البودكاست يُنعش الأخبار

محمد موسى

من الصعب اليوم العثور على مؤسسات إعلامية كبيرة في دول مثل بريطانيا أو هولندا، لم تدخل أصلاً في مجال إنتاج البودكاست الخاص بها

كشف بحث أجرته وكالة رويترز العالمية أخيراً، وشمل 187 مؤسسة إعلامية منتجة للأخبار في 29 بلداً، أن 58 بالمائة من هذه المؤسسات تفكر في الاستثمار في إنتاج بودكاست خاص بها (محتوى صوتي يتم تحميله عن طريق الإنترنت، والاستماع إليه عن طريق الأجهزة الإلكترونية الصغيرة أو أجهزة الكمبيوتر العادية). وأن النسبة نفسها تقريباً من المؤسسات التي شملها البحث تفكر في خوض تجربة التعامل مع أجهزة المعلومات الصوتية التي تنتجها شركات مثل غوغل وأمازون الأمريكيتان، لإنتاج محتوى صوتي لهذه التكنولوجيا الجديدة، والتي تحظى بشعبية كبيرة في الولايات المتحدة مثلاً.

والحقيقة أن من الصعب اليوم العثور على مؤسسات إعلامية كبيرة في دول مثل بريطانيا أو هولندا، لم تدخل أصلاً في مجال إنتاج البودكاست الخاص بها. بيد أن ما يلفت الانتباه في العام الأخير هو اتجاه صحف ورقية ومواقع إخبارية على شبكة الإنترنت لدخول هذا المجال الجديد عليها، في محاولة للإبقاء على اهتمام الجمهور بما تقدمه، بخاصة أن الكثير من هذه المؤسسات يعاني من تراجع شعبيته، والذي ينعكس في الهبوط المتواصل في نسب بيع الصحف الورقية، بينما تحتاج مواقع الإنترنت الإخبارية إلى كثير من الوقت، حتى تتمكن من بلورة نموذج اقتصادي متين ومستقر يعتمد على الإيرادات التي تجنيها الإعلانات التجارية التي تنشر على هذه المواقع.

يُقسم البودكاست الذي تنتجه المؤسسات الإعلامية الإخبارية إلى نوعين رئيسين: الأول هو ما تفعله محطات الراديو والتي تنقل البرامج الإذاعية التي تنتجها إلى الإنترنت، وتوفرها دون تغييرات للتحميل مجاناً. أما النوع الآخر والذي يشهد انتعاشاً لافتاً في العامين الماضيين، فهو محتوى تنتجه المؤسسات الصحفية خصيصاً لخدمة البودكاست. يهتم النوع الثاني – وعلى خلاف البرامج الإخبارية السريعة –  بتقديم محتوى مفصل، مع توفير خلفيات تاريخية واجتماعية عن المواضيع التي يعالجها، والتي تتنوع من السياسة إلى الثقافة، مروراً بالرياضة وقضايا التكنولوجيا، وكذلك يتخصص بعض البودكاست في ثيمات معينة، ليتبع المسارات الأصلية التي تهتم بها المؤسسات الصحافية المنتجة لها، مثل المرأة، أو مواضيع تهم فئات عمرية معينة.

انعكس الاهتمام المتواصل بالبودكاست، وتحوله إلى مصدر مهم للترفيه، وواسطة للحصول على المعلومات، على استراتيجيات المؤسسات الصحفية والإخبارية الخاصة التي كانت رائدة في إنتاج البودكاست، فهي تستثمر اليوم أموالاً أكبر في هذا القطاع، كما أن بعضها، والذي كان سباقاً في التعامل مع البودكاست (مثل هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي”)، تتوسع اليوم فيما توفره على هذه الواسطة الجديدة، فبعد أن كانت تضع برامجها الإذاعية دون إضافات، تنتج اليوم محتوى إضافياً مع هذه البرامج، مثل توفير مقابلات مطولة في البودكاست، وبدل النسخ المختصرة من نفس المقابلات والتي تذاع في برامجها الإذاعية. كما بدأت المؤسسة البريطانية في إنتاج برامج خاصة لخدمة البودكاست، مثل البرنامج التاريخي التحقيقي الرائع “الاغتيال” للصحافي البريطاني أوين بينيت، والذي يستعيد بتفصيلية واطلاع كبيرين مسيرة السياسية الباكستانية بنازير بوتو، مركزاً على اغتيالها العنيف في شتاء عام 2007.

تم تحميل برنامج "ديلي" أو اليومي التابع لصحيفةنيويورك تايمز منذ إطلاقه حوالي 200 مليون مرة، ويقدر عدد المستمعين للبرنامج شهرياً بأربعة ملايين ونصف المليون مستمع.

ولعل قصة البودكاست الأمريكي الذي يحمل عنوان “اليومي”، والذي تنتجه صحيفة النيويورك تايمز الأمريكية، يُجسد بوضوح شعبية البودكاست اليوم. فلم يكن أحد في الصحيفة العريقة يتوقع أن يتحول هذا البودكاست اليومي، والذي بدأت في طرحه على الإنترنت في الأول من شهر فبراير من العام الماضي، إلى ظاهرة العام الماضي الإعلامية، إذ تم تحميل البرنامج منذ إطلاقه حوالي 200 مليون مرة، ويقدر عدد المستمعين للبرنامج شهرياً بأربعة ملايين ونصف المليون مستمع.

يتناول البرنامج، الذي يقدمه الصحافي مايكل باربارو، في كل حلقة من حلقاته، قضية أو قضيتين من قضايا الساعة، والتي كانت الصحيفة الأمريكية قد نشرت عنها في نسختها الورقية، كما يُحاور البرنامج صحفيين من المؤسسة الإعلامية الأمريكية ذاتها، غالباً من الذين كتبوا مقالات عن القضايا التي يناقشها البرنامج، الذي لا تزيد مدته عن النصف ساعة. واللافت أنه وبسبب نجاح البرنامج على الإنترنت، فإنه سيتحول قريباً إلى برنامج إذاعي، ليصبح من الممكن استلامه عن طريق موجات الإذاعة، مع الإبقاء على صيغته كبودكاست ناجح.   

انعكست شعبية البودكاست في الدول الغربية على القيمة المالية للإعلانات التجارية التي تذاع عبره، إذ قدرت مؤسسة PwC البحثية قيمة الإعلانات التجارية التي أذيعت مع البودكاست في الولايات المتحدة في عام 2016 بـ 220 مليون دولار. في حين وصلت في عام 2015 إلى 69 مليون دولار. كما أظهر بحث آخر أجرته مؤسسة Edison Research الأمريكية في عام 2016، أن حوالي 24 بالمائة من الأمريكيين الذي يزيد عمرهم عن الثانية عشر عاماً (حوالي 67 مليون أمريكي)، يستمعون إلى البودكاست. بزيادة 3 بالمائة عن العام الذي سبقه.

يُشجع إقبال الشباب على البودكاست في الدول الغربية (مقارنة بفئات عمرية أخرى)، مؤسسات صحفية عديدة على مزيد من الاستثمار في إنتاج المواد الصوتية، إذ تعرف هذه المؤسسات أكثر من غيرها صعوبة الوصول إلى فئة الشباب، والذين يديرون ظهورهم للوسائط الإعلامية التقليدية، فيما سلوكهم على الوسائط الجديدة غير واضح المعالم، ولازال يحتاج إلى مزيد من البحث.

يتخصص بعض البودكاست في ثيمات معينة، ليتبع المسارات الأصلية التي تهتم بها المؤسسات الصحافية المنتجة لها، مثل المرأة، أو مواضيع تهم فئات عمرية معينة

مقالات مقروءة

إلى جانب ما تقوم به مؤسسات صحفية غربية عديدة من إنتاج محتوى خاص للبودكاست، بدأت صحف عديدة بتوفير مقالات منشوره عندها، بشكل مقالات مقروءة صوتياً، والتي يُمكن تحميلها مقابل مبالغ مالية، كسبيل جديد لدفع الناس باستلام المحتوى الهام الذي تقدمه هذه الصحف، وبعد أن أثبت البودكاست نجاحه، وتلاءمه مع نمط الحياة السريعة الذي نعيشه، حيث أصبح من الصعب التفرغ لساعات لقراءة جريدة أو مجلة، فيما يمكن القيام بعدة واجبات منزلية أو قيادة السيارة أثناء الاستماع للبودكاست. كما لا يحتاج الاستماع للأخير إلى اتصال بالإنترنت، لذلك تراه يناسب الذين لا يستطيعون البقاء على اتصال بشبكة الإنترنت.

من المؤسسات الصحفية التي تقطع خطوات كبيرة على صعيد توفير المقالات الصوتية، هي مؤسسة “Blendle” الهولندية، والتي تعد الأولى في العالم (تأسست في عام 2014) التي تمنح المشترك شراء حقوق قراءة المقالات بالمفرد، وبدل الاشتراك اليومي أو الشهري التقليدي، إذ توفر المؤسسة اليوم الإمكانية للاستماع إلى عدد كبير من المقالات التي يقوم بقراءتها كتاب المقابلات أنفسهم، أو اختصاصيون. علماً أنه ليس من الممكن قراءة جميع المقالات التي تنشر في الصحف، فالمقالات التي تضم إحصائيات أو رسوم بيانية، تترك بدون قراءة، على أن يكون التركيز على المقالات الفكرية، أو القراءات النقدية.

الراديو الذكي

انعكست شعبية البودكاست في الدول الغربية على القيمة المالية للإعلانات التجارية التي تذاع عبره

وفي اتجاه توفير مواد صوتية أكثر على شبكة الإنترنت، يتواصل في دول عديدة تطوير ما أصبح يعرف بـ “الراديو الذكي”، والذي يتلقى مطورون له في بعض الدول الغربية مساعدات مالية من شركة غوغل نفسها، وكما يحدث في هولندا، التي تسعى إحدى محطات الراديو الحكومية الشابة فيها على تطوير برنامج تطبيقي (app)، يستطيع في المستقبل أن يتفاعل مع المستمعين له، بحيث أنه يمكن الطلب من هذا البرنامج معلومات تخص الأزمة السورية، وتحديد الوقت الذي تريد أن تخصصه لسماع هذه المعلومات، ليبحث البرنامج بعدها عن المعلومات المطلوبة ويقرأها ضمن الوقت المحدد له.

كما تسعى شركات مثل: أبل، غوغل، وأمازون، والتي أنتجت تكنولوجيا المساعدة الصوتية (يشبه ما تفعله خدمة “سيري” في أجهزة أبل، والتي تتلقى أوامر صوتية وتنفذها)، على تشجيع المستهلكين على استخدام هذه التكنولوجيا، حيث تمثل المواد الصوتية، وبالخصوص الإخبارية، أهمية كبيرة لمستخدمي هذه التكنولوجيا. يُذكر أن شركة غوغل توسع الآن في خدمتها المعروفة ب “Assistant-software” (يُمكن عبرها الطلب صوتياً للبحث عن المواد الصوتية)، حيث تتوافر الخدمة الآن باللغات الإنجليزية، والفرنسية، واليابانية، وقريبا باللغة الهولندية.