الأطفال في السينما الإيرانية ..الصورة المختلفة

ليس من المبالغة القول إن الأطفال أحدثوا انقلابا في السينما الإيرانية، ومنحوها أساليب مبتكرة للتعبير، ومن الصعب اليوم تصور السينما الإيرانية بدون هذا الحضور،الذي شكل الضمير الذي دافع عن بلادهم أمام الصورة السوداء والسلبية التي حاكها الإعلام الغربي عن ايران والإيرانيين. وجاء دفاعهم عبر قصة تؤلف وأخرى تحكى بأسلوب يمكن وصفه بالسهل الممتنع، واستطاعوا أن يثبتوا أن العالم الخشن والقاسي الذي يلصق بوطنهم لا مكان له في روايتهم . وأرسلوا عبر تلك الأفلام رسائل صلح ومحبة. وفي المحصلة نجح هذه الحضور في جر المشاهد الغربي إلى جدال واسع حول أخلاقية تلك الصورة.
والطفل في هذه السينما بريء ونشيط لكنه لحوح أيضا، يصر على مطالبه الصغيرة في مواجهة الكبار دون كلل. ويرى الناقد السينمائي الدكتور حميد رضا صدر أن هذه المرحلة من عمر السينما الإيرانية بدأت في فترة الحرب الدموية مع العراق، وكانت رسائل الصلح والمحبة تلك تأتي في أوج تلك الحرب ومتزامنة مع تعاظم قسوتها.
أين بيت الصديق؟

من فيلم أين بيتي لابراهيم كيارستمي

وجاء فيلم المخرج عباس كيارستمي (خانه دوست كجاست)”أين بيت الصديق؟” ليشكل علامة بارزة في هذا النوع من السينما، وصور هذا الفيلم في ذروة الحرب عام 1987 لكنه عرض بعد وقف اطلاق النار بين البلدين بشهور قليلة. وبالمقارنة مع الصورة القاسية التي تقدمها “سينما الحرب” الإيرانية بدا الأطفال في أفلامهم رافضين لفكرة أن تشكل القسوة وعيهم، وقدموا تعريفا جديدا ل”الهوية الثقافية” ساهم بمنح السينما الإيرانية وجها جديدا ،لتوصف تلك الفترة بأنها الذهبية في عمرالسينما الإيرانية بكل جدارة.

 

عباس كيارستمي

واسم فيلم “اين بيت الصديق؟” مأخوذ من قصيدة للشاعر المعروف سهراب سبهري تحمل العنوان ذاته ،وربما يعكس ذلك الأثر الكبير الذي تركه ويتركه الأدب في عدد من المخرجيين الإيرانيين يتقدمهم كيارستمي وبيضايي ، حيث عرف عن الأول ولعه بالشعر والثاني بالأدب المسرحي.
ويحكي فيلم كيارستمي قصة طفل يحاول جاهدا أن يعيد لصديقه دفتره المدرسي الذي استعاره منه،وفي اجواء من فقدان التواصل بين المعلم والتلاميذ والأم والطفل، في تلك الأجواء ترسل وردة جافة وضعت بين صفحات الدفتر رسالة محبة للمعلم وللجار أيضا.

أكف تلامس النور…
وشكلت الواقعية ميزة اساسية في هذه السينما وهو ما جر أرجل الكثيرين ممن حملوا موقفا معاديا لهذا الفن نحو دور العرض السينمائي ، وبدا أن الناس بحاجة إلى ماهو أكثر من “الملودراما العائلية” و”الآكشن” و”الكوميديا”. اما أطفال السينما الإيرانية فبدوا غير عابئين عن “الإثارة” بمفهومها الغربي ، وقدموا رؤية جديدة للروابط الأسرية.
وفي قلب تلك الواقعية كان للإطفال عالمهم المثالي والخيالي، لكنه لم يحل دون تصوير مصاعب وعذابات مهجري الحرب، وضحايا الفقر والعوز والمرض. واللافت تلك المسافة التي اتخذها الأطفال في تلك السينما من نمط الحياة الحديثة والتكنولوجيا، وكانت لديهم قناعة بأنهم ب”أكفهم الخالية يستطيعون أن يلمسوا النور”.

ولعل حضور الأطفال في السينما الإيرانية، لم يكن مقصورا على إيران فقط بل جاء مترافقا مع حضور عالمي مميز لأطفال من أنحاء أخرى من العالم، ومثال ذلك أفلام “هكتور بابنكو،1981) من البرازيل، وسينما “باراديزو” (تورناتوره،1988) من ايطاليا، وافلام اخرى من الدانمارك والسويد وكذلك من تونس بفيلم مفيدة التلالي “صمت القصور” عام 1994، لكن الأطفال في السينما الإيرانية كانت لهم تجربتهم الخاصة التي مرت بمراحل لم تكن سهلة بعد الثورة وذلك من خلال “مركز التنمية الفكرية للأطفال والشباب الصغار” الذي تأسس في مطلع سبيعينيات القرن العشرين.


بهرام بيضايي

ومنذ البداية ابتعد المركز عن موجة الأفلام التجارية التي سادت في ايران في تلك الفترة والتي حملت مسمى “الفيلم الفارسي”، وأنتج المركز في العام 1971 سبعة افلام منها ” الخبز والزقاق” لعباس كيارستمي و”العم سبيلو” لبهرام بيضايي، ويمكن اعتبار هذين المخرجين هما من أطلق سينما الأطفال في ايران. وامتازت افلامهما بأنها “ليست افلاما للصور المتحركة”، وكان التصوير يتم في أماكن واقعية، اما أبطال هذه الأفلام فكانوا من غير المحترفين.

من فيلم باشو الغريب لبرهام بيضايي

 وجاء فيلم “باشو الغريب الصغير” للمخرج بهرام بيضايي عام 1986 ليصنف من أهم الأفلام السياسية في إيران، وبقي لسنوات ممنوعا من العرض ، لأنه يصور طفلا عربيا من الجنوب يهرب من ويلات الحرب ويطوي مناطق ايران إلى أن يصل الى الشمال وهناك يقابل سيدة تجابه مصاعب الحياة وحدها بعد أن التحق زوجها بالجبهة، وتحتضن تلك السيدة ذات البشرة البيضاء الطفل الأسمر الصغير وترعاه، وتصفه بأنه مثل “جميع الصغارابن الأرض والشمس”، اما “باشو الصغير” فيمسك الكتاب المدرسي ويقرأ :”ايران وطننا، كلنا من ماء وتراب. ونحن ابناء ايران”. وجاء الفيلم صرخة احتجاج ضد الحرب ودعوة للفهم المتقابل. ولم يعرض الفيلم الا بعد اربع سنوات اما منعه  فكان بحجة أن “الطفل المسلم لايجب أن يفر  وكان يجب ان يصمد ويقاتل”.
وجاء فيلم “العداء” عام 1982 للمخرج أمير نادري، ليفتح باب الجوائز العالمية للسينما الإيرانية، ويصور الفيلم كيف تجبر ظروف الحياة القاسية طفلا على دخول عالم الكبار.اما فيلم “البالون الأبيض” لجعفر بناهي والذي اخرج عام 1995، فيحمل نوعا من التوجه الإنساني الذي يدافع عن فكرة أن جميع الناس يمكنهم أن يجدوا طريقة للتواصل على اختلافهم.

فيلم البالون الأبيض

اما المخرج مجيد مجيدي فحملت سلسلة افلامه “باران” ،”اطفال السماء” ، و” واللون الإلهي” وغيرها  توجها فلسفيا  لأفلام تصور عمق حياة الأطفال ونظرتهم على الرغم من البساطة الظاهرية لعالمهم.
وما زالت تلك السينما تضج بالنشاط والحيوية إلى اليوم، وباتت تقارب موضوعات اجتماعية هامة من جملتها، الأطفال ذوي الإحتياجات الخاصة، ومن ذلك فيلم “أطفال إلى الأبد” للمخرجة بوران درخشنده والذي بتناول حياة الأطفال “المنغوليين” .
ويدعم هذا النوع من السينما وجود مهرجان دولي لسينما الأطفال يقام في مدينة همدان سنويا، ووجود المهرجان يعد ملمحا سينمائيا مهما رغم ما تواجهه هذه السينما من مشكلات، لعل من أهمها الحاجة إلى التمويل، والحفاظ علي مضمونها لكي لاتصبح شبيهة بألعاب الفيديو..

المهرجان الدولي لسينما الطفل في مدينة همدان الإيرانية