البطل المنقذ في “أبو حديد”

أمير العمري

أبو حديد أحد أهم وأشهر أفلام "الترسو" الشعبية في عصره، الذي يواصل تقديم صورة البطل باعتباره المُخلِّص.

عرض فيلم “أبو حديد” في 29 ديسمبر 1958. كانت صورة البطل على المسرح السياسي أي صورة جمال عبد الناصر، قد أصبحت ترتبط بتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا في فبراير 1958، وبدء سياسة إصلاحية جديدة ستصل إلى حد تأميم البنوك والشركات في 1960. كان المناخ السائد يبرز ويدعم صورة القائد الذي جاء من وسط الشعب، وهو في الأصل ينتمي إلى البسطاء منهم، يشعر بآلامهم، ويريد أن يحقق لهم شيئا ملموسا بعد سنوات طويلة من القهر والظلم والتهميش.

هذه الأفكار انعكست في أواخر الخمسنيات على عدد كبير من الأفلام المصرية، وصبغت صورة “البطل الشعبي” الذي اتفقنا على أنه ليس “ابن الطبقة الوسطى” بل القادم من أوساط “الشغيلة” الكادحين. وقد يكون عاملا أو سائقا أو حمالا في الميناء. أما في فيلم “أبو حديد”- إخراج نيازي مصطفى عن قصة وسيناريو عبد الحي أديب بالاشتراك مع نيازي مصطفى نفسه، وحوار السيد بدير- فقد كان البطل صيادا. وهو دائما في طليعة رفاقه، يتمتع بالوعي الطبقي الذي يجعله يستطيع أن يواجه الظلم ليس فقط بالقوة الفردية، بل بقيادة حركة تمرد أو ثورة منظمة كما نرى في الفيلم.

بطلنا “حسن أبو حديد” (فريد شوقي) إبن لصياد عجوز يلقى مصرعه في بداية الفيلم على يدي المعلم “جابر” (عبد الوارث عسر) الذي كان يختبيء في كوخ الصياد العجوز على شاطيء البحر مع شريكه المعلم “عطية الحنش” (محمود المليجي)، هربا من مطاردة الشرطة لهما أثناء قيامهما بانتشال شحنة من المخدرات من على شاطيء البحر. لكن المعلم جابر لم يكن يقصد قتل الصياد العجوز، بل كان فقط يحاول إسكاته لكي لا يصرخ فيلفت نظر الشرطيين اللذين يبحثان عنه وشريكه في الخارج.

المعلم جابر الذي يمتلك دكانًا لبيع أدوات الصيد للصيادين، شريك للمعلم عطية الحنش الذي يمتلك المقهى والوكالة التي تشتري السمك من الصيادين وتحتكره وتفرض له أسعارا متدنية كثيرا وتعاقب بشدة كل من يخرج عن طريقها ويختار أن يبيع السمك لتلك الوكالة التعاونية الجديدة البديلة التي أنشأتها مجموعة من الصيادين، يرفضون بيع السمك لحساب المعلم الحنش المستغل القاسي القلب الذي يمتلك أيضا “الحانة” أو “الخمارة” (على غرار الخمارة التي شاهدناها في “رصيف نمره 5”) والتي ترقص فيها “شلبية” (سمحية توفيق) وهي التي ينقذها الحنش من بطش زوجها ويرغمه على طلاقها لكي يتخذها عشيقة له.

غير أن المعلم الحنش يهيم حبا بـ “أمينة”، تلك الفتاة الملائكية الجميلة الصغيرة إبنة المعلم “جابر” الذي يعتبره الحنش معلمه ومولاه، فهو “ولي نعمته وصاحب الفضل عليه في تجارته عندما كان مبتدئا) وجابر يتظاهر أمام أهل البلدة، وهم من الصيادين، بالصلاح والتقوى والتدين، على غرار الحاج بيومي (زكي رستم) في فيلم “رصيف نمره 5″، في حين أنه يخفي نهما كبيرا للاستحواذ على المال، ولو عن طريق مشاركة المعلم جابر في تهريب المخدرات وتخزينها في دكانه، والتغاضي عن جبروته وطغيانه وافترائه على أهل البلدة، رغم تظاهر جابر باستنكار أفعال الحنش أحيانا.

وعلى نمط الشاويش “خميس” في “رصيف نمره 5” يظهر “أبو حديد” (فريد شوقي) الذي يعود من الجيش بعد أداء الخدمة الالزامية، لكي يكتشف اختفاء أبيه في ظروف غامضة، فيما جثة الرجل في الحقيقة مدفونة تحت أرض الكوخ الذي كان يقيم فيه والذي يتخذه الشاب العائد الآن محلا لاقامته، ويسعى الى تدبر أمره والعودة إلى البحر، أي للصيد. وهو يرفض ممارسات المعلم عطية الحنش ضد الصيادين، ويتعاطف مع “حسان” (عبد المنعم ابراهيم) وهو صياد شبه متعلم، يلعب هنا الدور التقليدي في اضفاء لمحات كوميدية على تلك الميلودراما الثقيلة التي تمتليء بالعنف والقتل والمطاردات، كما تتضمن أيضا مشاهد للرقص والغناء (محمد رشدي) سواء داخل الخمارة المصممة على نفس النمط الشائع في السينما المصرية كمحل لتناول الشراب والعراك والفرجة على الراقصة، تقيم فيها الراقصة في الطابق الأعلى. 

من الممكن معرفة ما سيحدث بعد ذلك، إذ سيقع أبو حديد في حب أمينة، ويتصارع مع المعلم عطية الحنش عليها ثم سيتزوجها رغم رفض والدها الذي يريد تزويجها للحنش لكي لا يكشف قتله الصياد العجوز والد البطل، لكن عطية سينتقم بالوشاية بجابر لدى أبو حديد، ثم بقتل جابر حتى لا يعترف بالحقيقة ويدين معه الحنش، لكي تتجه الأنظار الى أبو حديد باعتباره القاتل، وتتعقد الخيوط، ويكاد الحنش يظفر أخيرا بأمنية، غير أن أبو حديد الذي يهرب ويتكاتف معه الصيادون، ينجح في إثبات الحقيقة بعد أن تعترف شلبية على الحنش انتقاما منه بعد أن تخلى عن وعده لها بالزواج وطعنها بالسكين وتركها بين الحياة والموت. ومع ظهور الحقيقة والقبض على المجرم، تكون ثورة الصيادين قد بلغت ذروتها بالقضاء على احتكار الحنش لتجارة الأسماك، وهدم وكالته والبدء في العمل مع الصيادين من خلال التعاونية التي يعيدون افتتاحها بعد أن كان الحنش قد أغلقها بالقوة.

أبو حديد أحد أهم وأشهر أفلام “الترسو” الشعبية في عصره، وقد عرض بعد نحو عشرة أشهر من “رصيف نمره 5″، وكان يواصل تقديم صورة البطل باعتباره المخلص، رجل الخير الذي يتميز بالشباب والإخلاص ويمتليء بالحب، يرغب في بدء حياة شريفة، والانتقام لمقتل والده من الأشرار وتقديمهم للعدالة، والأهم من هذه الأشياء كلها بالطبع، يتميز بالقوة البدنية والقدرة على سحق أعدائه مهما تكاثروا وتكالبوا عليه، من خلال تلك المشاهد الشهيرة التي كان يجيدها فريد شوقي ومحمود المليجي والتي كانت تلقى إعجابا وتصفيقا من جانب جمهور “الترسو” في مصر.

سيناريو الفيلم يقوم أساسا على تقسيم الشخصيات إلى نوعين": الأشرار والخيرون"

أبو حديد.. إبن الطبقة الفقيرة، هو نموذج للبطل الذي ولد مع حركة الضباط، بعد أن أصبحت الصورة الدعائية التي تقدم لها في الإعلام المصري أنها حركة جاءت للقضاء على نموذج صارخ للاحتكار والجبروت والظلم والتحلل الأخلاقي، كان يجسده الملك فاروق نفسه، وكيف أنه بالتعاون مع رجال من الشريحة العليا، مع غطاء ديني، كانوا يفسدون ويستولون على أراضي الآخرين بالقوة، كما يفرضون نمطا احتكاريا في التجارة (تجارة القطن بوجه خاص) يشترونه من الفلاحين بأرخص الأسعار ليبيعونه في الأسواق العالمية بأسعار مرتفعة. ولذلك ففيلم “أبو حديد” يضفي البطولة على نموذج من الشعب جاء لتخليص “شعبه”/ رفاقه الصيادين من الاستغلال.

ولكن كيف كان ممكنا أن تولد تلك الصورة الجديدة- سينمائيا- للبطل وتمتلك كل هذا التأثير على جمهور السينما ربما حتى يومنا هذا؟

سيناريو الفيلم يقوم أساسا على تقسيم الشخصيات إلى نوعين”: الأشرار والخيرون، الحنش وجابر وافراد عصابة الحنش من جهة هم الأشرار، وأبو حديد وحسان والصيادون الراغبون في التصدي لجبروت الحنش من الجهة الأخرى، هم أهل الخير، ولكن ينقصهم القائد الذي يلهمهم بقوته وشجاعته وقدرته على إعلان التحدي والبدء في المقاومة الفعلية.

يبدأ الفيلم بمشهد بديع من ناحية الصورة (بالأبيض والأسود): رجلان ينتشلان طردا من المخدرات، من قارب يقف على شاطئ صخري في الاسكندرية، وصوت عاصفة، تهز الأشجار القريبة، على خلفية من سماء ملبدة بغيوم كثيفة تطبق برماديتها على سقف الصورة، تزيد من إحساسنا بالحالة النفسية للرجلين اللذين يطاردهما اثنان من رجال شرطة السواحل، يتسلل الرجلان داخل الأشجار الكثيفة، يطلق الشرطيان النار صوبهما، ومع امتداد المطاردة يُلقي المعلم عطية بالطرد على الأرض، ويلجأ مع المعلم جابر الى كوخ أبو حديد.

نرى الكوخ من الداخل والصياد العجوز (عم عبده أبو حديد والد حسن أبو حديد) يقوم برتق شبكة من شباك الصيد تحت ضوء مصباح معلق في السقف يهتز فيلقي بضوء متقطع يضفي جوا من الغموض والترقب والإثارة على المشهد. وعلى حين يتوقع المتفرج أن يفتح الباب المواجه لمكان جلوس الرجل ويدخل منه المهربان، يدخل الشرطيان يسألان الرجل ما إذا كان قد شاهد اثنين من “أخطر المهربين”، لكنه لم ير شيئا بالطبع. يخرج الشرطيان والرجل وراءهما يتطلع إلى البحر ويهز رأسه أسفا.. ويستدير ليعود الى كوخه.. وعندما يدلف من باب الكوخ بظهره ويغلق الباب خلفه ثم يعتدل، يصدم بما يشاهده. الواضح أن الرجلين في الكوخ. يردد الرجل في ذهول (أي أنه يكتشف الآن فقط حقيقة رجلين لم يكن يشك في أن من الممكن أن يجتمعا معا في تهريب المخدرات): معلم جابر.. معلم عطية!؟

بدلا من أن يقوم الرجلان بتهديد الصياد العجوز “عبده أبو حديد” مثلا، يحرص السيناريو على تجسيد التباين بين الإثنين، فعبده يقول للمعلم جابر (عبد الوارث عسر) عندما يطلب منه في مسكنة وذلة ألا يفضحهما: “نِعم ربنا مش مكفياك، وماشي في سكة التهريب مع الراجل اللبط ده؟” وعندما يصر على رفع صوته والمناداة على خفر السواحل (لازم أخللي السواحل تطبق عليك وتخلص العباد من ظلمك ومن أذاك). هنا يطبق المعلم جابر على فمه يكتمه ويظل يكتمه الى أن يلفظ الرجل أنفاسه دون أن يدري المعلم جابر أن الرجل قد توفي.

إذن على غرار فيلم نيازي مصطفى (رصيف نمره 5) في المشهد الأول، قبل نزول العناوين وهو المشهد التمهيدي ويكون عادة مدخلا إلى الموضوع نفسه، نحن ندخل مباشرة إلى قلب الفيلم من خلال العناصر التالية: تهريب يشترك فيه رجل يفترض أنه صالح وتاجر ناجح، مع رجل معروف بجبروته وظلمه وقسوته، وصياد عجوز مسكين ولكن شريف يرفض الصمت أمام ما يراه من جريمة، ثم جريمة قتل تقع، وما يعقبها من دفن للجثة في أعماق الكوخ نفسه، وسوف يصبح هذا (أي موضوع دفن الجثة في هذا المكان) فيما بعد، مادة أساسية ترفع حدة الصراع الدرامي وتدفع الأحداث إلى الأمام، عندما تصبح أداة يستخدمها الحنش لتهديد المعلم جابر، حتى أنه يدفعه في النهاية إلى الذهاب بنفسه في الليل، لكي يحفر ويستخرج الجثة ليدفنها في مكان آخر حتى لا ينكشف أمره أمام حسن أبو حديد الذي أصبح الآن زوجا لابنته ووالدا لحفيده ولو رغم إرادته.

هذه السمة المميزة لمعظم أفلام “الأبطال” الشعبيين التي كان يخرجها نيازي مصطفى، لاشك أنها أثبتت نجاحها كثيرا في شد أنظار الجمهور من البداية الى موضوع الفيلم، ودفعه إلى متابعة تطورات القصة وتعقيداتها.

عودة “أبو حديد” يصورها نيازي مصطفى من خلال مشهد شاعري رومانسي ذي طبيعة خاصة، فالمشهد يبدأ بأمينة وهي تجري على شاطيء البحر، ثم تصعد فوق قمة صخرية تشرف على البحر مباشرة، تتنهد وتنظر للبحر.. تتردد.. تنظر للماء.. من خلفها يدخل إلى الكادر حسن أبو حديد (فريد شوقي) في أول ظهور له في الفيلم وهو عائد إلى البلدة بعد غياب بعد أن أنهى الخدمة العسكرية، يتوقف، يتطلع إليها، تقذف بنفسها في البحر، على الفور يلقي نفسه وراءها وينقذها ويحملها إلى الكوخ القريب، ويمنحها سترة من عنده ويرسل بمن يخبر والدها. المشهد مصمم أساسا لكي يعطي صورة “بطولية” لحسن، ثم ينتهي وقد وقع حسن في حب تلك الفتاة البريئة الجميلة. وإنقاذ حسن لأمينة هو المدخل الأولى الذي يقدم الفيلم لنا من خلاله شخصية حسن الذي سينقذ البلدة كلها فيما بعد من جبروت وطغيان الحنش.

في مشهد آخر يتوجه أبو حديد الى وكالة المعلم الحنش، فيشاهد بعينيه كيف يقوم الحنش باذلال الصياد “حسان” وإرغامه على بيع السمك بالسعر الذي يحدده أو مقاطعة الشراء منه، وعندما يتلفظ حسن بما لا يعجب الحنش ينهض ويصفعه ويركله خارج الدكان. يدخل أبو حديد ويواجه الحنش ويجري حوار مكتوب ببراعة شديدة بينهما (كاتب الحوار هو السيد بدير) من خلال هذا المشهد الذي يكثف طبيعة الصراع الذي سيشتعل بين الرجلين:

أبو حديد: سلامو عليكم

  • الحنش يتأمله من أعلى إلى أسفل دون أن يجيب.. وكذلك لا يرد مساعداه الاثنان الجالسان على يمنيه ويساره.

حسن ينتزع المقعد من تحت أحدهما ويدفعه بعيدا ثم يجلس وعلى الفور يقول الحنش دون أن ينظر إليه: نظامنا هنا تلات تربع الايراد للوكالة والربع للصياد.. اللي عاجبه أهلا وسهلا واللي مش عاجبه مع السلامة..

  • يامعلم عطية أنا جايلك في سؤال مش في شغل..
  • الوكالة جُعلت للشغل..
  • صح.. لكن ده ما يمنعش إني أسألك عن أبويا.. (وبطريقة ذات مغزى) أنت بس اللي تقدر تدلني عليه..
  • (ينتزع الحنش الشيشة من فمه وينظر في الاتجاه الآخر ثم يلتفت الى أبو حديد قائلا: لما يعينوني شيخ حارة أبقى أدلك عليه.. عليك وعلى نقابة أبو حديد هما اللي يقدروا يدلووك!
  • إن شاء الله تسمع سمع خير عن نقابة أبو حديد.. وحسن أبو حديد.. أنا مش منقول من البلد دي لحد السر ما يبان..

نظرات طويلة بين الرجلين ثم ينصرف أبو حديد بشكل سريع.

هذا المشهد الذي يتميز بقوة أداء فريد شوقي ومحمود المليجي، يصلح مدخلا جيدا لكي يمهد لنا ما سيقع بعد ذلك من صراع دموي شديد بين الرجلين. ينتهي المشهد بأن يطلب الحنش من مساعديه أن يتولوا أبو حديد بالرعاية (وضبوه كويس). وفي المشهد التالي مباشرة نشاهد كيف يتحرشان بحسن لكنه يتغلب عليهما ويشبعهما ضربا أمام المعلم الحنش بل وأمام أمينة التي يتصادف مرورها في تلك اللحظة، في أول مشاهد “الأكشن” التي كان نيازي مصطفى يجيد إخراجها، وكانت من السمات المميزة لأفلامه وأفلام البطل الشعبي في تلك الفترة، وكانت تجعل جمهور “الترسو” يتهلل فرحا ويصفق من فرط إحساسه بالسعادة.

البطل المنقذ ينتصر.. ويسقط الوغد، ويثور الصيادون، وتنجح الصورة في دعم البطل وفي استعادة الحقوق. وتعود المرأة الحسناء إلى زوجها البطل!