجية “بيا شيلتا” جائزة التمثيل النسائي عن دورها في فيلم “لا تدعوني ماما” (Don’t Call Me Mama) للمخرجة “نينا كناغ”. وعنوان الفيلم نداء موجه من امرأة خمسينية إلى شاب في عمر أولادها، بعد أن وقعت في غرامه.

الممثلة “بيا شيلتا” تفوز بجائزة أفضل ممثلة عن فيلم “لا تناديني ماما”

يبدي هذا الفيلم النرويجي المشاعر المعقدة، في علاقة حب غير متكافئة عمريا واجتماعيا، عبر رابطة تنشأ بين زوجة العمدة، وشاب سوري مهاجر، تلاعب بأوراقه وربما بعواطفها. الشك يحكم مشاعر كتلك، تكشف تعقيد النفس البشرية، وتعيد اكتشاف الذات أمام كل تجربة حياتية جديدة.

يسحر أمير اللاجئ “إيفا” المدرّسة بمواهبه الشعرية، ومع اقترابهما من بعضهما تصبح السيطرة على الأمور مستحيلة، على الأقل من جانبها هي. إنها دراما عن الحب المحظور، والمعضلة الأخلاقية، والنفاق الاجتماعي، والتنكر بثوب الكرم لتحقيق أهواء شخصية، وهذا لجميع الأطراف.

قدمت الممثلة “بيا شيلتا” أداء قويا في تعبيرها عن الشغف المنفلت، وعن اكتشافها خبايا نفسها بعلاقة الحب هذه، وما نبرره لأنفسنا من أكاذيب تحقيقا لرغباتنا.

“أليكس برينديمول”.. تجسيد هاجس الفشل في مهمة أبوية معقدة

ذهبت جائزة أفضل ممثل للإسباني “أليكس برينديمول” عن دوره في فيلم “عندما يتحول النهر إلى بحر” (Quan un riu esdevé el mar) للمخرج “بيير فيلا بارسيلو”، وقد أدى “برينديمول” دور والد فتاة انتُهك شرفها.

المخرج التشيكي الفائز بالجائزة الأولى في مسابقة الكرة البلورية

لقد كانت الفتاة مقبلة على الحياة والحب والدراسة، لكنها بدت محبطة فجأة، وعافت نفسها كل رغبة، فبدأت رحلة محاولة اكتشاف الأسباب مع أبيها ومدرّستها في الجامعة، ثم تكشفت علاقتها مع حبيبها الذي دفعها بإلحاحه لعلاقة لم تكن راضية عنها.

وهكذا يحاول الأب شفاء ابنته من مواجعها، في دور حساس يعلم فيه أنه عاجز عن شفاء الألم.

“مدينة الرمال”.. فيلم بنغالي يفوز في مسابقة “بروكسيما”

في المسابقة الثانية “بروكسيما” فاز الفيلم البنغالي “مدينة الرمال” (Balur Nogorite) للمخرج مهدي حسن. فبحساسيته وشاعريته واعتنائه الشكلي بالصورة، يثبت أن من الممكن صنع فيلم جميل من واقع بشع.

يقدم الفيلم عدة مستويات من القراءة، ويظهر جوانب متعددة من المدينة، وهي هنا دكا العاصمة، في جانبها الحزين الذي يعبر عنه الفقر والتلوث، ولكن أيضا جانبها الحيوي بألوانها النابضة بالحياة.

المخرج البنغالي مهدي حسن يحمل جائزة أفضل فيلم في مسابقة بروكسيما

يتداخل ذلك مع طبقة ثانية من الفيلم، حول تأثير الرمال على دكا المعاصرة، وهو متأتٍّ من أخطار استغلال رمال الأنهار لبناء مساكن جديدة، مما يهدد النهر بالجفاف ثم الموت.

وسيكون للرمال دور آخر في الفيلم، في قصة شخصيتين تسعيان للحصول عليها خفية من المعمل الذي يعملان فيه، وكل منهما له هدفه، وما بحث القروي الفقير عن الثراء السريع ببعيد عنها.

أفلام من الشرق ترصع أقسام المهرجان

حفلت الأقسام الأخرى بأفلام من الشرق، معظمها من إيران، ومنها الفيلم التركي “سينما جزيرة” (Cinema Jazireh) للمخرجة “غوزدي كورال” في المسابقتين الرسميتين، وشارك المخرج السوري عمار البيك بفيلمه “تريباناسيون” في مسابقة “بروكسيما”.

ففيه نتابع على مدى 222 دقيقة ومنذ سبتمبر/ أيلول 2014، معسكر لاجئين سوريين على مشارف برلين. وكان يتعين عليه تصوير شروط الحياة في المنفى وتوثيقها، من غير التزام بقواعد الأفلام الوثائقية المحددة.

ومع تشغيل كاميرا هاتفه دائما، يحول غرفته الصغيرة إلى عالم له قوانينه الخاصة. تتقاطع في الفيلم السيرة الذاتية المكثفة، مع تاريخ أوروبا والشرق الأوسط، وتاريخ الأفلام أيضا.

وشارك في قسم “عروض خاصة” فيلم “اللي باقي منك” للفلسطينية الأمريكية شيرين دعيبس، وهو سرد لتاريخ عائلة فلسطينية منذ النكبة، على خلفية الاحتلال واللجوء والمعاناة. وكذلك فيلم “طهران، وجهة نظر أخرى” (Tehran Another View) للإيراني علي بهراد، و”الأشياء التي تقتل” (The Things You Kill) للإيراني علي رضا خاتمي.

ثم عُرض في قسم “آفاق” فيلم “ضعي روحك على كفك وامشي”، وهو فيلم عن غزة أخرجته الإيرانية المقيمة في فرنسا “سبيده فارسي”، وهو عبارة عن حوارات عبر الإنترنت مع الفلسطينية فاطمة حسونة، التي قتلها الإسرائيليون بعد اختيار الفيلم للمشاركة في مهرجان كان 2025.

المصورة الفلسطينية فاطمة حسونة التي قتلها الاحتلال

وعُرض فيلم “كان مجرد حادث” (It Was Just an Accident) للإيراني جعفر بناهي، الذي نال السعفة الذهبية في مهرجان “كان” 2025. وعرض فيلم “يس” الذي أخرجه الإسرائيلي “ناداف لبيد” المثير للجدل، بسبب مواقفه الناقدة دائما لإسرائيل المعاصرة في أفلامه، وكان قد تركها واختار العيش في فرنسا منذ سنوات.


إعلان