أطفال شوارع باكستان.. البراءة المنتهكة

قيس قاسم

عندما شاهدنا فيلم “هذه الطيور تمشي” قلنا “أن عمل طارق عمر موليك سيترك أثراً في السينما الباكستانية”، واليوم ومع عرض فيلم “أطفال باكستان الضائعون” للمخرج الباكستاني الأصل الكندي الجنسية محمد نافقي يتأكد لنا أن السينما الوثائقية في هذا البلد قد شرعت السير نحو اكتشاف العوالم المسكوت عنها، وعرضها  بشجاعة متحدية أعرافاً اجتماعية وممارسات موغلة في سلبيتها آخر ما يريد أصحابها رؤيتها  مجسدة، كواقع، على الشاشة.

اطفال مع مدمنين بالشوارع

في “هذه الطيور تمشي” تناول موليك، الذي جاء من عالم التصوير الفوتوغرافي الى السينما، حالة الأطفال المشردين في شوارع كراتشي والدور الذي تقوم به مؤسسة عبد الله  ستار “أدي” الخيرية في مساعدتهم. كان مدخلاً لمن لا يعرف الكثير عن مشاكل باكستان، ومع هذا أراد لفيلمه التوازن، فعرض فيه المشهد الاجتماعي الاقتصادي الى جانب توثيق الروح الإنسانية التضامنية التي خفف وجودها من قتامة المشهد العام لمدينة كراتشي. لم يرغب موليك الذهاب أعمق في تفاصيل عيش الأطفال فركز على سوء علاقتهم بأهلهم وهروبهم من بيوتهم الى شوراع قد يموتون فيها، مراهناً في تسجيلها على جمال صورته أضافة طبعاً الى حساسية الموضوع نفسه ولهذه الأسباب مجتمعة مُنح جائزة اللؤلؤة السوداء لأفضل فيلم تسجيلي في الدورة الأخيرة لمهرجان أبوظبي السينمائي، في الوقت الذي كان أبن بلده محمد نافقي مشغولاً في مهمة تحري خطيرة، لم تسمح له كثيراً التفكير بجماليات الصورة، لأن التقاطها لوحده كان يعد انجازاً، وخلاصة ما توصل اليه يُحسب فتحاً على مستوى الموضوع، فقلة من صناع السينما الباكستانية تجرأوا وأقتربوا، الى هذا الحد، من قضية شبه محرم التطرق اليها لأنها تتعلق مباشرة بالإستغلال الجنسي للأولاد الباكستانيين في مدينة بيشاور المحافظة.
من مزابل مدينة بيشاور، التي يعتاش عليها آلاف الأطفال وبأثمان بيعها يعيلون عوائلهم الفقيرة، ينطلق الوثائقي لسبر أغوار العالم المحيط بها، عبر أسئلة يطرحها صانع الوثائقي من موقعه خلف الكاميرا، والتي ستغدو جزءًا من أسلوبه في العمل. أطفال ومراهقون يقضون النهار كله في جمع النفايات وبيعها لأصحاب معامل صغيرة تقوم بمداورتها بشكل بدائي. على كمية ما يجمعون منها تعتمد علاقة بعضهم بأهلهم، فهم ملزمون بتوفير المال من بيعها وعكسه ستكون النتيجة سيئة: ضرب مبرح وهروب من البيت، ليجتمعوا ثانية خارجه مع بقية الأطفال المشردين الذين يزيد عددهم في باكستان على أكثر من أربعة ملايين طفل ثلثهم تقريباً لا أهل لهم، يعيشون في الطرقات ويتعرضون فيها لكل أنواع الأستغلال من بينها الأستغلال الجنسي.

نعيم : نموذج لطفولة قاسية

يوزع نافقي فيلمه على ثيمات كل ثيمة تفضي الى آخرى لتشكل في مجموعها معادلة متكاملة منها يمكن أستخلاص النتائج والتقييمات. فمن المزابل يذهب الأطفال الى الترع والأنهر الصغيرة شبه الراكدة لينظفوا أجسادهم من وسخ وقذارات المزابل ومن مائها تدخل الى أجسادهم الميكروبات التي تصيبها بأمراض قاتلة. عدوى العادات السيئة تنتقل بينهم، ففي وقت مبكر يتعلمون تدخين السجائر والتي تقود، في ظل غياب مطلق لأي نوع من الرعاية والاهتمام، الى تجريب أنواع من المخدرات سرعان ما يدمنوا عليها وتكون سبباً في بيع أو تعرض أجسادهم لانتهاك الكبار المتربصين بهم.
لا يفضح الوثائقي خططه بسرعة فللوهلة الأولى يبدو أنه يعاين حالة المشريدن في الشارع لكنه شيئاً فشيئاً يميط اللثام عما يريد الوصول اليه: كشف الانتهاكات الجنسية ضد الذكور منهم دون الإناث، عبر مده خيط المقابلات معهم طويلاً ليصل الى ما يصبو اليه. لقد توصل الوثائقي الى أن الليل هو الظرف الذي تلف ظلمته كل الموبقات والجرائم الجنسية ضد البنين من أبناء بيشاور. لقد أكتفى الوثائقي بما توفر لديه من عينات لأن جمع الكثير منها وبخاصة في بداية التسجيل، أمر غاية في الصعوبة لأسباب كثيرة، منها: رفض الكثير من الصبيان الاعتراف بما يتعرضون له من تحرش وأغتصاب جنسي. نكران أغلبية الناس لوجود هذه المارسة، ناهيك عن ضآلة أمكانية أعتراف الجناة بأفعالهم، لهذا لجأ الوثائقي الى تقليص مساحة البحث على عدد قليل منهم كحل ساعد على تحقيقه وبشكل باهر المراهق “نعيم” الذي تمتع بشجاعة لافتة حين قبل بمرافقة الكاميرا له في ظروف غاية في الاحراج والتعقيد. وللمساعدة في اكتمال المشهد أستعان صاحب الوثائقي بمحامي ناشط في الدفاع عن حقوق الانسان وبموظف نزيه في دائرة الشؤون الاجتماعية للمدينة، التي تبدو عصية على  الكشف، وجد سلبية في موقفها من السينمائي وعمله المتكتم بين ظَهْرانَيهم.
منذ مجيء نعيم صارت اللغة أشد وضوحاً لأنه كان يحكي عن تجاربه بلغة بسيطة لا تحتمل التأويل والتلاعب، فصارت جزءًا من البناء السردي للشريط، كما أختصرت حياته كمتشرد حياة الملايين من أمثاله. يكشف الصبي، بعد اعترافه بأنه كان يبيع جسده الى الراغبين في شرائه من رجال المدينة المحافظة، حين لا يتوفر له المال اللازم لشراء المخدرات أو إذا أراد الحصول على الطعام في الخارج بعدما طرد من بيتهم، يكشف أن سائقي الشاحنات وسيارات نقل الركاب الخاصة ومساعديهم هم أكثر من يُقبل على شراء أجسادهم وأن المهاجع المفتوحة والتي يقضون ليلهم فيها ليواصلوا المسير صباحاً هي واحدة من أكثر المناطق التي يجري فيها اغتصاب الأطفال، الذين يأتون بدورهم اليها لقضاء ساعات من النوم قبل بزوغ الشمس.

القانوني زيا آوان                                            المخرج محمد نافقي

يعترف أن الكثير منهم قد أجبر على ممارسة الجنس مع أصحاب السيارات الذين غالباً ما كانوا يضربونهم وأن رعاة هذة الأمكنة كثيراً ما كانوا يتواطأون معهم فيغدو الاحتجاج والرفض مستحيلاً. أدمانه على المخدرات قاده الى الأقتراب أكثر فأكثر من المدمنين ومن المرضى جنسياً المنتشرين في شوارع المدنية وأمكنتها المخيفة والذين كانوا يجدون فيه وبقية الصبيان هدفاً سهلاً يشبعون بأجسادهم رغباتهم المريضة، يساعدهم عليها تكتم اجتماعي وشبه قبول بهذا الفعل الهمجي.
يقدم موظف الشؤون الاجتماعية أفضال شاه سجلاً حافلاً بمحاولات أغتصاب البنين من أطفال باكستان ويعزوها لأسباب اجتماعية واقتصادية. فالخروج مع الغلمان في المدن المحافظة لا يشكل مشكلة كالتي تحدث لو رافق رجلاً أمراة باكستانية قبل الزواج، كما أن الفعل الجنسي يظل خفياً بين الذكور وربما لا يخطر على البال عفوياً، ولهذا لا يصدق الناس تقارير الجهات الرسمية ولا دوائر الشرطة وكثيراً ما يكتفون بكلمة: مبالغة!. كما أن الدولة بتغاضيها عن الظاهرة انما تحرر نفسها من مسؤولية معالجتها وبسبب الظروف التي تمر بها المنطقة فأنها تتعكز على محاربة “الارهاب” وأسبقيته على قضايا اغتصاب الصبيان، في الوقت الذي يصف فيه القانوني زيا أوان الحالة بأنها وصمة عار في جبين المجتمع  وصفحة مخجلة من تاريخه اضطرت لسعتها أشد الصحف محافظة بالتمليح اليها. 

مليون ونصف مشرد في شوارع باكستان

المفاجأة الكبرى حدثت حين ظهر على الخط النائب الباكستاني ولاعب الكركت الشهير عمران خان الذي تحمس للمساعدة في أيجاد حلول للظاهرة التي يشعر بدوره بالخجل من وجودها في بلده وكشف عن نتائج أحصائية عن منشورة تقول أن 90% من أطفال الشوارع يتعرضون للأغتصاب وأن الكثير منهم يقتلون لأن الجناة وخوفاً من فضح أمرهم يلجأون الى تصفية الأطفال ليدفنوا سرهم معهم. حالة مخيفة في سلسلة المعادلة المتسلسلة التي أتخذها الوثائقي أسلوباً عالج بها موضوعه الذي تشعبت مساراته وأجبرت جهات رسمية للتدخل اضافة الى رجال دين من بينهم امام جامع استنكر الظاهرة وأعتبرها حراماً وجرماً لا يرضى به الاسلام بل وقد حرمها بوضوح، فيما كشفت  جهات طبية للوثائقي عن أنتشار ملحوظ لمرض الأيدز بين صبيان المدينة وأن بعض المُغتصِبين قد اعترفوا أمام الكاميرا  بممارستهم للجنس مع ذكور لأكثر من مرة وبالقوة. وعلى  خط نعيم، الذي يعود الفضل اليه في توسيع دائرة الوثائقي المثير للجدل، طرأت تغيرات كثيرة كان وراءها أفضال شاه الذي أقتنع منذ البداية بأمكانية أصلاح الصبي عبر تخلصيه أولاً من أدمانه. سيفتح هذا الطريق مجالاً للعودة الى الجانب الأيجابي من المجتمع ويقترب من فيلم “هذه الطيور تمشي” بتسجيله عمل مؤسسات تطوعية وخيرية ساعدت، في ظل غياب الدولة، المشردين على قدر مستطاعتها، وعبرها توسع النقاش بين سياسيين ومثقفين أرادوا من صانع الوثائقي أحاطتهم بالموضوع الذي فاجأ الكثير منهم، كما تفاجأ هو بدوره بالنتيجة التي توصل اليها نعيم: لقد تخلص من أدمانه وكل ما يريده اليوم نسيان ماضية وما تعرض له من انتهاكات جسدية تدفعه كلما فكر بها بالعودة الى تناول المخدرات مجدداً.