“البرتقالة الذهبية”.. مهرجان السينما التركية في أنطاليا

ندى الأزهري

على شواطئ ساحرة بجمالها مدينة سياحية تهتم بالسينما العالمية؛ والتركية منها على وجه الخصوص، ففي أنطاليا الواقعة على البحر الأبيض المتوسط يُنظَّم سنويا ومنذ 56 عاما مهرجان “البرتقالة الذهبية” السينمائي الذي يُعتبر مرجعا للسينما الوطنية في تركيا.

وخلال أسبوع من الزمان (من 26 أكتوبر/تشرين الأول ولغاية الأول من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري)، قُدمت عروض للسينما المحلية والعالمية التي تتزاحم أمامها صفوف المتابعين، الكل يودّ لو يكون في أول الصف، والقادم غير المتأخر لكنه أقل تبكيرا من المطلوب إن جاز التعبير؛ سيكون حظّه في الحصول على مكان ضئيلا بل ومعدوما.

ومَنْ أسعده الحظ بمكان يتمسك به، فلا أحد يخرج من الصالة قبل انتهاء الفيلم إلا فيما ندر، فهل هذا لأن الفيلم دائما جيد فقط؟ ربما، وربما أيضا للشعور بأن الجهد المبذول للحصول على هذا المكان يسترعي البقاء عليه حتى النهاية، وإن حصل تململ فيه لبعض الوقت. كل هذا على الرغم من أن بحرا على مرمى حجر، ومدينة قديمة تنتظر الزيارة، وشمسا ساطعة تشجع على الاستمتاع ببهجتها.. لكن للسينما سحرها الذي لا يقاوم.

هذا الجمهور يأتي خاصة لمشاهدة الفيلم التركي، ففي هذا المهرجان ثلاث مسابقات للفيلم التركي الروائي الطويل والقصير والوثائقي، حيث تتضمن كل منها عدة جوائز، كما تُخصص جائزة باسم “جاهدة سونكو” (1919-1981) وهي أول مخرجة ونجمة في السينما التركية، إضافة إلى مسابقة للفيلم للعالمي وتظاهرات أخرى عديدة.

الفائز بجائزة الإخراج فكان الإيراني رضا مير كريمي عن فيلمه "قصر شيرين"
الفائز بجائزة الإخراج فكان الإيراني رضا مير كريمي عن فيلمه “قصر شيرين”

“قصر شيرين”.. جائزة الإخراج

في قسم المسابقة الدولية عُرضت عشرة أفلام من بينها “بيك نعيش”، وهو الفيلم الأول للتونسي مهدي برصاوي، إضافة لأفلام أخرى من إيران واليابان والنرويج وصربيا وهنغاريا وسلوفاكيا وفرنسا والبرازيل.

أما الفائز بجائزة الإخراج فكان الإيراني رضا مير كريمي عن فيلمه “قصر شيرين”، حيث نال الفيلم جوائز عديدة في مهرجانات أخرى، فهو يسرد بالأسلوب البسيط الذي عُرف به المخرج قصة عائلية مأساوية عن الأب الغائب (حامد بهداد الفائز بجائزة التمثيل عن دوره هذا) الذي فشل في توجيه حياته نحو المسار الصحيح، فهو يجد نفسه يوما مُضطرا لرعاية طفليه اللذين لم يرهما لسنوات، لكنه وبسبب سلوكه الأرعن معهما سرعان ما يحطم أحلامهما التي بنياها عنه في غيابه.

حقق رضا مير كريمي (1966) عشرة أفلام من بينها فيلمه الأول والأشهر “الولد والجندي” (1999)، و”تحت ضوء القمر” (2001) الذي يعالج قضايا اجتماعية ودينية، وقد نال عنه جائزة في قسم أسبوع النقاد من مهرجان كان.

ذهبت جائزة أفضل فيلم إلى "يقولون أن لا شيء يبقى على حاله" لأحد نجوم السينما الشباب في اليابان، وهو "جو أوداجيري"
ذهبت جائزة أفضل فيلم إلى “يقولون أن لا شيء يبقى على حاله” لأحد نجوم السينما الشباب في اليابان، وهو “جو أوداجيري”

“لا شيء يبقى على حاله”.. أفضل فيلم

وذهبت جائزة أفضل فيلم إلى “يقولون أن لا شيء يبقى على حاله” لأحد نجوم السينما الشباب في اليابان، وهو “جو أوداجيري” (1976) الممثل الذي فاز بعدد من الجوائز والموسيقى، حيث يعود في فيلم ثانٍ من إخراجه.

يتناول العمل قصة شيخوخة تويتشي الذي ينقل بعبّارته أهل بلدته ذهابا وإيابا عبر النهر. العجوز (أكيرا إيموتو) رجل لا يتواصل ولا يتفاعل مع الآخرين إلا فيما ندر، حيث يفضّل الصمت والتأمل، إلى أن تنقلب حياته الروتينية رأسا على عقب، وذلك عندما يجد شابة غامضة شبه ميتة مُلقاة في النهر. حدث آخر سيؤثر على مسيرته وعلى استمرار عمله هو بناء جسر قرب كوخه يربط بين الضفتين قريبا من منزله. لا شيء يبقى على حاله، فالحياة البسيطة الهادئة تختفي كما تختفي الأشياء الجميلة من الحياة.

التصوير الرائع للطبيعة الفائقة الجمال في اليابان قام به كريستوفر دويل، حيث ساهم في إضفاء هالة من السحر والغموض على أجواء الفيلم، مما منح الفيلم معانيه كفيلم مليء بالغرابة وبأشباح لا تغيب في أكثر الأحيان عن السينما اليابانية.

الحياة العائلية المُحبطة والفاشلة لسلمى وسِنان بعد سنوات من الزواج
الحياة العائلية المُحبطة والفاشلة لسلمى وسِنان بعد سنوات من الزواج

“غير معلوم”.. جائزة الجمهور

تَغيُّر المجتمعات وقوانين العمل والنظام الاقتصادي المعولم ودخول التكنولوجيا في الحياة اليومية؛ كلها عوامل باتت تفرض على الإنسان والحياة العائلية ضغوطا قاهرة. لقد ظهر هذا واضحا في عدد من الأفلام التركية التي شاركت في المسابقة الرسمية للفيلم الوطني وكان عددها عشرة.

في فيلمها الثاني “غير معلوم” تسرد المخرجة التركية ليلى يلماظ الحياة العائلية المُحبطة والفاشلة لسلمى وسِنان بعد سنوات من الزواج، لا سيما مع انشغالهما اليومي في العمل، وخوف الزوج من فقدان “أومُوت” ابنهما الشاب الجميل في الثانوية وهو يحاول إثبات نفسه من خلال رياضة كرة الماء.

يزداد عالمهم تعقيدا عندما ينشر لاعب زميل لأوموت شائعات مفادها أن الشاب شاذ جنسيا (مثليّ)، وهو يرفض التعليق والرد بالنفي أو الإيجاب، وذلك لشعوره أن هذا أمر لا يخصّ أحدا غيره.

وبينما يتصارع سنان وسلمى مع علاقتهما الفاشلة، فإن صمت أوموت وبإصرار إزاء ميوله الجنسية يؤدي ببساطة إلى تفاقم المشكلة.

كل الإجابات مفقودة ويحيطها الغموض، وتصبح هكذا أكثر وأكثر حتى النهاية. وقد أعطى الجمهورُ التركي جائزته لهذا الفيلم.

نال الممثل التركي المعروف "علي جان يوجسوي" جائزة التمثيل عن دوره في فيلم "اللامبالاة الجميلة"
نال الممثل التركي المعروف “علي جان يوجسوي” جائزة التمثيل عن دوره في فيلم “اللامبالاة الجميلة”

“حبّ وسحر وكلّ هذا”.. جائزة التحكيم

وجاءت جائزة لجنة التحكيم الخاصة لفيلم يتناول أيضا الشذوذ الجنسي في علاقة امرأتين، ويتعرض الفيلم في الثنايا لتأثير الفوارق الطبقية على العلاقات والإنسان. في فيلم “حبّ وسحر وكلّ هذا” لأُميت أُنال، تجد الحب والتعاويذ وكل هذه الأشياء في قصة صداقة بين امرأتين.

كان لدى “إرين” و”ريحان” علاقة صداقة وهما في سنّ 16 و17 عاما، فإرين هي ابنة سياسي مؤثر، في حين أن والد ريحان هو الحارس في منزل عائلة إرين الصيفي في بويوكادا وهي جزيرة في إسطنبول.

عندما يتم اكتشاف العلاقة بين الفتاتين، تجبرهما عائلة إرين على الانفصال، وتطرد ريحان وأباها من الجزيرة، لكن إرين تعود إلى الجزيرة بعد 20 عاما، لتبدأ مع عودتها التساؤلات عن حبّ المراهقين وعن تأثر الفقراء بأي فضيحة، فيما الغني ينجو بنفسه.

ريحان تسخر من عودة صديقتها، وتقضي الفتاتان معا يوما تحاولان فيه فهم علاقتهما، فهل هي حقيقية أم تعويذة سحرية؟

“السهوب”.. 11 جائزة

ونال الممثل التركي المعروف “علي جان يوجسوي” جائزة التمثيل عن دوره في فيلم “اللامبالاة الجميلة”، حيث يسرد أيضا مشقّات الحياة المعاصرة مع البطالة، ومتاعب الزوج الذي يشعر بنوع من اللامبالاة بعد إقالته من عمله. شعور سيؤدي إلى مزيد من المتاعب خاصة مع زوجته، إنها كوميديا اجتماعية سوداء عن أزمات شخصية في عالم قاسٍ.

هذه الجائزة كانت مُناصفة مع مجاهد كوتشاك عن دوره في فيلم “السهوب” لعلي أوزال. وقد فاجأ هذا الفيلم العديدين بنيله معظم جوائز المسابقة الوطنية كأفضل فيلم وسيناريو وإخراج وإنتاج وموسيقى وتصوير والجائزة الخاصة بأفضل فيلم، ليحصد ما مجموعه 11 جائزة من أصل 17 خُصصت للسينما التركية، وهو ما دعا بعض النقاد الأتراك إلى انتقاد النتائج، لا سيما وأن الفيلم لم ينل إعجاب معظمهم، مفضلين عليه أفلاما أخرى مثل “اللامبالة الجميلة” و”غير معلوم” و”حبّ وسحر وكل هذا” و”مغامرات شكران العرجاء” لأنور أونلو.

لكن هذا الفيلم الذي أخرجه علي أوزال (1980) (بدأ مسيرته المهنية مساعد مصوّر في السينما والإعلان عام 1997) يَعِدُ بالكثير لكتابته السينمائية (علي أوزال أيضا) لموضوعه الذي يتناول علاقة الفرد مع الماضي والموت والطبيعة في زمن يبدو وكأنه أغفلهم. وقد استطاع المخرج توصيل هذه الأحاسيس للمشاهد من خلال حُسن إدارته للممثلين، وحواراته المكثفة وزوايا تصويره الآسرة، ليس فقط لجمال أمكنته الطبيعية، وإنما بكل ما في الصورة من عناصر، حتى لو كانت لباسا ممزقا طرفه معلق على جانب الصورة.

في القرية يستلزم مشروع السدّ إخلاء أحمد وأبناء أخيه مساكنهم، لكن أحمد المتمرد الذي يدور عالمه حول منزله والحديقة التي دُفنت فيها زوجته؛ يرفض الانتقال إلى منزل جديد على الرغم من إصرار أبناء أخيه وخشية من تركه وحيدا، فيطلب أبناء الأخ من ابنه هارون القدوم إلى القرية من أجل إقناعه.

لمّ الشمل هذا بين الأب وابنه يبدو صعبا، لأن أحمد يعتقد أن ابنه يلومه على وفاة زوجته، والابن لم يستطع أن يمنع والده من دفن والدته في الحديقة. لا يستطيع هارون أن يترك والدته تحت الماء ويقترح نقل القبر. وعلى الرغم من معارضته للفكرة، لا يملك أحمد إلا الموافقة على مضض. مياه السد ترتفع بسرعة، والوقت ينفد. فهل سيكون قرار اللحظة الأخيرة كافيا لتصحيح أخطاء الماضي؟