مهرجان الجونة السينمائي.. ضجيج وشؤم يلفان الدورة الخامسة المترنحة

قيس قاسم

منذ انطلاق مهرجان الجونة السينمائي قبل خمس سنوات والحديث يجري عن طبيعته التنافسية مع مهرجان القاهرة السينمائي بشكل خاص، لكونه يُعدّ أحد أعرق المهرجانات العربية وأهمها ارتباطا بعراقة السينما المصرية نفسها وإدارته الرسمية التابعة للحكومة، في حين يرتبط مهرجان الجونة بمؤسسه رجل الأعمال المصري نجيب ساويرس، ومن بعده تولّى أخوه سميح مسؤوليته باعتباره صاحب المدينة السياحية، مما يشير إلى صلة بين المشروع الفني وأهداف وغايات تجارية ترتبط به.

هذا الوضع الخاص رافقته حساسيات على أكثر من مستوى، تظهر مرات على السطح ومرات أخرى تبقى تحته، لكن وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي كانت تستثمره، وفي متن ما يُنشر فيها يظهر التشابك والتنافر بين رأس المال المحلي، والسلطة الراغبة في الاستحواذ على قطاع الثقافة وإدارته كما تريد.

فضائح السجادة الحمراء.. حين يقرص الإعلام أذن المهرجان

يعتبر مهرجان الجونة بهذا المعنى المستقل خارجا عن السيطرة الرسمية، وكثيرا ما عبرت أجهزتها عن رغبتها بإشعاره بأنه غير قادر على الفلتان كليا من سطوتها، حيث يجري التعبير عن ذلك عبر ممارسات مختلفة، فمرة بمنع سينمائيين فلسطينيين من أراضي عام 1948 من المشاركة فيه، مما يسمح بإطلاق الإشاعات، وأحيانا بتمرير تهم مبطنة مثل التطبيع.

على السجادة الحمراء في مهرجان الجونة الذي وُصف بأنه مجرد عرض وبهرجة لفنانين وفنانات

 

وعلى المستوى الإعلامي، يجري الإكثار من الحديث عن فضائح وعري أجساد على السجادة الحمراء وفي حفلاتها، مُتهمين من خلالها فنانات وفنانين بتجاوز القيم الأخلاقية لمصر، وأن المهرجان هو مجرد عرض وبهرجة تجري على السجادة الحمراء.

“ريش”.. ثورة المتباكين على سُمعة مصر

في دورة هذا العام تفجر الكثير من بؤر التوتر دفعة واحدة، فبعضها شخصي وآخر شديد الصلة بالرقابة على المنتج السينمائي، وذلك تمثل بموقف فنانيين مصريين من بينهم الممثل شريف منير من عرض فيلم “ريش” للمخرج المصري عمر الزهيري الفائز بجائزة أفضل فيلم في قسم “أسبوع النقاد” في مهرجان كان السينمائي، فقد اعتبره فنانون وكُتّاب مسيئا إلى سُمعة مصر، وأنه يقدمها بصورة بشعة وفقيرة، وهذا لا يتوافق مع واقعها.

توقيتات ومواقف تتحمل الكثير من التأويل في وسط يعتاش كثير من العاملين فيه على النميمة وتضخيم الأخبار، لكن في المقابل برزت أصوات شجاعة اعتبرت كلام أولئك المتباكين على “سمعة مصر” تحريضا ضد فيلم حقق ما لم تحققه السينما المصرية خلال عقود طويلة.

 

بدا واضحا الانقسام الشديد حول الفيلم حتى في الوسط الرسمي، فوزيرة الثقافة رحبت بالفيلم ومبدعيه، في حين ظلت الأصوات النشاز ترتفع، مما يسمح بتأويل مواقف أصحابها ووضعها بين غيرة وتحريض جهات رسمية ضده وضد مخرجه، أو أنها تأتي توافقا واستجابة لموقف رسمي منه غير معلن صراحة.

وقد جاء الإعلان عن منحه جائزة أفضل فيلم عربي ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في ختام الدورة الخامسة بمثابة لطمة في وجه المتباكين على سُمعة مصر، وكشف عن رغبة حقيقية عند كثيرين لإيقاف كل ما يعوق حرية الفنان والسينمائي والمبدع عموما في التعبير عن أفكاره ومواقفه.

إغلاق الحدود العربية أمام السينما الفلسطينية.. مقاطعة المهرجان

الموقف من منع سينمائيي فلسطين عام 1948 من الدخول إلى مصر جاء على لسان المنتجة الفلسطينية مي عودة التي دعت مصر وكل الدول العربية لفتح حدودها أمام السينمائيين الفلسطينيين.

الكلمة جاءت تعبيرا عن التضامن مع الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري المكرم في الدورة لمجمل نشاطه وإبداعه، وعليه قرّر المهرجان منحه جائزة “الإنجاز الإبداعي”، واستدعاءه إلى مصر لاستلام جائزته، لكنه قرر مقاطعة المهرجان تضامنا مع المخرج الفلسطيني سعيد زاغة الذي مُنع في مطار القاهرة من دخول مصر، واحتجز لساعات طويلة فيه.

الممثل والمخرج الفلسطيني محمد بكري المكرم في المهرجان بجائزة “الإنجاز الإبداعي” لكنه امتنع عن الحضور تضامنا مع سعيد زاغة

 

موقفان فلسطينيان شجاعان كشفا ضمنا التباس العلاقة بين أجهزة الدولة والمهرجان، وفي الموقف الملتبس من فنانيين يقامون الاحتلال بشجاعة نادرة، وبدلا من احتضانهم يجري التعامل معهم كـ”إسرائيليين”، وذلك في مفارقة فاقعة لم يقدر عليها حتى المُحتل نفسه.

استقالة المدير.. حريق معنوي وحسي في الدورة المشؤومة

لفّ الشؤم الدورة الخامسة وكاد يغلب عليها، لولا السينما التي أنقذتها. فالمصائب كانت تترى تباعا، بدءا بحريق يشبّ في قاعة “بلازا” ويكاد يؤجل حفل الافتتاح، لكنه لم يأتِ إلا على قسم بسيط جرى إصلاحه، أما الممثلة بشرى فانقلبت السيارة التي كانت تقلّها أثناء تصوير مشاهد لها في الجونة، وقد سبّب لها الحادث جروحا ورضوضا.

ترافق ذلك مع إعلان المدير الفني للمهرجان أمير رمسيس استقالته من عمله، وكان بإمكانه تأجيلها بسهولة لما بعد الختام. لكن ما هي أسباب الاستقالة؟

المدير الفني لمهرجان الجونة السينمائي أمير رمسيس أعلن عن استقالته من عمله قبل ختام المهرجان

 

سؤال تلقفته الصحف المصرية ومنصات التواصل الاجتماعي، وراحت تنسج حوله قصصا من عندها، وهي قصص مزيفة تحيل إلى واقع الصحافة المصرية السينمائية المتراجعة اليوم بمستويات كبيرة، مقارنة بأخرى ترتقي باطراد في بعض الدول العربية وتتجاوزها، مما يطرح سؤالا شديد الصلة بما يجري في مصر من تأخر فظيع في مستويات الصحافة الفنية عموما، إذ تكاد تغيب عنها الجدية والرزانة إلا في استثناءات قليلة جدا.

الفيلم القصير.. خسارة المهرجان لأهم نقاط قوته

كان المشهد في الإعلام مُعتما كاريكاتوريا، لكن في الوقت الذي كانت الإشاعات والكلام الخالي من المعلومة الصحيحة سائدا؛ كانت قاعات العرض تعرض تحفا سينمائية يعرف المعنيون بالسينما أهميتها، ويدركون جيدا الجهد المبذول من أجل جلبها إلى الجونة لتُضفي مثل كل عام قيمة إضافية للمهرجان، وتضعه بين أكبر المهرجانات العربية التي تؤهلها سمعتها لإقناع أصحاب الأفلام الفائزة، في مسابقات المهرجانات السينمائية الكبيرة، مثل كان والبندقية وبرلين ولوكارنو وغيرها لعرضها في مدينة سياحية.

على مستوى الدعم المادي لم تزل منصات الجونة تفي بوعدها بمساعدة وإعانة السينمائي العربي على إنجاز ما يحلم بتحقيقه. ورغم أن أفلام مسابقات الفيلم الروائي الطويل والوثائقي الواصلة للدورة كانت تحمل في داخلها قيمتها العالية، فإن الأفلام القصيرة لم تكن بذات المستوى، وربما هي الأضعف بين الدورات الخمسة.

أبطال فيلم “كباتن الزعتري” للمخرج علي العربي الفائز بجائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي وثائقي طويل

 

في هذا الجانب لا يمكن القبول بأي عذر يبرر ضعفها، لأنه في كل عام تنتج مئات من الأفلام القصيرة الرائعة المعروضة في كل أنحاء العالم. فكل ضعف وارد في مسابقات الروائي الطويل والوثائقي يمكن تبريره بظروف الإنتاج السينمائي خلال فترة وباء كورونا، وفي هذا الوقت تمكن الفيلم القصير من تجاوز الوباء، وقدّم تحفا لم يوفّق المهرجان في جلبها.

يمكن القول إن المهرجان في هذه الدورة قد خسر إحدى أهم نقاط قوته وتميزه.

ضعف لجان التحكيم وغياب الجمهور.. هشاشة الجونة

مشكلة الجونة التي أقر بها سميح ساويرس، ولم يجد المهرجان لها حلّا؛ تتمثل بضعف لجان تحكيمه، وعجزه عن إقناع أسماء كبيرة للمشاركة بها.

ففي كل عام هناك واحد أو اثنان من الأسماء السينمائية العالمية، لكن الضعف على العموم واضح في هذا الجانب، ويقترب من ضعف بنيوي آخر يصعب إيجاد حلول له، ويتمثل في قلة جمهور المهرجان، وحصر حضوره على الصحفيين والنُقّاد والضيوف، وعدد قليل من زُوّار المدينة الآخذة في النمو، لكن جمهور السينما الحقيقي غائب في الغالب عنها.

المسابقة العربية.. وضع مريح لمنافسات الفيلم العربي

في الأروقة وفي جلسات النقاد والصحفيين لم ينفك الحديث والجدل عن طبيعة المشاركة العربية في المسابقات المختلفة التي أخذت صيغة نهائية على ما يبدو، وتتمثل في تخصيص جائزة للفيلم العربي داخل كل مسابقة من مسابقاته (الروائي الطويل والقصير وكذلك الوثائقي).

بطلة فيلم “ريش” دميانة نصار، حيث أحدث هذا الفيلم ضجة في مهرجان الجونة السينمائي نظرا لغوره عميقا في بنية المجتمع

 

هذا الوضع المريح يضمن فوز الفيلم العربي، ويخلصه من المنافسة مع مستويات أخرى من الاشتغالات السينمائية تفوقه كثيرا، وبالتالي قد يُحرم بسببها من الفوز في كل المسابقات، ما لم تخصص له حصة خاصة به.

سؤال غياب المسابقة العربية المعمول به في أغلب المهرجات العربية يظل سؤالا مُلحّا لم يتوقف الجدل حوله بعد مرور خمس سنوات على انطلاق مهرجان الجونة الذي جرى الإعلان عن موعد انعقاد دورته القادمة في حفل الختام.

وكأن منظميه بهذا يريدون إسكات كل الشائعات التي تُبشّر باحتمال توقفه بعد دورة دراماتيكية لم تنقذها من نكساتها إلا السينما التي ظلت أمينة على جوهرها الحقيقي، بوصفها فنا جماليا يقبل كل أشكال التجديد والإبداع، ويتخلص من الشعارات الخطابية الشعبوية مثل سُمعة مصر وغيرها من الشعارات الجوفاء، وفيلم “ريش” مثال رائع على تلك الإنتاجات الشجاعة التي تغور عميقا في بنية المجتمع، ولا تخشى عرض كل ما فيها من بؤس وحرمان.

مسابقة الأفلام الروائية الطويلة.. جوائز المهرجان

في مركز الجونة للمؤتمرات والثقافة أعلن في ختام الدورة الخامسة عن الأفلام الفائزة بجوائز مسابقاته، والتي تبلغ قيمتها المادية قرابة 244 ألف دولار أمريكي، وقد حصل فيلم “الرجل الأعمى الذي لم يرغب بمشاهدة تيتانيك” (The Blind Man who Did not Want to See Titanic) للمخرج “تيمو نيكي” على جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الروائي الطويل.

 

بينما ذهبت جائزة نجمة الجونة الفضية للفيلم الروائي الطويل إلى فيلم “غروب” (Sundown) للمخرج “ميشيل فرانكو”.

وحصل فيلم “هروب الرقيب فولكونوغوف” (Captain Volkonogov Escaped) للمخرجين “ألكسي تشوبوف” و”ناتاليا ميركولوفا” على جائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم الروائي الطويل.

وذهبت جائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي روائي طويل إلى فيلم “ريش” للمخرج عمر الزهيري، كما ذهبت جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثل إلى الممثل “بيتري بويكولاينن” عن دوره في فيلم “الرجل الأعمى الذي لم يرغب بمشاهدة تيتانيك”، بينما ذهبت جائزة نجمة الجونة لأفضل ممثلة إلى الممثلة “مايا فاندربيك” عن دورها في فيلم “ملعب” (Playground).

“حياة إيفانا”.. مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة

ذهبت جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم الوثائقي الطويل إلى فيلم “حياة إيفانا” (Life of Ivana) للمخرج “ريناتو بورايو سيرانو”.

في حين حصل فيلم “أوستروف.. جزيرة مفقودة” (Ostrov – Lost Island) للمخرجين “سفيتلانا رودينا” و”لوران ستوب” بجائزة نجمة الجونة الفضية للفيلم الوثائقي.

 

أما جائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم الوثائقي الطويل فذهبت إلى فيلم “سبايا” (Sabaya) للمخرج هوجير هيروري، ثم حصل فيلم “كباتن الزعتري” للمخرج علي العربي بجائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي وثائقي طويل.

“كاتيا”.. نجمة الجونة الذهبية للأفلام القصيرة

وذهبت جائزة نجمة الجونة الذهبية للفيلم القصير إلى فيلم “كاتيا” (Katia) للمخرج “أندري ناتوتشينسكي”، وحصد جائزة نجمة الجونة الفضية للفيلم القصير فيلم “الابن المقدس” (Holy Son) للمخرج “أليوشا ماسين”.

وأما جائزة نجمة الجونة البرونزية للفيلم القصير فذهبت إلى فيلم “على أرض صلبة” (On Solid Ground) للمخرجة “ييلا هاسلر”، كما حصل فيلم “القاهرة-برلين” للمخرج أحمد عبد السلام على جائزة نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي قصير.

قضايا الإنسان والكوكب.. جوائز المهرجان الخاصة

“جائزة سينما من أجل الإنسانية” هي جائزة يمنحها جمهور المهرجان لفيلم يُعنى بالقضايا الإنسانية، حيث أعطيت جائزة “نجمة الجونة” و20 ألف دولار أمريكي إلى فيلم “أوستروف.. جزيرة مفقودة” للمخرجين “سفيتلانا رودينا” و”لوران ستوب”.

 

كما أعطيت “جائزة نجمة الجونة الخضراء” التي يمنحها المهرجان للأفلام المعنية بقضايا البيئة إلى فيلم “كوستا برافا” للمخرجة منيه عقل. ومُنحت جائزة لجنة تحكيم “نيتباك” لأفضل فيلم آسيوي إلى فيلم “هروب الرقيب فولكونوجوف” للمخرجين “ألكسي تشوبوف” و”ناتاشا ميركولوفا”.

أما الفيلم الآسيوي “ذات مرة في كالكوتا” (Once Upon a Time in Calcutta) للمخرج “أديتيا فيكرام سينغوبتا” فقد حصل على تنويه خاص من لجنة تحكيم “نيتباك”. كما ذهبت جائزة لجنة تحكيم “فيبريسي” لأفضل عمل أول إلى فيلم “كوستا برافا” للمخرجة منيه عقل. في حين ذهبت جائزة خالد بشارة لصُنّاع السينما المصرية المستقلة إلى فيلم “عادل” للمخرجة دينا العليمي.