أسرار مختبر عدنان مدانات وحلوله الفنية المبتكرة

لندن / عدنان حسين أحمد
صدر عن مؤسسة عبد الحميد شومان بعمّان كتاب” السينما التسجيلية- الدراما والشعر” للناقد السينمائي الأردني عدنان مدانات، في ما كتب مقدمته المخرج والناقد السينمائي قيس الزبيدي الذي يعرف مدانات من كثب وسبق له أن منتَجَ له فلمه الوثائقي الأول “التكيّة السُليمانية” الذي أُنجز عام 1971. وأكثر من ذلك فإنّ الزبيدي مُطلِّع على التجربة النقدية لمدانات، ومتابع لها منذ أربعة عقود تقريباً، فلا غرابة أن تأتي هذه المقدمة شاملة لتغطي معظم الكتب النقدية التي أنجزها مدانات منذ أوائل سبعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا. يركِّز الزبيدي في مقدّمته على التناقض الصارخ بين ما يريده الإنتاج السِلَعي وبين ما يصبو إليه الفن الثقافي، فالأول يريد من السينما المتعة والترفيه، فيما يسعى الثاني إلى حثّهم على التفكير، وتشذيب ذائقتهم الفنية. باختصار يريد مدانات من الفلم السينمائي أن يكون مادة للتفكير، ومحرِّضاً على تعميق الوعي الفني، والاستمتاع بجمالياته البصرية الأخّاذة.
يعتقد الزبيدي بأن هذا الكتاب وغيره من كتب مدانات النقدية قد أثارت حواراتٍ موسعةً بين النقاد السينمائيين أنفسهم وذلك لأهمية الآراء الإشكالية التي يتناولها في دراساته وأبحاثه النقدية ولعل أبرزها ضرورة امتلاك الناقد السينمائي لأدوات معرفية تؤهله لقراءة الفلم وتحليله بطرق علمية مقنعة ترجّح الحضّ على التفكير، والتمسّك بالقيم الجمالية أكثر مما تدعو إلى التسلية والإثارة والترفيه.
يلفت الزبيدي عناية القرّاء إلى أهمية الكتب السينمائية التي ترجمها مدانات مثل “الحقيقة السينمائية والعين السينمائية” لدزيغا فيرتوف، “فرانشيسكو روزي”، و “أحاديث حول الإخراج السينمائي” لميخائيل روم، هذا إضافة إلى كتبه النقدية المُؤلَفة من بينها “عدسات الخيال”، “وعي السينما”، “أزمة السينما العربية” وسواها من الكتب النقدية الأخرى التي أنجزها مدانات خلال العقود الأربعة الماضية.

يتوقف الزبيدي في خاتمة المطاف عند كتاب “السينما التسجيلية” ويشدّد على أهمية تعريف مدانات بنماذج تسجيلية عربية وعالمية، قديمة ومعاصرة، يضعها مدانات تحت مجهر “مختبره الإبداعي” الذي يروم بواسطته معرفة ما يدور في دماغ المخرج. وقد اختار مدانات المقابلة التي أجراها مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي من بين ثلاث مقابلات رئيسية أجراها لهذا الغرض ليتعرّف بشكل تفصيلي عما يدور في ذهن المخرج الذي أنجز فلماً مميزاً يحمل عنوان “صور من ذكريات خصبة”.
لم يقتصر المختبر الإبداعي على تجارب الآخرين حسب، وإنما شمل تحليلاً موسّعاً لخبراتة الخاصة حينما أنجز في سبعينات القرن الماضي مجموعة من الأفلام التسجيلية التي يعتبرها مدانات متواضعة، ولا تخلو من أخطاء تقنية لم تمنعه من إدرجها في المختبر المذكور على الرغم من تأكيده المتواصل بأنه ناقد وباحث سينمائي، وليس مخرجاً سينمائياً البتة. أشار الزبيدي في ختام توطئته إلى أهمية المقاطع التسجيلية في بعض الأفلام الروائية التي توقف عندها مدانات وقدّم لها حلولاً إبداعية مميزة جديرة بالدراسة مثل فلم “مازن والنملة” لبرهان علوية وغيرها من الأفلام الروائية التي سنتوقف عندها لاحقاً.

سيرة سينمائية
ينطوي هذا الكتاب في جانب منه على سيرة سينمائية ذاتية لعدنان مدانات الذي أنهى دراسته الثانوية عام 1964 ثم درس السينما في جامعة موسكو وتخرج فيها عام 1970 حيث تخصص في السينما التسجيلية والتلفزيون. عمل مساعد ثانٍ للمخرج السوري المعروف نبيل المالح في فلم “الفهد” 1971، كما أخرج بعض الأفلام التسجيلية التي سيتوقف عندها في هذا الكتاب، ويحللها بطريقة محايدة. انتقل مدانات إلى بيروت عام 1973 للبحث عن عمل في الصحف اليومية والأسبوعية بوصفه ناقداً سينمائياً يتابع الأفلام المعروضة هناك ويكتب عنها دراسات نقدية. ثم أتاح له التنقّل في أكثر من بلد عربي أن يكون حاضراً في النوادي والمهرجانات والندوات السينمائية المتخصصة، ويطلِّع من خلالها على الكثير من القضايا الإشكالية من بينها ردود الأفعال المتناقضة للأفلام المعروضة سواء من قبل الجمهور أم من قبِل أهل الاختصاص. فبعض المتلّقين يحمّل الفلم رموزاً وإسقاطات قد يستغربها المخرج أو يتقبّلها، لكنه يعترف بأنه لم يقصدها ولم تخطر بباله. ويذكر مدانات أن بعض المخرجين قد يكون عاجزاً عن تفسير ما أنجزه أمام متلقين يجدون صعوبة في فهم الفلم أو استعياب ثيمته الرئيسية معتبراً أن كل مُشاهد له مطلق الحق في أن يفهم الفلم بواسطة قراءته الخاصة وآلية تلّقيه الذاتي.
لم يواصل مدانات فكرة “أسرار المختبر الإبداعي”، لكن قراءته لكتاب “مذكّرات ديفيد لينش” الذي يتمحور حول الهوّة بين مُبتغى المخرج وطريقة استيعاب المتلّقين بما فيهم النقّاد هو الذي ذكّره بمشروعه القديم، وصحّة توجهاته التي تسلِّط الضوء على ما ينطوي عليه ذهن المخرج من أسرار. وبخلاف ذلك فإن الكثير من الأفلام تظل عصيّة على التأويل كما هو الحال في فلم “رأس الممحاة” الذي وُصف في حينه “بأنه زائر مجهول حلّ من كوكب آخر”.
اختار مدانات الحوار الطويل الذي أجراه مع ميشيل خليفي لأنه يمتلك القدرة على تقديم إجابات شافية تضيء تجربته الإبداعية والفكرية من جهة، وتسلّط الضوء على فلمه الموسوم “صور من ذكريات خصبة” الذي حصد الجائزة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1980. فهذا الفلم هو تسجيلي من حيث النوع السينمائي، لكنه مصنوع بأسلوبية الفلم الروائي الذي يصوِّر الواقع، ويغوص في العالم الداخلي للإنسان، آخذين بنظر الاعتبار أن مدانات يركِّز في جانب من هذا الكتاب على التراسل بين النوعين السينمائيين التسجيلي والروائي، وإفادة أحدهما من الآخر. أما الحوار التأملي الطويل فهو يكشف، من دون شك، عن الآليات الفكرية والنفسية والجمالية للمخرج، كما يوضّح خطَّه الفكري الذي ينطوي على معطيات إبداعية ملموسة.
يتوقف مدانات عند التمرين التطبيقي الذي كلّفته به أستاذة التصوير في الجامعة وطلبت منه أن يصور شيئاً بثلاث لقطات عامة ومتوسطة وقريبة فترك كل الأشياء الجميلة في موسكو وصوّر “بكرة ضخمة للّف الأسلاك أو الكيبلات” فقالت له الاستاذة إن اللقطات سليمة، ولكن ألم تستطع أن تجد شيئاً جميلاً تصوّره لتعرضه على الناس بدلاً من هذا المنظر البشع؟! فأدرك مدانات أن المهم ليس معرفة أنواع وأحجام اللقطات، بل اختيار ما هو جميل ومعبِّر ولافت للانتباه، ومحرِّك للمشاعر الإنسانية العميقة.

عدنان مدانات

التسجيلي السينمائي
يفرِّق مدانات بين نوعين من الفلم التسجيلي، فهناك التسجيلي التلفزيوني والتسجيلي السينمائي. فالأول ينطوي على قدر كبير من الثرثرة، وتعدّد الموضوعات الثانوية، والتفاصيل غير الضرورية التي تؤدي إلى تشتّت الموضوع الرئيسي، أما التسجيلي السينمائي فيتميّز بقوة التركيز على الموضوع الرئيسي، وبناء الفلم على وفق مقولة ما قلّ ودلّ. كما ينتبه مدانات إلى فَرق آخر مفاده أن التسجيلي التلفزيوني يلهث وراء الحدث الراهن، ويناقش تفاصيله  الآنية، ومظاهره الخارجية، أما التسجيلي السينمائي فيسعى للانتقال من عرض وتحليل الحدث إلى استخلاص النتائج التي تفسِّر الظاهرة العامة، أي الانتقال من الخاص إلى العام، وهذه سمة أساسية من سمات العمل الإبداعي الفني. وساق لنا مثالاً رائعاً في هذا الصدد، إذ ظلت عزّة الحسن في فلم “زمن الأخبار” في إطار الخبر الصحفي الذي يقدِّم معلومة عابرة لا غير، فيما انتقلت المخرجة سميرة مخملباف في فلم “التفاحة” من الخبر إلى الحكاية الدرامية التي هزّت مشاعر المتلقين، علماً بأن الأشخاص في كلا الفيلمين كانوا مُحتجَزين لسنوات طويلة في منازلهم. غير بعيد عن الجانب الإعلامي ظل المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي يترجّح في فيلميه “بالروح بالدم” و “ليس لهم وجود” بين التسجيلي الفني والتسجيلي الذي يغلّب وظيفته الإعلامية أو الثورية، خصوصاً وأنه سوف يُوصف لاحقاً بمؤسس السينما الفلسطينية النضالية التي تخدم الثورة مباشرة. ثمة أفلام سينمائية كثيرة يتوقف عندها الناقد الحاذق مدانات، لكننا سنكتفي بالإشارة إلى فلم “انطباعات من تحت الماء” للمخرجة الألمانية ليني ريفينشتال التي بَنَت فلمها على فكرة عميقة قائمة على فعل الترّقب والخشية من حدوث ما لا تُحمَد عقباه. فثمة سمكة ضخمة قبيحة المنظر تفتح فمها على الدوام، ثم تأتي فجأة سمكة صغيرة جميلة وتتردد في الدخول إلى الفم المفتوح، لكنها تحسم أمرها وتدخل، غير أنّ المتلّقين يلتقطون أنفاسهم المحبوسة حينما يرون السمكة الجميلة تخرج من الفم القبيح آمنة مطمئنة.
ينتبه مدانات إلى بعض الأفلام الروائية التي تقترب من التسجيل كما هو الحال في فلم “تحت القصف” لفيليب عرقتنجي الذي يصنع من الرواية وثيقة حينما يزج بطلة الفلم في واقع حربي حقيقي حيث تبحث عن ابنها المفقود وجثة شقيقتها المدفونة في مقبرة جماعية.
يلتقط مدانات الأفلام التسجيلية التي عُملت بنَفَس إعلامي كما هو الحال مع فلم “أطفال” للفرنسي توماس باليس الذي يريد أن يحقق المتعة لمشاهديه، بينما عملت المخرجة القرغيستانية آرسيل جوراييفا بروح الفنانة حينما كانت تصور أمها الحامل وشقيقيها التوأم، وأوصلتنا إلى منتهى الشدّ والترقب والخشية حينما أطل الوليد الجديد ووُضع في المهد حيث تسلل إليه أحد التوأمين وكل المتلّقين تقريباً كانوا يتوقعون أنّ شقيقه الأكبر سيؤذيه، كما هي العادة نتيجة الغيرة، لكنه يفاجئ الجميع حينما ينحني ويطبع قبلة على خده، ثم يرفع رأسه وينحني من جديد ليطبع قبلة ثانية قبل أن يرفع رأسه ليواجه الجمهور الذي أذهلته هذه المفاجأة اللامتوقعة.
أفضى التلاقح بين الفلم الروائي والتسجيلي إلى ظهور الواقعية الإيطالية الجديدة التي استغنت عن الأستوديوهات والديكورات وحتى عن الممثلين في بعض الأحيان كما هو الحال في فلم “سارق الدراجة” لدي سيكا، أو اختيار موضوعات الأفلام من أخبار صحفية عابرة مثل “روما الساعة الحادية عشرة” لجوزيف دي سانتس، أو إعادة سرد وقائع سياسية قريبة العهد مثل “روما مدينة مفتوحة” لروسلليني، أو توظيف وقائع حقيقة مثل حادثة اغتيال الرئيس إبراهام لنكولن وهو يشاهد عرضاً مسرحياً في فلم “مولد أمة” لغريفت. أفضت هذه المتغيرات الجذرية إلى ترسيخ الواقعية الإيطالية التي أفرزت بالنتيجة نوعاً سينمائياً جديداً هو “الفلم السياسي” وفقاً لمدانات، وقد أورد أمثلة عديدة لهذا النوع الجديد نذكر منها فلم “زد” لكوستا غافراس، و “الأيدي فوق المدينة” لفرانشيسكو روزي.
لا نستطيع التوقف عند محاور الكتاب كلها وذلك لتعددها وثرائها النقدي العميق، وسوف أترك كل ما يتعلق بتجربة دزيغا فيرتوف إلى مقال آخر، خصوصاً وأن مدانات قد تأثر بتجربته الإخراجية، وكان ولا يزال، يمحضه حباً من نوع خاص، لكنني أحببت أن أُنهي هذا العرض بالإشارة إلى أفلام مدانات الأربعة التي أنجزها في بداياته الفنية وهي “التكيّة السُليمانية”، “لحن لعدة فصول”، “خبر عن تل الزعتر”،و “رؤى فلسطينية” التي وضعها في مختبره الإبداعي، وكشف عن محاسنها وعيوبها في آنٍ واحد. باختصار شديد أن “السينما التسجيلية- الدراما والشعر” هو كتاب جدير بالقراءة، ويفتح آفاقاً واسعة للقرّاء والنقاد على حد سواء.