أيام قرطاج السينمائية.. التأسيس لسينما خارج حدود الجغرافيا

بلال المازني

مهرجان أيام قرطاج السينمائية لعب دورا أكثر من دوره الفني، وربما تجاوز السينما ليكون دورا دبلوماسيا وجيوثقافيا جمع دول القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية

ليس من الغريب على تونس أن تكون حاضنة لعميد مهرجانات السينما العربية والأفريقية، ونقصد بذلك أيام قرطاج السينمائية، ذلك المهرجان الذي لعب أحيانا دورا أكثر من دوره الفني، ربما تجاوز السينما ليكون دورا دبلوماسيا وجيوثقافيا جمع دول القارات الثلاث أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وجعل من مقره تونس همزة وصل إلى أوروبا التي فتحت عبر هذا المهرجان عينا على العديد من الدول المغمورة.

لم يكن تأسيس المهرجان وليد لحظة عشق في عقل الدولة الحديثة آنذاك أو نوعا من برجوازية الإنتليجانسيا (النخبة المثقفة) الباحثة عن نفسها في السينما، بل كان أقرب إلى لبنات تاريخية وثقافية وسياسية توضع ببطء وثقة لتؤسس مهرجانا بهذا الثقل العربي والأفريقي. وكانت اللبنة الأولى ببساطة هي اكتشاف تونس للفن السابع منذ بداياته الأولى. فقد كانت سباقة عالميا في احتضان الأخوين لوميار اللذين صورا مشاهد حية في العاصمة سنة 1896.

وبدخول تلك الآلة الغريبة “السينماتوغراف” إلى تونس أصبحت الأفلام تعرض بانتظام وتأسست سنة 1907 وكالة لتوزيع الأفلام وافتتحت سنة 1908 أوّل قاعة تجارية للعروض السينمائية. ومنذ ذلك الوقت بدأت ثقافة هذا الفن الجديد تتغلغل في تونس التي دخلت ميدان الإنتاج السينمائي سنة 1922 بتصوير ألبير شمامة شيكلي أوّل فيلم تونسي قصير بعنوان “زهرة” من بطولة ابنته هايدي شيكلي وتلاه الفيلم الطويل الأول “عين الغزال”.

الطاهر شريعة يعدّ أبو السينما التونسية بلا منازع بعد أن نجح في تنشيط حركة نوادي السينما في عدة مدن تونسية أهمها نادي صفاقس

حراك سينمائي.. في قبضة المستعمر

في الثلاثينيات أصبحت السينما من الفنون القائمة الذات في المشهد الثقافي آنذاك وبدأت تستقطب جمهورا عريضا ينافس جمهور عروض المسرح والموسيقى، خاصة عندما أصبحت الأفلام المصرية تعرض في قاعات السينما. هناك ازدهر بناء قاعات العرض وتوسع نطاق العروض على مدن البلاد الأخرى.

وأصبح هناك حراك ثقافي سينمائي كبير، لكنه بقي في قبضة المستعمر خوفا من أن تستغله الحركة الوطنية التونسية في حشد الرأي العام. لذلك سعت سلطات الاستعمار إلى تضييق حلقة الفن السابع وجعلها إما لرعاياها الفرنسيين أو لمن كان على وفاق ومصالح معهم من بعض المثقفين والبرجوازيين التونسيين.

في هذه الظروف السياسية والتاريخية بدأ نجم مؤسس أيام قرطاج السينمائية ورائد السينما الأفريقية يصعد. إنه الطاهر شريعة العاشق المؤسس والمهووس بالسينما ودورها الثقافي والوطني.

يعدّ الطاهر شريعة أبو السينما التونسية بلا منازع بعد أن نجح في تنشيط حركة نوادي السينما في عدة مدن تونسية أهمها نادي صفاقس، واستطاع أن يتحدى الاستقطاب والاحتكار الفرنسي وأن يقيم أول نواة تونسية وطنية مستقلة عن التأثير الاستعماري عندما قام بتجميع النوادي الثلاثة الكبرى سنة 1952.

من هناك بدأ مشروع تَوْنَسة نوادي السينما وبعثه في كامل مدن الدولة، وشهدت تونس خلال فترة الستينيات حركة سينمائية كبيرة بدأت ترسم ملامح السينما التونسية الأولى ببعدها العربي الأفريقي جغرافيا والنضالي فكريا وجماليا.

الوجه الأبرز ثقافيا لتونس إثر استقلالها كان الشاذلي القليبي الذي تم تعيينه سنة 1958 مديرا عاما للإذاعة والتلفزة التونسية

مهرجان قرطاج.. تَوْنَسة الثقافة السينمائية

إثر الاستقلال كانت تونس تبحث بجهد جهيد عن إنشاء مشهد ثقافي تونسي وطني بامتياز، حيث عمل بورقيبة على جمع أبرز كفاءات حزبه للنظر في تكوين مؤسسات الدولة الحديثة في المالية والصحة والدفاع والثقافة.

وكان الوجه الأبرز ثقافيا حينها هو الشاذلي القليبي الذي تم تعيينه سنة 1958 مديرا عاما للإذاعة والتلفزة التونسية، وفي 1961 أسندت إليه مهمة إنشاء وزارة الشؤون الثقافية التي تولى حقيبتها وأسس خلال فترة إدارتها مهرجان قرطاج.

كما اتجهت الإستراتيجية الثقافية إلى إنشاء مشهد سمعي بصري متكامل، فتمّ سنّ مجموعة من القوانين التي تنظّم الهياكل الإبداعية بداية من 1962، وتمّ تأسيس مهرجان سينما الهواة بقليبية سنة 1964، وتكللت هذه التونسة الثقافية بمشروع أيام قرطاج السينمائية تحت إشراف الطاهر شريعة وبمساهمة كبرى من وزير الثقافة السيد الشاذلي القليبي.

وبعد أن تكاتفت لبنات التاريخ والثقافة والسياسة لتأسيس المهرجان لم يبق إلا اللبنة الأخيرة التي ستعطي المهرجان ثقله وأهميته.

لم يكن رسم الملامح والتوجهات العامة للمهرجان خارج السياقات الأيدولوجية حينها، بل انبثق منها وعمل على استثمارها فنيا وسياسيا، فمنذ البداية تمت المراهنة على الطابع الوطني والنضالي للمهرجان الذي عمل على تشجيع حركات التحرر الشعبية ومساندتها والوقوف مع قضايا الإنسان بغض النضر عن العرق والدين واللون.

بالإضافة إلى واحدة من أهم أساسيات المهرجان التي جعلت منه فعلا عميد المهرجانات العربية والأفريقية وهو الانفتاح على الجهات الأربع، فقد عمل المهرجان على التعريف وفتح الآفاق لسينما جديدة ومغمورة هي السينما الأفريقية التي أخذ مؤسس المهرجان الطاهر شريعة بدفعها إلى الأمام وتشجيعها منذ الدورة الأولى، حيث جمعته علاقة صداقة قويّة بالمخرج السنغالي “عصمان صمبان” الذي توّج فيلمه “سوداء” بجائزة “التانيت الذهبي” للدورة الأولى لأيّام قرطاج السينمائيّة سنة 1966.

 

أيام قرطاج.. عميد المهرجانات العربية والأفريقية

كما كانت أيام قرطاج السينمائية في تونس ومؤسسها الطاهر شريعة البوابة التي خلقت حراكا سينمائيا أفريقيا مهما، حيث أسس هذا الأخير الاتحاد الأفريقي للمخرجين ببوركينا فاسو وأسبوع السينما الأفريقية سنة 1969، ومهرجان السينما الأفريقية بخريبكة في المغرب.

كل هذا الحراك ولد من رحم أيام قرطاج السينمائية التي جعلته يتصدر المشهد السينمائي الأفريقي، دون أن ننسى المراهنة على السينما العربية وربط منصة تواصل مع دول المشرق تواصلت إلى الدورات الأخيرة وراهنت عليها إدارة المهرجان في بيانها الأخير على لسان نجيب عياد حيث قال: من الضروري إعادة تركيز المهرجان على أسسه الأولى التي بني عليها والتي باتت اليوم مبادئ ثابتة تمثل المهرجان وتدعم خصوصيّته الإقليمية والعالمية:

– التأكيد على الصبغة الأفريقية والعربية للمهرجان، وخلق توازن أكبر بين أفريقيا والدول العربية من حيث اختيار الأفلام والضيوف.

– التأكيد على الإرادة المتمثلة في جعله “مهرجانا للجنوب” ومنصة ثلاثية القارات تجمع بين أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للعالم العربي.

المخرج المصري يوسف شاهين تجمعه صورة مع مؤسس أيام قرطاج السينمائية الطاهر شريعة

نصف قرن من الإشعاع في كل الأصقاع

كل هذا الانفتاح والتنوع صنع سجلا ذهبيا من جوائز وتكريمات تجاوزت حدود الجغرافيا الضيقة عبر أسماء مثل المخرج السنغالي عصمان صمبان الحاصل على أول تانيت ذهبي عن فيلم “سوداء”، إضافة إلى منح رائد الحركة السينمائية الكويتية المخرج خالد الصديق التانيت الذهبي لفيلم “الصقر”، وفيلم “عزيزة” للمخرج الفلسطيني ميشال خليفي الذي حصل على التانيت الذهبي سنة 1980، وفيلم “عبور” لغاستون كابوري الفائز سنة 1982 بجائزة لجنة التحكيم، إضافة إلى تكريم عدد من المخرجين السينمائيين العرب والأفارقة منهم المخرجة التونسية كلثوم برناز، والمخرج المصري يوسف شاهين، والمخرج السنغالي جبريل ديوب مامبيتي، والمخرج البوركيني إدريسا ودراووغو، والمخرج الإيراني عباس كياروستامي، والقائمة تطول.

اليوم يمر على تأسيس المهرجان أكثر من نصف قرن ولا يزال قائما على مبادئه الأولى ساعيا إلى التعريف بالسينما العربية والأفريقية. ويمكن القول إنه استطاع منذ بداياته الأولى أن يتجاوز مختلف الصعوبات وأن يكتسب نضجا وإشعاعا على كل أصقاع العالم.