“أبلة فاهيتا” و”أمل حمادة”.. السخرية في موضع الألم

أسامة صفار

أبلة فاهيتا تمتاز بالتجاوز اللفظي وكسر التابوهات والجرأة، وذلك حين يتعلق الأمر بالسياسة مع ذكاء شديد

بدت المداخلة التلفزيونية على إحدى القنوات الخاصة ساخنة إلى حدّ التجاوز اللفظي والسباب الذي يعاقب عليه القانون، فضلا عن اتهامات بالتجسس لسيدة تدعى “أبلة فاهيتا”، والغريب أن الذي يكيل الاتهامات ليس من عوام الناس، لكنه قاض سابق ومحام كبير، أما المتهمة فهي “أبلة فاهيتا” التي لم تكن سوى شخصية كرتونية أبدعها شاب مصري وانطلقت على مواقع التواصل الاجتماعي عبر تغريدات غامضة، وتحولت إلى “عروسة قماشية” تقدم برنامجا ساخرا باسمها، وعلى غير انتظار نالت “أبلة فاهيتا” إعجابا جماهيريا كبيرا، ونالت غضبا كبيرا أيضا من البعض.

ولعبت مواقع التواصل الاجتماعي دورا هائلا في خروج اللبنانية أمل حمادة التي رحلت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي من صفوف الجماهير إلى مصاف النجوم في سماء لبنان، لكن الغريب أن تلك النجومية لم تقترن بالإعجاب بأيّ موهبة سواء بالتمثيل أو الغناء أو الرقص، كان الإعجاب بامرأة بدأت ببث الفيديوهات عبر اليوتيوب، ونالت شعبية كبيرة ومن ثم أصبحت ضيفة دائمة على شاشات الفضائيات.

وبين مصر ولبنان علاقة خاصة جدا وتشابه مبهر، لكن هذا التشابه لا يمتد إلى الشكل، وإنما يكمن في تلك الانعطافات الحادة التي يمر بها كلا المجتمعين المصري واللبناني، ولعل ذلك ما يبرر ذلك التشابه في قصة الظهور والنجومية للاثنتين من دون موضوع.

والمؤكد أن كلا من “أبلة فاهيتا” و”أمل حمادة” هما أصدق اختيار لجمهور البلدين عبر السنوات الأخيرة، إذ خرجتا بلا إلحاح سلطوي لتعبرا عن أزمة كبرى، وأن القضاء عليهما لن يليه سوى اختيار لنجمتين أو نجمين يحملان نفس السمات المتعلقة بالتلقائية والتجاوز والصدق الجارح.

واللافت هنا أن ذلك الظهور يؤكد على قدرة مواقع التواصل المجتمعي على خلق نجومها بمعزل عما يُفرض عليها من قنوات الإعلام الرسمية، أو تلك المدعومة برأسمال سلطوي يسعى إلى تنميط وتحديد التوجهات، أو يحدد معايير النجومية، لكن السؤال: لماذا “أبلة فاهيتا و”أمل حمادة” بالتحديد؟

"أبلة فاهيتا" كانت بداية شهرتها عبر موقع يوتيوب عام 2011

أبلة فاهيتا.. لسان حال المصريّ المقهور

كانت بداية شهرة “أبلة فاهيتا” عبر موقع يوتيوب عام 2011، ونالت شهرة كبيرة بعد ظهورها مع الإعلامي الكوميدي الساخر باسم يوسف في برنامجه “البرنامج”، وتعرضت لسيل من الانتقادات والهجوم بعد كل ظهور سواء أكان إعلانيا أو تلفزيونيا أو حتى عبر تدوينتها الغريبة والتي حاول الكثيرون تفسيرها بشكل يدعو للضحك، حيث ادعى هؤلاء أنها “دمية ماسونية” تهدد الأمن القومي، وقد وصلت تلك الشفرات إلى التقاضي والمحاكمات بعد إعلانها الشهير لإحدى شركات المحمول، لتعود أبلة فاهيتا بشكل أكبر عبر شاشة “سي بي سي” في برنامج “لايف من الدوبلكس مع أبلة فاهيتا”.

تمتاز أبلة فاهيتا بالتجاوز اللفظي وكسر التابوهات والجرأة، وذلك حين يتعلق الأمر بالسياسة مع ذكاء شديد، لكن صفاتها كشخصية نُسجت بإحكام جعل من الصعب التسليم بأن تلك الدمية القماشية ليست إنسانا من لحم ودم وهموم وأحلام.

ولكن لماذا يريد الجمهور أن يصدق أن فاهيتا مواطنة مصرية، ببساطة لأن فاهيتا لا تخاف أحداً، فهي تطلق لسانها الحاد على الجميع -فنانين وسياسيين وإعلاميين– من دون رحمة، ولأن المواطن المصري أصبح الآن ممنوعا من مجرد التفكير في النقد، فقد انتخب أبلة فاهيتا لتمثله وتعبر عن غضبه وعن رغباته وأهوائه أيضا، ورغم ذلك فإنها لا بدّ أن تكون دمية، وإلا تعرضت لما يتعرض له “المنتقِدون” للسلطة السياسية، وبالتالي فإن ثمة اتفاقا على الخداع المتبادل بين الدمية والإنسان الذي يقف خلفها من جهة، وبين الجمهور الذي يبحث عمن يمثله -على اعتبار أنها دمية- وقت الحاجة والتوحد معها كـ”وعاء” لأحلام القدرة على التعبير من جهة أخرى.

لا تُعارض أبلة فاهيتا سياسيا بصوت صارخ، لكنها تجلد كل سلطة اجتماعية وتكسر كل قيمة وتتجاوز كل محظور، فتعبر عن “الإنسان المصري” بصورته الكامنة خلف قناع المقهور الخانع، فثمة قهر اقتصادي يتعرض له المصري ويعوضه مع الأبلة التي أطلق عليها من البداية “مليونيرة الويب”، وثمة قهر ذكوري يُمارس على المرأة المصرية قضت عليه فاهيتا بموت زوجها قبل ظهورها واعتبارها أرملة طروب تبحث عن رجل وسيم ولا تكتفي بالنظر إليه، أما جرأتها مع نجوم المجتمع والفنانين فهي الصفة الأهم التي جمعتها مع الراحلة “أمل حمادة”.

 

أبلة فاهيتا.. تعبير عن المسكوت

وفي محاضرة “مقاربة لغوية لدمية وقحة” حاول الباحث الفرنسي فريدريك لاغرانج تفصيل القوة اللغوية والاجتماعية لأبلة فاهيتا بالقول “أبلة فاهيتا واقعة على تقاطع تقاليد ساخرة؛ المحلية منها والعالمية، شأنها في ذلك شأن لغتها تماما، فالدمية كوسيلة للتعبير عن المسكوت عنه سياسيا واجتماعيا حيلة قديمة قدم الأراجوز العثماني واشتقاقاته العربية، كما أن الدمية عادت إلى مقدمة الإعلام الحديث في صيغة محدثة تستهدف جمهوراً من الكبار، لكن أبلة فاهيتا أضافت إلى ذلك التقليد المحدث صبغة الدلال الأنثوي الطفلي الخاص بـ”باربي”، بحيث يتلذذ مبدعها بتطوير وإثراء جانبها المراهق بإلباسها شتى الأزياء، وتصويرها كإحدى العارضات المشهورات، الأمر الذي يعزز فكرة كسر القيم منذ بدايتها”.

تحولت أبلة فاهيتا إلى “أيقونة تتصرف كنجمة غير مستقرة المزاج، لها لغة فردية تكونت حلقة بعد حلقة ومشهدا بعد مشهد، حتى صارت “سيما” (علامة) بين مريديها كاللغة المنغلقة التي يتكلم بها الإخوة التوأم، لغة لن يشعر بغرابتها وطعمها إلا الناطق بالعامية القاهرية أو المتمرس فيها كلمات ومزايا صوتية عند نساء عائلته المسنات”.

لم تستطع السلطة تحديد موقفها من “الأبلة” بسهولة، فقد هوجمت في البداية من بعض المهووسين بنظرية المؤامرة، ثم تبنتها أطراف معينة لاستخدامها ضد حكم الإخوان، ومع صعودها وانتشارها الجماهيري الكبير قيل إنها تستخدم شفرة محددة لتوصيل رسائل، ثم تطور الأمر للتعامل معها كما لو كانت بشرا، وتوجيه السباب والشتائم والاتهامات لها عبر شاشات الفضائيات.

أمل حمادة كانت تتحدث دون افتعال، وتعبر عن هموم المرأة اللبنانية العادية، وهو ما ساهم في قفزها من شارع الحمراء إلى قلوب اللبنانيين عبر شاشة المستقبل

أمل حمادة.. ماركة مسجلة في لبنان

هي امرأة كاشفة كبقعة ضوء سقطت على جسد المجتمع اللبناني فعرّته، وهي ترمومتر اجتماعي، وهي امرأة اشتهرت لتموت، فهي مجرد امرأة عادية تسير في شارع الحمراء في بيروت كغيرها، وقد صادفتها كاميرا قناة المستقبل وأجرت معها لقاء تم بثه فانفجرت شهرتها لاحقا. أما عنوان اللقاء فكان “انقرضوا الرجال في لبنان”، وضجت شبكات التواصل بالجدل حول اللقاء وصاحبته التي تحولت من شاشات الحاسوب إلى التلفزيون في لقاءات مطولة.

كانت أمل حمادة تتحدث دون افتعال، وتعبر عن هموم المرأة اللبنانية العادية وقتها، وهو ما ساهم في قفزها من شارع الحمراء إلى قلوب اللبنانيين عبر شاشة المستقبل، ومن ثم ظهرت بشكل مكثف على مواقع التواصل الاجتماعي، لتطلق دفعات السخرية اللاذعة من الكبير والصغير، من الفنانين والسياسيين والشخصيات العامة، وتحولت مصطلحاتها اللبنانية الخالصة إلى “ماركة مسجلة”، فمِن “انقرضوا الرجال” إلى “ماخدة مين”، وذلك تعليقا على إخفاء خبر إحدى المطربات (ميريام فارس) لاسم زوجها.

لم تتوقف أمل عند ميريام فارس، لكن سخريتها وانتقادها امتد إلى الجميع فيما يشبه الثورة ضد الافتعال والزيف والتصنع، سواء افتعال الأناقة أو الجمال أو التفوق إلى افتعال المشكلات السياسية التي كانت معوقا أمام اختيار رئيس للبنان –حينها– لما يقرب من سبعة أشهر.

كما أنها وجهّت نقداً لاذعاً للفنانة إليسا قائلة إنها “أم صوت نشاز”، ولعاصي الحلاني لأنه “ما بيعرف يحكي”. لم يسلم أحد من رصاص أمل الناقد، لكن رحيلها المُفاجئ جعل إليسا تكتب عنها في حسابها في تويتر “زعلت كتير لما عرفت بوفاة أمل حمادة”.

إن الملامح النفسية والأسلوب التلقائي لأمل حمادة يصلح تماما لرصد الحالة المجتمعية اللبنانية التي ظهرت وبرزت منها أمل، إذ يخوض الجميع في القضايا كلها باستثناء القضايا الجادة، ويحرص الجميع على الثرثرة في كل شيء إلا ما تعلق بقول الحقيقة من دون زيف ولا تزيين، ورغم أن أمل لم تُظهر خبرة عميقة في موضوع ما ولا موهبة في غيره، فإن ثمة صدقا استطاع أن يشق تيار الزيف من منتصفه تماما.

 

أمل حمادة: أعشق نفسي

وتتولى الصحافة والنخبة المثقفة في المجتمعات –غالبا– مسؤولية تقييم وتوجيه المجتمعات، لكن أمل تولت الأمر بالنيابة عن أولئك الذين ارتبطوا بمصالح فردية، فقيّدت من قدرتهم على التعبير خشية إغضاب شركاء المصلحة.

وتشير إجابات أمل على أسئلة الإعلاميين إلى فهم عميق وواضح لأزمات الجمهور اللبناني مع نجومه، ففي لقاء مع أحد الإعلاميين كان يستفزها بأسئلة من قبيل “من أنتِ؟”، “مَن تظنين نفسك؟”، “ما ردك على منتقديك؟”، و”هل تنظرين إلى نفسك في المرآة؟”.. كانت أمل تجيب بافتعال مضاد وغرور مفتعل “أعشق نفسي”، ولم تتردد بالخروج مراراً من منزلها بملابس النوم (البيجاما) لتدلي بتصريحاتها المثيرة للجدل، وتعقيباً على ذلك قالت “ما عندي مُشكلة أتصور بالبيجاما، ما بدي أوصل للعالم بالفُستان وبالمكياج.. العالم زهقت”.

وتلفت أمل هنا إلى ذلك الزيف والحرص المبالغ فيه على “المظهر” بينما “الجوهر” خرب، ولم يمهل القدر أمل حتى تعيش مئة سنة كما كانت تتمنى “بدي عيش 100 سنة”.

 

مصر ولبنان.. سيولة قيمية وإعلام رخيص

تتبدى النجومية في المجتمعات المأزومة كحالة مصادفة تتعلق بالاختلاف، دون أن تكون هناك قيمة حاكمة تجعل من هذا الاختلاف في اتجاه إيجابي أو سلبي، ولعل فيلم “ولدوا ليقتلوا” للمخرج الأمريكي أوليفر ستون هو خير تجسيد للحالة في أقصى أطرافها، إذ يحكي عن مراهقَين مجرمين هما “بوني وكلايد” يرتكبان جرائم قتل ونهب وسرقة متعددة. وعبر المتابعة الإعلامية لهما يتحولان من مجرد مجرمين إلى نجمين تقف الجماهير حائلا بينهما وبين الشرطة، وتساهم في هروبهما من العقاب.

وفي مصر ولبنان ثمة “سيولة قيمية” تتعلق بغياب الحدود بين الصواب والخطأ، بينما يعمل الإعلام الجائع لكل مستهلك ورخيص باختلافه؛ على مدى 24 ساعة، ويتلقى الجمهور تلك “البضاعة” التي لا بديل عنها فيبتلعها، وهو إعلام لا يرغب في تناول جاد للقضايا، ويربأ بنفسه عن قول الحقيقة أو التوثيق، معتمدا على ما تم تسييده من كراهية لمواجهة الحقيقة وتبعاتها.

ويعمل الفن كقاعدة لإطلاق قنابل الإلهاء والدخان على عيون الجماهير، ومستودع لإطلاق القيم المطلوب تسييدها من زيف وافتعال واستهلاكية، فيُخرج إلى الشاشات أنصاف الموهوبين والموهوبات -بل وعديمي الموهبة- يملؤون الفضاء ضجيجا، وهي حالة سائدة لكنها أيضا ضاغطة على جمهور يعايش الحقيقة يوميا رغم أنفه فيشعر بوجعها.

ويدفع الخوف من العقاب السلطوي و-المجتمعي أحيانا- الجمهور إلى الصمت، لكنه يبحث عن توازن ما يستطيع به أن يمارس حياته المشوهة، فلا يجد سوى دمية قماشية تتحدث بالنيابة عنه، وبشكل متطرف يتجاوز القيم ويعرج إلى التدمير عوضا عن الحرمان من التعبير، كما يبحث الجمهور عن أمل حمادة تلك المرأة العادية جدا الساخرة جدا الخارجة لفورها من بين صفوف المشاة في شارع الحمراء، وذلك لتنقضّ على زيف الوسطين السياسي والفني، ومن ثم يقبل عليها لتتحول إلى نجمة بين يوم وليلة.

وعلى كل من فاهيتا وأمل أن تختارا بين الاستمرار عبر الانتماء لإعلام السلطة أو الاختفاء والمنع والمصادرة، أو حتى الموت الفجائي المريب، فالسلطة بكل تجلياتها لا تسمح باختراق جدار الزيف.