“أغاني الحرية” وباسل شحادة والسينما

“…لكنني أعرف أن وقت هذه المقابلة هو الآن.. وبعد ثلاثة عشر “إيميل” بيني وبينه استطعت أن آخذ منه أربع دقائق. أربع دقائق فقط. لكنها كانت كنزاً بالنسبة إلي.”
هكذا وصف “باسل شحادة” محاولاتِه الحثيثة للقاء “نعوم تشومسكي” في معلومات كنا طلبناها منه لموقع الجزيرة الوثائقية في 24/12/2011، بعيد نشره لفيلمه “أغاني الحرية” على يوتيوب.
كان باسل كالحائر بالمادة السينمائية المنجزة بين يديه: “أَجريتُ هذه المقابلات ولم أكن أفكر إلا بنشرها منفصلةً كرسائل دعم على يوتيوب، لكنني انتبهتُ إلى أمر؛ إن كل ما قيل يغنّيه السوريون كلَّ يوم في شوارع سوريا بلغتهم البسيطة”. يقصد ما قاله مفكرون غربيون ومن ضمنهم تشومسكي، في لقاءات أجراها معهم حول الكفاح السلمي وأهميته، في تلك المرحلة من الثورة السورية.
هكذا بدأتْ فكرةُ الفيلم بالتبلور، ليشرع في تركيب مادته بدقائقها الخمس والعشرين، جاعلاً التقطيع يتناوب بين آراءٍ يقولها “مفكرون” غربيون وبين هتافات السوريين البسطاء في الشوارع. وإذ صرح باسل أنه لم يكن ينوي صناعة فيلم من المواد التي صورها، فإنه يتابع وصفه “خَفِراً” محاولاً التلميح إلى أهميةٍ ما فيما قام به: “ربما تنبع قيمة الفيلم من المقابلات مع الشخصيات الغربية المهمة ذات التوجهات اليسارية والداعمة للقضية الفلسطينية… ولكن وجود أغاني الثورة أيضاً بهذا الشكل إلى جانب المقابلات، يجعلنا ننتبه إلى أن كلماتها تحمل من الأشياء الكثير، العميق والمعبر”.

باسل شحادة

يبدو أن المجريات لم تمهل باسل الوقت الكافي للتعرف إلى حقيقة إنجازه، بعد أن قضى بقذائف النظام على حي “الصفصافة” الحمصي في 28/5/2012 . أو أننا لا نعلم كيف أصبح ينظر إلى إنجازه في أيامه الأخيرة.
اللقطة الأولى في الفيلم تظهر لافتةٍ كبيرة في مظاهرة، كُتِبَت عليها الآية الكريمة: “لئن بسطتَ إلي يدَكَ لتقتلَني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلَك” ثم يأتي كلامُ الباحثة “إيريكا شينويث”، عن يأس الناشطين، ما تلاحظه غالباً في حالات المقاومة المدنية حول العالم، مرافقاً لِلَقْطَةٍ فيها متظاهرون سوريون سلميون متجمّعين في مواجهة دباباتٍ للجيش السوري في العمق. ثم يقدم المخرج شهادة الناشطة “رزان زيتونة” عن الثورة، قبل الظهور الأول لتشومسكي، مَنْ سعى وراءه طويلاً.
يعرّف باسل بتشومسكي على النحو التالي: “لغوي وفيلسوف أميركي، ناشط سياسي معروف بانتقاده الشديد للسياسة الخارجية الأميركية والرأسمالية المعاصرة.” لكنه لا يكتفي بهذا التعريف “المكتوب”، فيتبعه بلقطة من حوار مسجلٍ سابقاً لتشومسكي يحاجج فيه محاوره على إحدى القنوات: “نعم هناك مقدار كبير من الكراهية ضدنا تعلم لماذا؟ مادمنا ندعم أنظمة قاسية ووحشية، ونقف في وجه الديمقراطية والتنمية، لأننا مهتمون بالسيطرة على مصادر النفط”. تعود بنا كاميرا باسل إلى اللقاء، تشومسكي يؤكد على السلمية ويشرح لماذا، مع تأكيده على حرية السوريين في خياراتهم بكل الأحوال. ثم مظاهرات تؤكد خيارها السلمي مجدداً بأشكال متنوعة دافقة بالحياة.
التعريف بالباحثة “شينويث” يكون أيضاً من خلال عرض إعلانها الاعتصام على اليوتيوب مناصَرةً لنضال السوريين.

إذاً سنشاهد ونكتشف تباعاً خطة باسل في “تركيب” مادته: تلك الخطة ذات المرامي المحددة والبعيدة والمتفرعة؛ في سعيه نحو هدفه الرئيسي في دعم الخيار السلمي؛ لا تقتصر فقط -كما أخبرَنا- على المناظرة والمقابلة بين “مفكرين غربيين وسوريين” قاصداً الشعب السوري الذي يجترح مأثرته وفكره الجديد في هذه اللحظة، ويكتشف نفسه بعد تغييب دام لعقود، كما قالت رزان زيتونة في بداية الفيلم.
هوَ فوق ذلك يحاول إثبات وجهة نظره بما يتجاوز هدفه المعلن، في جدلية ضمنية عميقة مفترضة، بينه وبين متلقٍ “افتراضي”، جمهور متنوع وربما متناقض، بل هوَ كذلك بكل تأكيد، إذا ما تابعنا خطة باسل العفوية/المخَطَطَة.

يرمي المخرج الشاب والناشط في الثورة السورية، و”المعتقل سابقاً”، الكرةَ أبعد، ويجمح بخفة عندما ينتقل بنا إلى “نورمان فينكلستين”: (باحث أميركي، صاحب كتاب: “صناعة الهولوكست”، ناشط سياسي معروف بانتقاده الشديد للسياسة الخارجية الأميركية والكيان الصهيوني). ويعرض مشهداً “مطولاً” في محاضرة له وسط جمهور غفير في من هوَ منفعل ضده، لأنه شبّه اليهود المؤيدين لإسرائيل ونشاطاتها ضد الفلسطينيين بالنازيين، فنرى الباحث يرد على مداخلة فتاة يهودية “باكية” بحدة تحاكي مشهداً درامياً عميقاً ومؤثراً: “أنا لا أحب ولا أحترم دموع التماسيح هذه. أبي كان معتقلاً في معسكر “آوشفيتز” النازي، وأمي كانت معتقلة في معسكر “ميدانك” النازي، كل أفراد عائلتي تمت إبادتهم، والداي الاثنان شاركا في انتفاضة وارسو، ولهذا السبب تماماً، بسبب الدروس التي تعلمتها من أهلي، لن أصمت عندما ترتكب إسرائيل جرائمها ضد الفلسطينيين، وأعتبر أن لا شيء مخزٍ أكثر من استخدام معاناتهم لتبرير التعذيب والوحشية وتدمير المنازل، لذا أرفض أن يتم استغلالي بهذه الدموع، لو كان لديك قلب كنتِ ستبكين على الفلسطينيين”. هذا المشهد المركزي والذي يبدو للوهلة الأولى خارج سياق الموضوع الرئيسي، بثقله الكبير من حيث المضمون و”الطول” في مدة الفيلم القصيرة؛ إنما يشكل –مع ما يليه- عقدةً هامةً تلتقي فيها مجموعة من الخيوط مصعدةً الجدل الضمني المذكور آنفاً إلى أوجه، ويدل مما يدل، على مقدرة فنية، ووعي سياسي، وقدرة على التحكم، وأسلوبية خاصة بدأت بالتشكل عند مخرجنا “الجديد” من خلال هذا الترتيب. ستجد “طائفة” من “الجمهور” نفسها وجهاً لوجه مع الاستهلال الجديد “المفحِم”؛ لأن “فينكلستين” سيتابع كلامه إلى كاميرا باسل، بأنه لم يعد يرَ في العنف أي فضيلة، ثم يتحدث مباشرة عن “حزب الله اللبناني” وأمينه العام “حسن نصر الله” الذي كان يكن له الاحترام البالغ، “لكن نصر الله أخطأ خطأً تاريخياً بإسقاطه للأخلاق من حساباته بما يخص ثورة السوريين، من خسر محبتهم واحترامهم له”. لقد اختار باسل ما اقتطفه لهذا الباحث من ضمن مادة أكبر كانت لديه:” فينكلستين تحمس من “الإيميل” الأول وأعطاني موعداً لمدة ساعة كاملة”.
إذاً، سيكون السؤال المهم حول تجربة “أغاني الحرية”، عن المردود السياسي كهدف أعلى عند مخرجه في لحظة تاريخية متأججة، مردود اكتشفَ بعفويةٍ أنه لن يكون في الأوج أيضاً إلا بالانتقال بالمادة “المسجلة” من إطارها الإعلامي والتحريضي المباشر، إلى إطارٍ أوسع يدخل فيه العنصر الفني والجمالي في التركيب العام والربط بين الأجزاء، سؤال يمر عبر الإجابة عن: من هو الجمهور المستهدف.

تشومسكي

الإجابة تشبه شكل وتنوع الثورة السورية عينها في تلك الفترة؛ اليافطة المكتوب عليها الآية القرآنية يَستَهدِفُ الفيلمُ بها “الخارجَ” والمجتمعات الأخرى المتوجسة من “إسلامية” الحراك، موجهة أيضاً إلى الثوريين، مَنْ يأمل باسل بالتزامهم بسلمية حراكهم، وربما موجهة أيضاً إلى المتطرفين أنفسهم ممن يؤمنون بالعنف كوسيلة وحيدة للتغيير، يوجهها باسل بكل تأكيد إلى الموالين للنظام ممن مارسوا العنف ضد إخوتهم في الوطن.
التوصيفات والقرائن المعرِّفة بالمفكرين هي رسالة موجهة للثوريين والشعب، أنَّ من يحثكم على السلمية هو في صفكم ويريد انتصاركم، ورسالة إلى الموالين و”الممانعين”، المتمترسين وراء “العداء” لإسرائيل، تؤكد صوابية خيار الثورة ومشروعيتها والحض على تأييدها، كما أنه عدمُ إغفالٍ لمحورية القضية الفلسطينية في خضم الصراع الجاري، وكسرٌ لرواية النظام عن المؤامرة في آن.
هكذا لن يفوت باسل أيضاً أن يسعى للقاء إعلامية بارزة”: “ثم استطعتُ الوصول إلى “إيمي غوودمان” وهي تعتبر من أهم الإعلاميات ذات الفكر اليساري في أميركا”.
تَعدُّد أطياف “المرسَل إليهم” والمخاطَبين، بحيث يصبحون “الجميع” بإطلاق الكلمة، يدل هنا أيضاً على الطبيعة الأخلاقية الخاصة وعلى رحابة الأفق الإنساني لدى المرسِل.
“الفيلم من تمويلي الشخصي، بسيط للغاية، الكاميرا متواضعة جداً، دفعتُ تكلفة السفر والتنقل، ولم يكن أحد ليعلم –أصلاً- أنني أجري هذه المقابلات. عندما أنهيت العمل على الفيلم لم أرسله إلى أي قناة لأن نوعية الصورة لم تكن جيدة (كنت أذهب إلى بيوتهم بمفردي ومعي القليل من الوقت لإجراء المقابلة) فنشرت الفيلم على اليوتيوب”.

 أغاني الحرية، عينة هامة من أولى نتاجات ما بعد الثورة، تلتصق بشدة بطبيعة الحراك المجتمعي وتنبثق منه، هوَ بدايةٌ لمخرج غادرنا، سيكملها كثيرون بعده. ولم تكن آخر العبارات المكتوبة في الفيلم لتشي بغير ذلك:
“أغاني الحرية
فيلم من إخراج
المتظاهرين السوريين”