“أوشامُ جدتي”.. مذابح الأرمن تحت حبرها الأسوَد

قيس قاسم ـ السويد

تتهددُ، حين تتشعب حكاية الوثائقي، بإحتمالات التشظي والإنفلات، أو قد يقودها التشعب ذاته أحياناً، إذا ما أحكم صانعه التحكم بها، الى الذهاب بعيداً في عوالم أخرى، تتولد منها حكايات وموضوعات جديدة تمنح الفيلم عمقاً ومعنى مضاعفين. في “أوشام جدتي” بدأت القصة ذاتية بسيطة، سَرَدت فيها المخرجة السويدية الأرمنية الأصل سوزان خاردليان علاقتها بجدتها، من جهة أبيها، حين كانت طفلة تعيش معها في نفس العمارة السكنية في أحد أحياء بيروت ذي الأغلبية الأرمنية. إتسمت علاقتها بها بالنفور والخوف، لتجهمها وعدم الإقتراب منها ومن بقية أطفال وَلَدَها. لم تكن تبتسم في وجهها، ولا تضمها الى حضنها أو تُقبلُها، كما تفعل بقية “الجدات”.
“كانت صامتة وكنت أمقتها، وأكثر ما كان يخيفني فيها تلك الأوشام الغامضة المرسومة على وجهها!”. هكذا صاغت المخرجة علاقتها بالجدة بتعليق جاء بعد مشهد إفتتاحي، قصير جداً، أعيد تمثيله، وفيه يظهر قارب صغير، صُور عن بعد، وهو يسير وسط نهر الفرات وفيه عدد من الأشخاص لا نرى ملامحهم بوضوح.

                     المخرجة                                                                         الجدة

بعد سنوات طويلة، في المهجر، كادت خاردليان أن تنسى تفاصيل علاقتها بجدتها لكن وأثناء تقليبها أرشيفاً عن تاريخ إبادة الأرمن عثرت على وثيقة  ضمت صور شابات نَجَون منها، وأكثريتهن كانت وجوههن مدبوغة بأوشام تشبه أوشام  جدتها، فخطر على بالها سؤالا عما إذا كانوا الأرمن يوشمون بناتَهُم مثل بعض الشعوب والقبائل في العالم؟. هذا السؤال أحالها الى عائلتها؛ فهي أفضل من يقدر الإجابة عليه.
رحلتها للسؤال عن الوشم بدأت من بيروت، في نفس العمارة السكنية التي ولدت فيها وما زالت بقية العائلة تعيش. في الشروع بعملية البحث رافقها زوجها المخرج والمصور السويدي المعروف بيو هولمكفيست، فهما ومنذ مدة يتشاركان في صنع وثائقيات مهمة عن القضية الفلسطينية منها: “فرويد غزة”، “كلمات وحجر ـ غزة” و”غيتو غزة” وفي الموضوع الأرمني إشتغلا؛ “عودة الى أرارات” و”أنا أكره الكلاب ـ عن آخرِ الناجين”.
لم تجنِ من عائلتها في بيروت غير الصمت، وقليل من الأجوبة المبهمة فلا أحد كان يرغب الخوض في ماضي مبهم، على العكس كانت ذكرياتهم تبدأ دوما ًمن المكان الجديد، من بيروت،  لسبب بسيط أن أجدادهم وحتى والدهم لم يذكر يوماً ذاك الماضي. كان الرجال في الحقيقة يشعرون بالخزي من تذكره ولهذا كانوا يسكتون عليه، فلم يكن أمام خاردليان سوى الذهاب الى أمريكا لمقابلة أخت جدتها فهي حتما، كما ظنت، ستزودها بشيء عن ماضيها والأوشام التي على جسدها بخاصة وأنها كانت برفقة والدتها وأختها في جوف القارب الذي نقلهم من ضفة المذبحة الى عمق الصحراء. لم تفلح في تحريك ذاكرة العجوز فقد كانت جزءا من التاريخ المنسي أو المرغوب بقوة في التناسي، وكانت هي أيضاً موشومة بذات الوشوم، ولم تكن توضحياتها عن مصدرها سوى همهمات غامضة ليس فيها من روح الكلام سوى الحروف. سوزان  خاردليان المهمومة بالسؤال لم تترك حكاية القارب، فبالنسبة اليها كان بمثابة خيط قد يقودها حيث الجواب الشاف،  فراحت تسأل كل معارفها عن رحلة نهر الفرات تلك وماذا حدث بعدها؟ وسيقودها السؤال فيما بعد الى منطقة  دير الزور السورية حيث لاقت عائلتها مصيرها التراجيدي هناك.

الى هنا وعند منتصفه عَبَر “أوشام جدتي” منطقة الخطر، وحقق شرطاً صعباً في الوثائقي الشخصي ونعني به الإقناع، خاصة بوجود عنصرين في غير صالح بدايته: الأول تمثل بقلة المادة البصرية الخام والثاني الإنحياز الجاهز للموضوع ووجهته، ومع هذا جاءت مادتها التسجيلية الآنية، وجلها حول لقائاتها مع أسرتها والتعليق المكتوب بلغة شاعرية، مؤثرة، وأحلى ما فيه العفوية التي دخل بها أهلها في عمق موضوع ما كانوا مستعدين له ولا راغبين في إثارته. في تفاصيل الحياة العائلية وكلام أهلها كانت ملامح الجدة تتكون وقصتها صارت لها قاعدة قابلة للسرد ولهذا وحين زارت المخرجة منطقة  دير الزور السورية  وتعرفت على مواقع المقابر الجماعية لم تخفِ مشاعرها الشخصية، كون المادة المطروحة للبحث قد أخذت بالتبلور وصارت شأناً عاماً، فالمجازر التي ارتكتبها العثمانيون ضد شعبها ما بين الأعوام 1915ـ 1923، أصبح شأناً تاريخياً معروضاً للبحث، من أكثر من منظور أولها إنساني وهذا ما لم تنساه صاحبة العمل، فصارت أسئلتها تأخذ بعداً حميمياً،  بعد أن أتضح أن صاحب القارب ( لم تُحَدد جنسيته، فمرة كانوا يقولون كردياً ومرة أخرى تركياً) قد أخذ الفتاة الصغيرة وأمها وأختها كسبايا، وقد إتخذ من الجدة زوجة أو خادمة وأجبرها على وشم وجهها لتُعَلم الى أي قبيلة تعود ملكيتها. ثم وبعد سنوات حررت من أسرِها! وأطلقت وحيدة في البرية، لا أحد يعرف كيف عاشت، و ما إذا تعرضت للإغتصاب؟ هل مارست الدعارة أم إشتغلت؟  كل السنوات التي سبق وصولها الى لبنان مع أولادها وزوجها ظلت سراً لم يتطرق اليه أحد. كان العار والخجل منه يلف حياتهم وكان هذا أكثر ما يغضب الحفيدة ـ المخرجة. في بيروت عاشوا وكأنهم جميعاً ولدوا هناك وفي وقت واحد، بلا ماضي ولا جذور. “أوشام جدتي” هو قصة الجدة وقصة الحفيدة معاً، قصة شعب سُبيّ وما زال يخجل من ذكر ما تعرضت له مسبياته. قوة إقناع “أوشام جدتي” تكمن في فضح الماضي، في القبول بمناقشته كما هو وأيضاً في تجسيده معنى الراحة عند إكتشاف الجذور. جمالياته السينمائية، لم تأت من الصورة، بل من تشعب قصته البسيطة التي بدأت حول علاقة طفلة بجدتها حتى وصلت الى عرضٍ لتاريخٍ  طويل من الفجيعة لشعب تعرض للإبادة وتوزع نسله بين جهات الأرض.