“آخر الفِيَلة”..وحرب إبادة الطبيعة

قيس قاسم

“هذه حرب غير معلنة ضدنا وضد الطبيعة، الجشع دافعها، ولسَعَتها لا نستطيع العمل على وقفها فنحن الخاسرون فيها” ..
 

هذه الخلاصة المتشائمة توصل إليها الألماني جاكوب كنيسر بعد أن صور مئات الساعات بكاميرا خفية وقام بجولات مكوكية بين قارتي آسيا وأفريقيا وثق خلالها عمليات قتل الفِيَلة ووحيد القرن في الغابات الإفريقية والمحميات الطبيعية، من أجل الحصول على أنيابها وقرونها العاجية، بلا رحمة ودون مراعاة للعواقب، التي ستلي نهايتها الوشيكة، والمُهدّدة لوجودنا البشري وللتوازن البيئي الذي بدأت آثار اختلاله التدميرية تتضح أكثر فأكثر.
 بصبر ورغبة في الإحاطة بموضوع ليس بالسهل قرر “آخر الفِيلَة” خوض التجربة التي شبهها الكثيرون بـ”اللعب بالنار” لأن الأطراف المشتركة في عمليات الصيد وتهريب العاج وقرون وحيد القرن لا تقتصر على الصيادين غير الشرعيين بل تمتدّ إلى عصابات منظمة ومنظمات إرهابية وشركات صناعية كبرى ومسؤولين في دول بل ودول عملاقة، ولهذا تجنب الوثائقي الاقتراب مباشرة من الخطر وفضّل العمل بـ”سرية” عند نقاط التماسّ الشديدة التوتر وبخاصة في الأماكن التي تجري فيها عمليات البيع والشراء غير القانونية في بعض الدول الآسيوية.

 أولى المفآجات، وهي كثيرة في هذا الوثائقي الشجاع، أن عمليات قتل الأفيال تتم في المحميات الطبيعية وليس فقط

في الغابات الشاسعة والتي يفترض أن تكون بحماية الدول لكن هذا لا يحدث في الواقع. فمنطقة كينا – روكنيغا وهي أكبر محمية طبيعية كينية، دائمة التعرُّض لهجمات الصيادين ولصوص العاج الذين يستخدمون أسلحة شديدة الخطورة لا تملكها إلا الجيوش، ما يعني وجود تعاون بينهم وبين متنفذين في الدولة وجيشها، وأن عمليات القتل المنظمة يقوم بها محترفون يعرفون كيف يخفون جريمتهم وذلك بفتح جروح في مناطق معينة من جسم الحيوان القتيل تدفع رائحة لحمها بقية الحيوانات والطيور لافتراس “الضحية” كاملة فلا يبقى منها دليل على جريمتهم، فيما تلجأ ميليشيات جنجاود في جنوب السودان إلى طرق بسيطة وهمجية أثناء صيدها وانتزاع أنيابها من أجل تأمين المال لحركتهم بعد بيعها في الأسواق السوداء النشطة بين حدود دول القارة.

 هذه الوسائل والإمكانيات المختلفة المستوى تُفسِّر الانخفاض المخيف في عدد الأفيال المقتولة خلال القرن العشرين والتي حسب ما يقدمه الوثائقي من معطيات مذهلة تبيّن التهديد الحقيقي لانقراضها، ففي بداية القرن الماضي كان عدد الفِيَلة في الغابات الإفريقية يقارب عشرة ملايين فيل لم يبق منها في العام 1989 سوى 600 ألف وفي العام الماضي 2014 وصل ما موجود منها هناك إلى أقل من نصف مليون، ولهذا توصف عملية قتلها وأخذ أنيابها وقرونها بأنها أكبر عملية قتل جماعي للحيوانات على وجه البسيطة، وإذا استمرت على نفس المنوال خلال الـ15 سنة القادمة فلن يبقى فيلاً ولا وحيد قرن على الأرض..!
 

يتبع الوثائقي بتروِّي حلقات السلسلة الطويلة والمترابطة ويعرضها بطريقة مذهلة تُثير الدهشة من مهارة تصويرها وتقطيعها في ظل التخفِّي والخوف المحيط بفريق العمل، والذي وجد نفسه وسط معارك قوية جرت بين حراس المحميات الخاصة  في أوغندا وبين اللصوص صُوِّر بعضها رغم المحاذير الكثيرة.
 وفي إحدى المرات اقترب أكثر من بعض الحراس مستغلاً حماستهم في مطاردة سُرّاق أرزاقهم ليتعرف من خلالهم على دوافع هؤلاء اللصوص فظهر أنه الربح السهل والأموال الكبيرة التي يجنوها من بيع العاج وقرون وحيد القرن إلى الوسطاء، فقرن واحد يباع بآلاف الدولارات يمكنه بها شراء الذهب والهدايا الثمينة ويقدمها لفتيات الليل في المواخير التي يقضون فيها وقتاً طويلاً.
أثناء حديثهم عن الوسطاء كانت كلمة فيتنام تتردد كثيراً ما دفع الوثائقي لتقصِّي السبب فظهر بعد بحث معمق أن فيتنام وبعد انتقالها إلى سياسة السوق الحر أصبحت من بين أكبر المستوردين للعاج وأن استخدامات قرن وحيد القرن تدخل في صناعة الأدوية الشعبية إلى جانب إقبال حديثي النعمة على شراءه كزينة يفتخرون بها.
 في لقاء مع صحافي محلي كشف للوثائقي عدم وجود ما يؤكد صحة استخدام القرن في علاج الأمراض وخاصة السرطان وبعد تحليله مختبرياً ثبت بأنه مادة تشبه الأظافر، لكن الشركات التي تريد بيع المزيد من القرون تُروِّج لهذه الفكرة  وأن الدولة ورغم منعها قانونياً بيع الأنياب والقرون فإنها تتغاضى عن التجارة المنتشرة في مناطق واسعة من البلاد وبخاصة في هانوي.

 من فيتنام قادت المعطيات الجديدة الوثائقي الحصيف إلى الصين بوصفها المستهلك الأول في العالم للقرون والعاج وأن استخدامها في صنع التماثيل يعود إلى تاريخ طويل من الصعب تجاوزه، وأكثر من هذا الدولة نفسها دخلت على الخط وفتحت مصانع لنحت التحف الثمينة ولكن بأدوات صناعية أبرزها “محفارة طبيب الأسنان”. وإذا كان النحات التقليدي يحتاج سنوات لصناعة تحفة جيدة لا يحتاج العامل إلى أكثر من ساعات قليلة.

يكشف الفيلم أن الكمية المستخدمة في الصناعة والتي تعلنها الدولة الصينية غير دقيقة، فبدلاً من عشرات الأطنان تستهلك مئات بل آلاف الأطنان وكلها تأتي بطرق غير شرعية من إفريقيا وعبر وسطاء سيظهر أن حركة “الشباب” الصومالية أحدهم حيث تغطي بما تحصل عليه جزءاً من عملياتها العسكرية، كما أن السوق المزدهرة في هونغ كونغ يمتزج فيها العاج المزيف مع الأصلي في عملية غش كبيرة ومكشوفة أمام أنظار الشرطة تجري بسلاسة غير معهودة وقد سجّلها مصور الوثائقي بعد أن انتحل شخصية تاجر صيني ادعّى رغبته في شراء تحف من العاج وقرون وحيد القرن من بعض التجار فحصل على نماذج مغشوشة تكفي لسجن بائعها، ولكن لا شيء من هذا يحدث، والمفارقة أن تجارة وذبح الأفيال تبلغ مستويات لا تقلّ عن مستويات تجارة المخدرات لكن عدد المقبوض عليهم لا يقارن بعدد المطاردين والمسجونين بجرائم تجارة االمخدرات ما سيشجع اللصوص والوسطاء والدول على الاستمرار في إبادة أكثر الحيوانات ألفة وجمالاً.

 في مثل هذه الحالة يطرح الوثائقي على نفسه سؤالاً: هل نستسلم في هذه الحرب ونعلن هزيمتنا؟ يظهر من بين الخبراء ونشطاء حماية البيئة رأياً ثانياً يريد مناشدة المستهلك وتعريفه بخطورة المادة التي يشتريها، وفي هذا الإطار تدخل الممثل المشهور جاكي شان وقام بحملة دعائية توضح للناس خطورة شراء المواد والتحف المستخدمة فيها أنياب الفيلة والقرون لأنها تسهم بطريقة غير مباشرة في نمو العنف وازدهار تجارة العصابات المنظمة والسلاح.
 لكن الوثائقي المتمرس الآن والعارف بالحقائق لا يعول على التوعية فقط بل يريد من الدول وقف تجارة وإبادة الحيوانات البرية فوراً لأن الوقت يجري ولم يبق متسع منه لحماية أجيالنا القادمة وطبيعتنا التي تُنتهك وتُدمَّر في حرب نحن الخاسرون فيها حتى اللحظة!