سينما زاوية.. كيف أعادت تقديم الفيلم المستقل للجمهور؟

الوثائقية-خاص

تجربة زاوية في عرض الأفلام المستقلة يمكن اعتبارها تجربة ناجحة بشكل ملحوظ، فالكثير من الأفلام التي عرضت على شاشات زاوية كانت تذاكرها تنفد باستمرار

قبل أيام قليلة أعلنت “سينما زاوية” عن المهرجان الحادي عشر للفيلم الأوروبي. لحظة.. ما هي سينما زاوية؟ وما هو مهرجان الفيلم الأوروبي بالأساس؟ إذا واتتك جرأة السؤال فهذه شجاعة تحسد عليها. في الأيام القليلة الماضية فضل كثيرون التورط بالحماقات على الاستفسار ببساطة، مثلا على العرض الخاص بزاوية على فيسبوك سأل أحدهم: “هل هناك تذاكر نُص للقوات المسلحة؟”(تذاكر نص: أي مخفضة للقوات المسلحة)، بينما تساءل آخر عن قيمة الاشتراك المعلن عنه “وهل هو شهري أم سنوي؟”.. هذه أسئلة مطروحة بحسن نية بالغ، لكنها تفضح الجهل الشديد، وكيف أن زاوية تظل في النهاية أقل شهرة بكثير من أغلب دور السينما في منطقة وسط البلد، مع أنها حققت بالتأكيد انتشارًا كبيرًا في السنوات القليلة الماضية، لكن هذا الانتشار يبقى على ما يبدو محدودًا بطبقات ما يطلق عليها “النخب” و”المثقفين”.

منذ نشأة السينما المصرية والتسميات تلاحقها. ثمة رغبة ملحة في توصيف نوعية السينما المقدمة، أو في فرض السينما التي تفضلها الرقابة، سواء أكانت تلك الرقابة ممثلة في سلطة الدولة أم في سلطة الرقابة المجتمعية. مصطلحات كسينما “أولاد الذوات” وسينما “المقاولات” أو السينما “النظيفة”.. كثيرا ما ترددت على آذان المتابعين، لكن تلك التعبيرات انحسرت في الفترة الأخيرة ليظهر مصطلح جديد، ألا وهو السينما المستقلة.

 

السينما المستقلة.. السينما البديلة

بحسب الباحث محمد رفيع فإن مصطلح السينما المستقلة في مصر هو امتداد لفكرة السينما البديلة التي ظهرت في ستينيات القرن الماضي في أوروبا. ويذكر رفيع في سمات السينما المستقلة أنها تطرح مواضيع بديلة غير تلك الثيمات المكررة التي عادة ما يتم استهلاكها مرارا في السينما التجارية، ولأنها بطبيعتها سينما منخفضة التكاليف فإنها تبتعد عن الجهات الإنتاجية الكبيرة والمعروفة حتى تنجح في الإفلات من ضغط معايير السوق. لذا تأتي هذه السينما متخففة من الكثير من الأعباء الإنتاجية المعتادة، مثل كاميرا السينما الباهظة التكاليف، والاتجاه في المقابل إلى الكاميرات الرقمية. (1)

كما استبدلت السينما المستقلة الهواة بالممثلين المحترفين، ويرى رفيع أن فيلم “جفت الأمطار” (1967) هو بداية السينما المستقلة في مصر، ففي هذا الفيلم قام المخرج سيد عيسى بتحمل تكاليف الإنتاج، ونفذ التصوير في الأماكن الحقيقية في مسقط رأسه بقريه “بشلا” مستخدما أهل القرية الحقيقيين في المجاميع. (2)

ظلت تلك البداية المبكرة فردية وعشوائية، إلى أن استمدت عقب هزيمة يونيو/حزيران دفعة جديدة لتحظى ببداية مختلفة وقوية، ومنحت الفرصة لهذا الشكل من السينما أن يتبلور كمشروع وتيار جماعي من خلال البيان الذي أصدرته جماعة “السينما الجديدة” كما أطلقوا على أنفسهم.

جاء في البيان “السينما عندنا مجرد صنعة وحِرفة تديرها مجموعة من الأسطوات، ونتيجة لسيطرة المفهوم الحِرفي أصبح الفيلم المصري حبيساً داخل البلاتوه ويقدم واقعاً مُصطنعاً مزيفاً.. كما اتخذت السينما عندنا في الإنتاج “نظام النجوم”، حيث يتم إنتاج موضوعات “تُرسم وتفصّل” على مقاس النجم وتكون النتيجة وجود سيناريوهات لا قيمة فنيّة لها، فهي لا تقوم على تحليل واقعنا الإنساني وإنما تُكتب فقط لخلق جو ساحر يُحيط بالنجم.. السينما عندنا عملية تحويل النجم إلى بضاعة تجارية استهلاكية مثل الأحذية الموضوعة في الفيترينات.. السينما عندنا مجرد ديكورات فسيحة غير واقعية غارقة في الأضواء المُبهرجة التي لا وجود لها إلا في خيالات أبطال ألف ليلة وليلة”.

كان من بين المخرجين المنتسبين لهذه الجماعة الجديدة علي عبد الخالق ورأفت الميهي ومحمد راضي، لكن تلك المجموعة لم تنجح إلا في إنتاج عملين فقط هما “أغنية على الممر” و”الظلال في الجانب الآخر” لغالب شعث، فنكسة يونيو لم تكن كافية لتمنح الجماعة القدرة على الصمود لما هو أكثر من ذلك. (3)

 

أفلام الصحبة.. محاولة فاشلة

بعدها يظهر جيل جديد من المخرجين الذين قدموا سينما مختلفة، جيل يحاول بشكل جاد الخلاص من قيود الإنتاج التقليدي، فيحمل مرة أخرى هذه الراية، لتولد جماعة “أفلام الصحبة” التي كان أبرز مخرجيها محمد خان وسعيد شيمي والمونتيرة نادية شكري.

وصف المخرج محمد خان علاقة الجماعة الجديدة بما سبقها بأنها لم تكن تشكل امتدادًا فكريًا بقدر ما هي امتداد إنتاجي، أو “محاولة التوجه الاستقلالي”، لكن الجماعة الجديدة لم تنجح في الصمود أيضًا، واكتفت بتجربتي “سوّاق الأوتوبيس” لعاطف الطيب و”الحرّيف” لمحمد خان.

الفشل المتكرر للتجارب التي تحاول الخروج من تحت عباءة الإنتاج التجاري يثير التساؤلات بالطبع، وهو ما حاول المخرج محمد خان توضيحه في أكثر من مناسبة قائلا إن “تلك التجارب لم تنجح في الاستقلال الكامل بسبب استسلامها للتوزيع التقليدي”، وما قصده خان أن محاولة تلك التجارب التخلص من قيود المنتجين وصناعة سينما فنية في المقام الأول لم تكن كافية، لأن التجربة في النهاية ستصطدم بعقبة التوزيع، حيث إن كل السينمات في مصر هي سينمات تجارية خاضعة للمعايير الإنتاجية ذاتها التي حاولت تلك التجارب التخلص منها. (4)

 

سينما زاوية.. معادلة جديدة

هذا الجانب تحديدًا ما يمنح “سينما زاوية” أهمية كبرى في سياق نجاح تجربة عرض الأفلام المستقلة في السنوات القليلة الماضية، لأنها أكملت المعادلة نوعًا ما، فإذا نجحتَ في إنتاج فيلم مستقل ستجد دار عرض مستقلة أيضًا لعرض فيلمك، أي أنك تخلصت بنسبة كبيرة من إحكام السوق معايير قبضتها عليك، وهو ما يعني أن المبدع سيتحكم بشكل كامل في كل ما يخص العملية الإبداعية دون قيود من المنتج، ودون أن يضطر للخضوع لموازنات إرضاء الجمهور.

يمكن اعتبار تجربة زاوية في عرض الأفلام المستقلة تجربة ناجحة بشكل ملحوظ، فالكثير من الأفلام التي عرضت على شاشات زاوية كانت تذاكرها تنفد باستمرار، وعلى سبيل المثال يمكن أن نذكر فيلم “هدية من الماضي”، لكن الجزء الأهم من هذا النجاح كان لجوء دور العرض التجارية لعرض أفلام مستقلة على شاشاتها، وهو أمر غير مسبوق، بدأ هذا بفيلم “أخضر يابس” للمخرج محمد حماد، وصولًا للفيلم المستقل الأكثر شهرة في الأسابيع القليلة الماضية “يوم الدين” للمخرج “أبو بكر شوقي”.(5)

قبل زاوية كانت الأفلام المستقلة تطاردها سمعة سيئة باعتبارها أفلام “مهرجانات”، أي أنها صُنعت خصيصًا ليتم تداولها في نطاق نخبوي بعينه، وأنها غير صالحة للعرض الجماهيري، لكن ما حدث بعد زاوية هو اكتساب تلك الأفلام لجماهيرية في بعض الأوساط، ومهما بدت هذه الأوساط محدودة فإنها أكبر من ذي قبل، وفي تزايد مستمر.

هذا الأمر يمكن ملاحظته بوضوح بمتابعة ما حدث مع عرض فيلم يوم الدين، فقد نجح العمل في تسجيل رقم قياسي من ناحية الإيرادات، وكسر حاجز المليون جنيه في أسبوعه الثالث، وهو رقم غير مسبوق بالنسبة لهذه النوعية من الأفلام، لا سيما وأن توقيت العرض كان في موسم عيد الأضحى وأفلام الهالوين، وهي فترة تجارية بامتياز، لكن الفيلم نجح في فرض نفسه.

في سياق الحديث عن الجماهيرية التي وصلت إليها زاوية؛ يحكي الناقد محمد حسين عن فتاة يحتفل معها أصدقاؤها بعيد ميلادها في زاوية، فقد أفسد الفيلم عيد ميلادها في ليلة السبت الموافق للسادس من أكتوبر/تشرين الأول، لأنها فشلت وأصدقاؤها في حجز تذاكر لعرض يوم الدين، وكانت هذه هي الليلة الثانية عشرة للفيلم، وقد بيعت كامل تذاكر القاعة الصغرى (75 مقعدًا)، وانتقل بعض الجمهور المتحمس لقاعة أخرى تعرض الفيلم في سينما رينيسانس على بعد أمتار، فاستجابت بعدها زاوية لرغبة جماهيرها وقامت بنقل الفيلم إلى قاعتها الكبرى التي تحتوي على 300 مقعد كانت تمتلئ بالراغبين في مشاهدة فيلم مستقل، وهو نجاح حقيقي للفيلم المستقل ينسب الفضل في كثير منه لوجود سينما زاوية كمتنفس بديل عن السينما التجارية.

المصادر:

(1) “جفت الأمطار، لكن أمطارا أخرى هطلت في سماء السينما البديلة” محمد رفيع-مجلة الفيلم العدد الرابع

(2) المصدر نفسه

(3) نصف قرن على جماعة السينما الجديدة-هاشم النحاس

(4) أفلام الصحبة.. أسئلة وإجابات-حوار مع محمد خان لمجلة الفيلم

(5) كيف حقق “يوم الدين” أعلى إيرادات في “الآرت هاوس”-محمد حسين