أفلام من غوتنبرغ عن “الآخر/المهاجر”.. كيف تراه سينما الشمال؟

قيس قاسم

فيلم المخرج العراقي الأصل علا سليم مختلف، وذلك نابع من فهم صانعه لموضوعه ومعرفته الجيدة بمواطن التشابك مع المجتمع الحاضن والتيارات المتطرفة التي يفرزها والتي حاول في فيلمه "أبناء الدانمارك" تجسيدها سينمائياً بلغة راقية على كل الصعد

يحضر “الآخر” بقوة في عدد غير قليل من الأفلام الإسكندنافية المعروضة في الدورة الـ42 لمهرجان غوتنبرغ السينمائي الذي انطلق في 25 يناير/كانون الثاني ويختتم فعالياته اليوم الرابع من فبراير/شباط، مما يشير إلى اهتمام سينماها بشكل لافت بـ”المهاجر” المُقيم بين ظهرانيها، ويعكس موضوعياً ارتقاء موضوع الهجرة إلى قمة الأوليات السياسية والاجتماعية بعد استغلاله بشكل مخيف من قبل اليَمين المتطرف المعادي للمهاجرين وخاصة العرب والمسلمين.

هذا الواقع فرض نفسه -كما يشير الاهتمام ذاته- على وعي صناع السينما الإسكندنافية، وتجلى بشكل واضح في حماسة تناوله المتكرر وبحثهم عن أكثر القصص ملاءمة لتحويلها إلى أفلام تضمن ربحيتها، وذلك عبر ضمان الإقبال الجماهيري عليه�� وتأمين الدعم المالي لها من جهات مانحة، وهو ما يطرح تساؤلاً عما إذا أضحى موضوع الهجرة “ماركة تجارية” قبل أن يكون هاجساً وجودياً في المقام الأول.

ربما يمكن الاقتراب من تخوم محاولة الإحاطة بالسؤال عبر عرض ثلاثة أفلام إسكندنافية شديدة الالتصاق بالموضوع قُدمت في مهرجان غوتنبرغ؛ إثنان منها روائية طويلة والثالث قصير. كل قصصها تمحورت حول المهاجر القادم من الشرق؛ المسلم في الغالب وليس العربي بالضرورة.

ففيلم “أورورو” عن مهاجر إيراني يأتي مع ابنته إلى فنلندا بحثاً عن مستقبل أفضل لها، أما في الدانماركي “أبناء الدانمارك” فبطله عربي، فيما تأخذ الصبية الكردية “جميلة” بطولة الفيلم السويدي القصير. اللافت في هذه الأفلام هو موقفها الإيجابي العام من بطلها، ومع ذلك يبدو تجسيده في بعضها على الشاشة باهتاً لا يصب في مصلحة المنجز الإبداعي نفسه، بل يقربه من مصاف أفلام “الكليشهات” النمطية التناول والاشتغال، والذي يظهر في جوانب من فيلم المخرجة الفنلندية ميا تيرفو “أورورو”.

فيلم "أورورو" عن مهاجر إيراني يأتي مع ابنته إلى فنلندا بحثاً عن مستقبل أفضل لها

المهاجر في “أورورو”.. تنميط وتسطيح

بقدر صعوبة فهم وجود المهاجر في دول الشمال لخصوصية ثقافة مجتمعاتها وطريقة تفكيرهم المختلفة عن بقية دول القارة الأوروبية، تبدو فكرة عرض حال المهاجر وفق أمنيات طيبة؛ سطحية وبعيدة عن الواقع. فالأمنيات والنوايا النبيلة لا تكفي وحدها لصناعة فيلم مقنع يتناول حالة هي اليوم موضوع سجال فكري وسياسي محتدم.

وعلى مستوى كتابة الشخصية/البطل فالإيجابية على الورق لا يمكن أن توفر قناعة كاملة عند متلقيها من على الشاشة، حتى لو وُضعت ضمن سياق أكبر لتبرير سلوكها ومواقفها، وهذا ما جاهدت مخرجته العمل عليه لكنها ظلت أسيرة “الإيجابية” المفرطة التي لم تشفع لها حتى المناخات “السوداوية” المحيطة ببطلتها. فالشابة أورورو (الممثلة ميموسا وليامو) تعاني من حالة إدمان كحولي عُرف عن انتشارها بين أفراد المجتمع الفنلندي، وكان سبباً في تمزق علاقتها بوالدها المدمن أيضاً.

أما المناخ الذي يتحرك فيه المهاجر الإيراني درايان (الممثل أمير إسكندري) فيبدو مثالياً تأتيه العناية من كل جهاته، وفكرة رفض وجوده كغريب سرعان ما تزول ليحل مكانها تعاطف وفهم جيد لحالته، لدرجة لم يعد يكتفي بطرح نفسه كساع للحصول على بديل يضمن له حياة جديدة، بل كشخص مترفع يملي أفكاره وقيمه على الباقين ويضعها في تقاطع مع علاقته بأورورو التي مالت إليه وأحبته.

تحولات الموقف السريعة والتصاعد الدرامي التقليدي مكرر كما في أفلام كثيرة تناولت موضوع الهجرة، أما الحوار فيكاد يكون نفسه، لا يرتقي إلى مستوى سجال معرفي ولا يعكس صراعاً ثقافياً عميقا ولا يحيل إلى تأزمات نفسية تفرض بالضرورة بحثاً عن الدوافع التي تجبر المهاجر على ترك بلاده والقدوم إلى أرض غريبة لا تقبل بسهولة للغرباء وضع أقدامهم فيها.

تهرّب نص “أورورو” من البحث عن دوافع هجرة بطله تُضعفه، كما أن تَغيّر مواقف كل واحد من المحيطين به من السلب إلى الإيجاب واندفاعهم للتآزر مع القادم إليهم الذي يستعد ليلعب دور المواطن الجيد من لحظة وصوله.. جعله باهتا أكثر.

قد يشفع قليلاً لـ”أورورو” قفشاته الكوميدية وبشكل خاص المتعلقة بمحاولات تزويجه من نساء فنلنديات بغية حصوله على حق الإقامة الدائمة، في مواقف سريعة لم تُمنح فرصة جيدة لتطويرها فظلت باهتة، فيما شددت الجدية موقعها في مساره التقليدي لتوزع نصه “الطيب” بين الكوميديا وبين الدراما المكتوبة باستسهال يعزز من مشروعية السؤال عن الغاية من التوجه الملحوظ في اللحظة الحالية إلى صناعة أفلام حول الهجرة، بعجالة وخفة.

فيلم المخرج العراقي الأصل علا سليم مختلف، فهو يبتعد سليم عن النمطية ولا يكرر الصورة الخاصة بالمهاجر العربي في فيلمه

أبناء الدانمارك.. معالجة جديدة

ليست كل الأفلام بالطبع تنحو هذا النحو، ففيلم المخرج العراقي الأصل علا سليم مختلف، وذلك نابع من فهم صانعه لموضوعه ومعرفته الجيدة بمواطن التشابك مع المجتمع الحاضن والتيارات المتطرفة التي يفرزها والتي حاول في فيلمه “أبناء الدانمارك” تجسيدها سينمائياً بلغة راقية على كل الصعد، لكنه مع ذلك يمكن أن يثير جدلاً حول الطريقة التي اقترحها لحسم الصراع الفكري معها.

يبتعد سليم عن النمطية ولا يكرر الصورة الخاصة بالمهاجر العربي في فيلمه، فيأخذه من زاوية جديد شديدة الخصوصية تتعلق بالأفراد الذين قرروا الاندماج في المجتمع وخدمته، ورغم ذلك وجدوا أنفسهم في تصادم مع العنصريين الذين لا يرون فيهم سوى أجانب عليهم مغادرة البلاد وتركها لـ”أبناء الدانمارك” الأصليين.

ولتجسيد العلاقة التصادمية المبنية على فهم خاطيء للآخر، اقترح تقديمها عبر مسارين مثيرين: الأول يلاحق فيه تطور انتقال الشاب العراقي زكريا (الممثل محمد إسماعيل محمد) إلى التشدد، وفي هذة المرة هو ليس إسلاموياً كما جرت العادة، بل وجوديا ودوافعه الخوف من التهديد القادم من اليَمين المتطرف الذي صار يبيح الاعتداء على المهاجرين ويشهر كراهيته لهم مما يثير فزعاً داخلهم، ويدفعهم للتفكير بطرق تحد من اندفاعهم.

المسار الثاني يتعلق بعميل سري من أصول عربية يدعى علي (الممثل زكي يوسف) يعمل لصالح المخابرات الدانماركية وتسهل إجادته اللغة عليه التوغل داخل التنظيمات المتشددة وبالتالي يعد شخصاً مهماً للجهات الأمنية.

المساران سيلتقيان عبر تطور أحداث ونمو شخصيات كتبت بعناية، وتساوقت مع رسمه للشخصيات المتطرفة التي يمثلها مارتين نوردال (يلعب دوره الممثل راسموس بيرغ) رئيس حركة القوميين المتشددين وهي في طريقها لتسلم زمام الحكم في الدانمارك، وهو في الوقت نفسه موضع مراقبة قادة الحركات الأجنبية المتشددة. إليها وصل زكريا فكلفوه بتصفية نوردال.

يأخذنا الفيلم معه في رحلة تحوله إلى التشدد عبر مراجعة حالته الاجتماعية وعلاقته بأخيه الأصغر ووالدته، ويضعنا في صورة واقع مزرٍ يعيشه المهاجرون اليوم في الدانمارك يمكن بسهولة استغلال ما يتركه من أثر مؤلم في النفس لصالح أهداف وغايات سياسية تتخذ العنف وسيلة لها.

نقطة التقاء الشاب العراقي زكريا بالعميل تتشكل عبر مرافقة العميل له بوصفه عضوا “مندسا” في الحركة مكلفا بتدريبه على استخدام السلاح. ولا يطيل علا سليم قصصه حتى يصل إلى ذروة التصعيد الدرامي بإفشال خطة القتل ومنع زكريا من ارتكاب جريمة، فيما يظل هو يعمل على كشف تشدد داخلي لا يقل خطورة عن الأول. وكشفه لتنظيماتهم وتحركاتهم سيثير غضب قادة منظمة “أبناء الدانمارك” المتطرفة عليه فيقرروا الانتفام منه لحظة إعلان فوز المتشددين القوميين بالانتخابات الدانماركية، وسيذهبون لتشويه وجه زوجته بالمواد الكيميائية ويقتلون ولده، فما كان منه إلا الانتقام منهم بقتل رمزهم “رئيس الوزراء” الجديد.

الجدل المحتمل سيثار حول طريقة انتقامه وتحوّل مسار سلوكه لمعالجة الصراعات من الطرق السلمية إلى العنيفة. وهنا لا يخاف علا سليم من الإفصاح عن وجود هذه الطرق سواء وافق المشاهد عليها أم لا، وفي كل الأحوال لم يكن هذا هو الجانب الوحيد المعني به، فالاشتغال السينمائي لـ”أبناء الدانمارك” له الأولية عنده، واستثمر قاعدة معلومات صحيحة يتوفر عليها لخدمتها، فجاء فيلمه متماسكاً لا يمكن وضعه في خانة “التجارية الربحية” لصدق معالجته ولشدة التصاق الموضوع بصانع الفيلم نفسه الذي أراد إعلان موقف فكري مما يجري في بلاد يعيش فيها ويعرف طريقة تفكير خصومه المتطرفين في كلا الجانبين.

الفيلم السويدي القصير "جميلة" كل ما فيه جميل، فهو رغم قصره ممتلئ تعبيراً إنسانياً، تحاكي قصته فكرة الخوف من الضياع وخسارة كل شيء

جميلة.. كل ما فيه جميل

الفيلم السويدي القصير “جميلة” كل ما فيه جميل، فهو رغم قصره ممتلئ تعبيراً إنسانياً، تحاكي قصته فكرة الخوف من الضياع وخسارة كل شيء. جميلة.. الطالبة الصغيرة تحاول جاهدة إخفاء حقيقة صدرو قرار رسمي برفض طلب لجوء أهلها للإقامة في السويد، فتأخذ أختها كل يوم إلى المدرسة وتعود بها إلى البيت وعينها على الطريق، فرجال الشرطة بدؤوا يبحثون عنهم في محاولة لإبعادهم بالقوة من البلاد.

خوفها من الشرطة نجده في نظراتها ومن إطالة لحظات صمتها، حتى علاقتها بزميلاتها لا تكتمل، فهي خائفة دوماً تنظر إلى رجل الشرطة لا كما تنظر زميلاتها إليه. هو بالنسبة لها يرمز إلى السلطة التي تريد انتزاعها من مكان بدأت التآلف معه والتفكير ببناء مستقبلها فيه.

المدرسة ورجل الشرطة على طرفي نقيض في فيلم الصربية صوفيا فوكوفيتش. ولتجسيد تلك النظرة اكتفت بالاعتماد على عفوية الأطفال في تجسيد الأدوار السينمائية وقدرتهم على نسيان الكاميرا التي تواجههم وترافق تحراكاتهم. فقوة التعبير في وجه “جميلة” والاقتصاد الكبير في الحوار يجعلان من الفيلم القصير عملاً سينمائياً رائعاً شديد التعبير عن حالة المهاجر الطفل ونظرة الآخر إليه بوصفه رقماً طارئاً، بينما تقول نظراتها وعصبية حركاتها: إنهم بشر يحسون كالكبار بأوجاع أهلهم ويخافون من المجهول ومن الضياع مثل غيرهم من الغرباء.

الأفلام الإسكندنافية الثلاثة تشير بحدود حجمها وعددها إلى اختلاف زوايا تناولها لموضوع “الآخر” والهجرة في السينما الإسكندنافية. وفي الأحوال كافة لا يمكن تفسير حماستها كلها له بالتفكير التجاري واستغلالها كعلامة تجارية، فهناك بينها اشتغال سينمائي حقيقي يعكس هواجس إبداعية حقيقية لا يمكن ضمها إلى المنفعية المستثمِرة للموجة السياسية السائدة.