الدورة الـ29 لأيام قرطاج السينمائية.. الجمهور نجمها وجديد السينما العربية تفصيل فيها

قيس قاسم

فيلم "صوفيا" للمخرجة المغربية مريم بن مبارك والتي تناولت فيه معضلة إنجاب الأطفال خارج المؤسسة الزوجية

يصعب حقا رصد تفاصيل الدورة الـ29 لأيام قرطاج السينمائية لكثرة ما عُرض فيها من أفلام غطت مساحات جغرافية كبيرة، فإلى جانب الأفلام العربية والأفريقية التي يختص بها المهرجان، هناك أيضا الهندية والبرازيلية التي وضعتها الدورة “تحت مجهرها” إلى جانب العراق.

ومثل كل عام وكانعكاس لعناية المهرجان الخاصة بالمنتج السينمائي المغاربي فقد توفرت لجمهوره فرصة متابعة آخر نتاجاتها، فالتفاتها إلى المميز منها أعطى صورة جلية عن طبيعة الحراك السينمائي في الجزائر والمغرب وتونس طبعا، وكيف تمكنت هذه السينما من منافسة نظيرتها “المشرقية” وتجاوزها أحيانا.

ولعل التجاوز لا ينحصر في المستوى الفني فحسب، بل يتعداه إلى المضامين الشجاعة التي تقترب دون خوف من تخوم قضايا اجتماعية إشكالية ظلت سينما المشرق العربي مترددة في تقديم مقاربات مقنعة لها، ومثال ذلك فيلم “صوفيا” للمغربية مريم بن مبارك التي تناولت معضلة إنجاب الأطفال خارج المؤسسة الزوجية، إلى جانب أفلام طرحت أسئلة عن قضايا آنية خطيرة مثل التشدد والتطرف الديني.

وربما لقوة حضورها في الجدل العربي اليومي أخذ هذا الجانب الحيز الأكبر من النتاج السينمائي المغاربي، وانعكس بوضوح في الدورة الـ29 لأيام قرطاج السينمائي لدرجة تستدعي قراءة نقدية لها وطرح السؤال المهم عن العلاقة بين المضمون والشكل، وهل يصح ركون السينمائي إلى قوة موضوعه دون مراعاة الجوانب الفنية أو العكس كما لاحظناها عند أهم المخرجين العرب؛ منهم الجزائري مرزاق علواش الذي عُرض له فيلم “ريح رباني”، فقد تلكأ علواش في الدخول إلى أعماق “الإرهابي” مكتفيا بالخارجي من صورته، لكن جماليات الصورة والمناخ ونقل الطبيعة الصحراوية بأبهى أبعادها لم تشفع له ضعف معالجته لظاهرة العنف والتطرف التي كان من رواد معالجيها، لكنه في “ريح رباني” يبدو بعيداً من مستواه وعما ألفناه من صنعته.

 

“ولدي”.. الإرهابي الإنسان

قد يكون الاستعجال سبباً لضعف المعالجة، والرغبة الجامحة لقول ما عنده عن الظاهرة يدفعه أحيانا لإنجاز أعمال “سريعة” ينقصها العمق. فللعجالة هنا مردود عكسي أحيانا يتأتى من تقديم “الإرهابي” بصورة مخالفة على غير “مواصفاته” الحقيقية. هل هناك صورة واضحة عنه؟ يقينا سيكون الجواب لا، لا يوجد، لكن بإمكان السينمائي تقريبها، والبحث الجدي يساعد على تحليلها. وهذا ربما ما سعى إليه التونسي محمد بن عطية في فيلمه “ولدي”، فهو لم يقبل بـ”الكليشيهات” الخاصة بمواصفات الإرهابي، فراح عبر قصّه تجربة عائلة عمالية عكَسها على الشاشة تعرض لنا صورة غير نمطية مختلفة للشاب المتأثر بالفكر المتطرف. وبدلاً من الذهاب إلى تركيا وسوريا لتصوير جزء من رحلته كما جرى في كثير من الأفلام الضعيفة، راح يفكك جزئيات العلاقة بين “الابن” و”الأب” من منظور إنساني شديد الواقعية. لم يتعكز على أحكام جاهزة لمآلات الوصول إلى المركز الإرهابي بل ترك لنا فرصة مراقبة آثام ما يفعله الإرهاب في الناس العاديين، وكيف يقلب حياة أُسرة بذلت جهدا لتنشئة ولدها نشأة سوية لكنها صُدمت بهروبه منها نحو تخوم الموت المخيفة. وكما كان متوقعا عاد “الولد” ميتا وكان على أهله التكيّف مع الحياة من دونه.. أي ألم على الأب والأم تحمله؟!

 

“فتوى”.. خطابية مباشرة

“ولدي” مثال للفيلم الجيد المعالج لظاهرة لم تتضح معالمها جيداً بعد، لكن ثمة رفض واضح لها في حاضنتها، وهذا ما يمكن تلمسه من ردود فعل جمهور قرطاج الذي جاء لمشاهدة فيلم المخرج التونسي محمود بن محمود “فتوى”. لقد ركن –للأسف- فيلمه ونجاحه على مشاعرهم الرافضة للعنف لكنه لم يذهب بعيدا في التحليل فجاء خطابيا مباشرا. وربما كان التصفيق من علامات قبوله جماهيريا، لكن السؤال هنا هل على المخرجين الجادين الركون إلى النوايا الطيبة لجمهورهم أم السعي إلى تحميلهم -عبر أفلامهم- أسئلة تحفزهم على التفكير في الظاهرة التي لا يريدون لأولادهم أن يكونوا جزءا منها؟

فمجرد تناول أو ملامسة حدث أو ظاهرة مهما كانت متفردة لن يصنع لوحده فنا جيدا ولا فيلما مقنعا، وهذا ما رأيناه في أفلام قرطاج المعنية بـ”الإرهاب”. بل على العكس تجلّت عبر مشاهدتها الفكرة التي تقول إن البحث المتأني والدراسة المعمقة للحدث أكثر جدوى وضماناً لظهور أفلام مهمة عنها، وتجربة السينما الأوروبية ما بعد الحرب العالمية الثانية وما أنتجته من تيارات جديدة خير مثال.

فالإرهاب يقينا لن يصنع لوحده فيلما عربيا جيدا، وعلينا هنا تذكير صناعها بتلك الحقيقة لفائدتهم وحتى لا تضيع جهودهم سُدى. وما دام الحديث عن علاقة المبدع بجمهوره لا بدّ من التوقف عند جمهور قرطاج الذي يحق للمهرجان تسميته بـ”نجمهم” الأسطع الوفي والمجرب والمُعوِّض لـ”فقره” المادي والبديل من نجوم السجادة الحمراء. جمهور قرطاج يقدم مثالا عن قوة العلاقة التفاعلية بين المهرجان السينمائي ومتلقيه من عامة الناس، وهو ما تعجز عن تحقيقه كبرى المهرجانات العربية المكرسة وحتى “الغنية” منها.

 

أفريقيا.. حضور متواضع

على المستوى الأفريقي يمكن ملاحظة ضعف الإنتاج هذا العام رغم مشاركة بعض أفلام القارة في مهرجانات أوروبية وعالمية كبيرة، لكنه في العموم لم يكن بارزا بما يكفي للإشارة إليه، ومسؤولية ذلك لا تقع على عاتق منظميه، وذلك لأن قرطاج مثل غيره من المهرجانات لا يصنع بنفسه أفلاماً بل يقوم بعرضها وتنظيم “خانات” خاصة بها كما فعل مع السينما العراقية حين أدرجها ضمن برنامج “تحت المجهر” الذي يعد نوعا من الاحتفاء الخاص ببعض السينمات في كل دورة من دوراته.

وبالمناسبة لا بد من التنويه بتحويل قرطاج من مهرجان يعقد كل سنتين إلى مهرجان سنوي، وذلك في وقت اختفت فيه مهرجانات سينمائية كبيرة من الساحة العربية مثل أبو ظبي ودبي، والتي عادة ما كانت توصف بـ”الثرية”. في المقابل استطاع مهرجان “فقير” أن يكبر ويترسخ بهدوء ودون ادعاء لدرجة يسمي فيها نفسه “أياما سينمائية” بدلاً من مهرجان تواضعا.

 

السينما العراقية.. شحوب وفقر إنتاجي

مع البرنامج العراقي دعت قرطاج وفدا رسميا جاء أغلب أعضائه من بغداد. عروضه المختارة أُريد لها أن تجمع بين الجديد والقديم من “الحارس” و”الظامئون” إلى “صمت الراعي” و”الرحلة”، بين القصير والطويل، الوثائقي والروائي، مع أن كفة الروائي كانت الأكبر.

ودون حاجة كبيرة للتمعن يمكن ملاحظة التباين الظاهر بين مستويات الأفلام ومضامينها، وحول النقطة الأخيرة جرى نقاش وكلام بين المعنيين بها مِثل كل “تظاهرة” تحتمل اختياراتها النقاش والجدل، لكن الملفت أكثر والمؤسف هو ما يظهر تحت المجهر من فقر إنتاجي وضعف مستوى الكثير من نتاجها، وأسبابه هي ربما الأجدر بالبحث، ولماذا بدت السينما العراقية شديدة الشحوب حين جاورت سينمات كبيرة مثل الهندية والبرازيلية، وكلها يطلق عليها مجازا العالم الثالث.

من بين ما عرض عراقيا يمكن تلمس ظاهرة الاهتمام بالوثائقي عند الشباب وبعض المختصين مثل صاحب فيلم “حياة ما بعد السقوط” المخرج قاسم عبد. ومن المؤكد بأن العامل المادي يبقى سببا رئيسيا في اختيارات الشباب -المهملة طاقاتهم والباحثين بأنفسهم عن مصادر تمويل- للذهاب نحو الوثائقي القصير الأرخص، فيما أصحاب الأفلام الروائية يعانون بدورهم من غياب الدعم الثابت لأفلامهم، لتبقى نصوصهم أسيرة التمويل الخارجي باستثناء قلة قليلة طبعاً وُفقت في الحصول على دعم رسمي وتمكنت من الظهور.

في كل الأحوال كان بالإمكان استثمار الظاهرة بشكل أفضل لو ��نفتحت أكثر على سينما عراقية أُنتجت في الخارج، وكان الأفضل لها لو دعت صُناعها للحضور مع الوفد العراقي الرسمي ليعكس موضوعياً المشهد السينمائي العراقي بأكمله.

السؤال المهم هنا هو بعد كل ما شاهده الوفد من تجارب غنية ومتنوعة، هل سيستفيد منها؟ يقيناً لا أحد يريد للتظاهرة المرور مروراً عابراً، فعلى ما عرضته يمكن إثارة نقاش حيوي يمس جوهر الصناعة السينمائية في العراق وعوامل تطورها كما هو الحال مع السينما المغاربية المعني بها المهرجان التونسي أكثر من غيرها، وذلك لنجاعة تجاربها السينمائية وللمشتركات القوية فيما بينها والتي يمكن للسينما العراقية الاستفادة منها.

 أما التقييم النهائي للدورة فيمكن اختصاره بكلمة واحدة هي “الناجحة”، مع وجود بعض الهنات التنظيمية التي يكاد غنى برنامج الدورة وقوة جمهورها أن تُنسي مسجليها من وضعها في مقدمة انطباعاتهم عن مهرجان يظل متميزاً عن بقية المهرجانات العربية.