أنغام جزائرية في الغربة

الفيلم  الوثائقي “مصطفى وحكيم، أصول موثقة”

ندى الأزهري- باريس
مصطفى وحكيم و مجموعتهما الغنائية ” أصول موثقة”، كانوا موضوع  وعنوان فيلم وثائقي أنجزته سامية شالة بالتعاون مع تيري لوكلير وعرضه مؤخرا معهد العالم العربي في باريس. جاء العرض ضمن إطار العيد الخمسين لاستقلال الجزائر الذي يخصص له المعهد عروض أفلام وندوات ولقاءات متنوعة.
من شرق فرنسا إلى غربها، في مدنها وأريافها تتمايل أجيال شابة على ايقاع اغنيات جزائرية قديمة انتشرت في الأربعينات وحتى السبعينات من القرن المنصرم، لقاء استثنائي يحصل ومنذ أعوام بين هذا الماضي القريب وبين الحاضر بفضل شابين كانا يوما مغنيين في فرقة ” زبدة” الفرنسية. حكيم ومصطفى، نشآ على أنغام جزائرية كان والدهما سي مهند صالح “يفرضها” في كل مكان يتحرك فيه، تصحبه كجزء من كيانه لا ينفصل عنه، في البيت في السيارة في النزهات… كان يعيش عبر هذه الموسيقى، وكانت ملاذه كما حال معظم جزائريي ذلك الجيل، والتراث الاغلى الذي نقله لأبنائه والذاكرة التي قرروا إحيائها.
فيلم “موس وحكيم، اصول موثقة”، تتقاطع فيه حكايات الموسيقى مع الغربة و الهوية وارث الأجداد، ويروي شهادات ويُسمع أغان… والد حكيم ومصطفى يحكي ولعه بهذه الموسيقى، بهذه الأغاني التي حكت كلماتها الغربة ومشاقها، الكفاح السياسي، الوحدة والحب، والتي تنوعت ايقاعاتها تنوع لغاتها من العربية إلى القبائلية مرورا بالفرنسية. إنها موسيقى الشعبي الجزائري التي غناها دحمان الحراشي وسليمان عازم ومعطوب لونيس وشيخ حسناوي وغيرهم كثيرون وعبروا من خلالها عن فترة حساسة في التاريخ الجزائري الفرنسي ما قبل و بعد الاستقلال. لقد كانت تلك الموسيقى ملاذا لكل هؤلاء الذي دفعتهم حاجتهم للعمل إلى عبور المتوسط نحو الضفة الأخرى حيث لم يكونوا دائما محل ترحيب، فجاءت الأغنيات التي انتشرت حيث  انتشروا  معبرة عن اللوعة والحنين.

شمل الفيلم ايضا شهادات حكيم ومصطفى ” التولوزيين” اللذان ينتميان إلى تلك المدينة الفرنسية و لا يمنعهما حبهما لفرنسا من افتخارهما بالأصل الجزائري. كان هذان المغنيان في فرقة” زبدة” ثم ما لبثا أن شكلا فرقتهما الخاصة “موس( تصغير مصطفى) وحكيم أو بالعكس( حكيم وموس)”،  وأصدرا مجموعتهما الموسيقية الخاصة في 2008. لكنهما قبلها بسنة، قررا إعادة غناء أغنيات جيل الآباء بتوزيع موسيقي جديد فكرسا لها ألبوم ” أصول موثقة”، ومنذ ذلك التاريخ وهما يجوبان فرنسا يغنيانها، ويعبران عن حبهما لهذا التراث الموسيقي الذي لم يكن يحركهما حقا في سنوات الشباب الأولى او بالأحرى لم يكن يتماشى مع ذوقهما الموسيقي حينها. بيد أنهم اكتشفا بعدها تآلفا مع هذا الأرث وتأثرا به وعشقا له كامنا في الاعماق ما لبث أن طفا على السطح. حكيا كذلك عن الانتماء إلى هويتين، حبهما للبلدين، نظرة الآخرين، ونظرتهما لإرث الأجداد ومشاكلهما أحيانا… مع اللغة العربية كجيلهما من المهاجرين. هنا بين الفيلم بلقطات طريفة صعوبة” تفكيك” كلمات الأغاني العربية فلا انترنت حينها لنشر الكلمات كما يحصل اليوم، ولكن باصرارهما ومع وجود مدقق، تمكنا من فهم كل الكلمات ونطقها” كما يجب”، فخرجت الحاء والعين كأفضل ما يمكنهما!
وهكذا كان الشريط مناسبة للتعرف على موسيقى الشعبي التي انتشرت في فرنسا، وعلى تعلق الجيل القديم بها في الأربعينات وحتى السبعينات، لأنها شكلت خير معبر عن تعلق المغترب بالوطن وحنين روحه إليه فكان يستمع إلى المطربين ، ومعظمهم كان مغتربا، في مقاه خاصة بهم. التعريف اقتصر على غناء حكيم ومصطفى وكان من المناسب سماع بعض القدماء أيضا، فالفيلم اكتفى بذكرهم وعرض صورهم.
أهدت المخرجة سامية شالة وهي فرنسية من أصول جزائرية عملها هذا إلى والدتها، فبعد حضورها لحفل لمصطفى وحكيم، تأثرت بهذه الأغنيات التي ذكَرتها بأمها ايضا وبكل ما رافق طفولتها وشبابها من ايقاعات موسيقية كانت تصلها، هي أيضا، “رغما عنها”، فما يستمع إليه الأباء لايروق للأبناء بالطبع! لكن مصطفى وحكيم استطاعا بأدائهما إحياء، ليس فقط موسيقى جميلة واصيلة بل الذاكرة وما في الأعماق من مخزون ثقافي غني شكل إضافة فنية وإنسانية للفن الجزائري وأصبغ للفن الجزائري عليه نكهة مميزة.
الفيلم هو أولا تكريم لهؤلاء الموسيقيين القدامى الذين حكوا الاغتراب عبر الموسيقى، كما أنه تكريم لمن يعيد اصداء اغنياتهم وينقلها بدوره إلى الجيل الجديد، وهو يقدم كذلك شيئا آخر لا يقل أهمية. إنه لحظات من المتعة عن دور الأغنية في لعب دور هام لتسهيل التواصل مع الثقافة الأخرى.