الربيع العربي حاضر في مهرجان برلين

برلين ـ قيس قاسم

إفتتاح الدورة الثانية والستين لمهرجان برلين السينمائي بفيلم “وداعا مليكتي” أريد به دون مواربة التعبير عن توجهها الى  سينما الثورات التاريخية الحاسمة على المستوى الزمني البعيد كما هو شأن الثورة الفرنسية أو المعاصرة ومنها العربية، فالمهرجان في نهاية المطاف أراد تقديم الحراك التاريخي لكنه لا يريد قطعاً الوقوف عنده بالكامل، لأن أصحابه يعرفون خطورة المراهنة الكبيرة على السياسة، وفي كل الأحوال وحتى في الحدود، الضيقة المساحة، لهذا الإهتمام سيفرض السؤال عن مدى مقبولية فكرة توفير فرص عرض أفلام لصيقة مباشرة بحدث سياسي دون الركون الى مستوياتها الإبداعية، سيفرض نفسه بقوة، وستبقى  الإجابة عليه صعبة، بخاصة وأن أيام المهرجان المتبقية كثيرة وقد تأتي بالمفاجئات التي تبرر هذا التوجه الجزئي لأن الدورة في النهاية ليست مكرسة بالكامل للثورات ولكنها دون شك محتفية بها، والعربية طبعا لها حصة الأسد في هذا، وفيلم “أخي الشيطان” والذي لا يمس الثورات مباشرة ولكنه يذهب الى مشكلة المهاجرين العرب في أوربا والتي من أسبابها القوية التضييق السياسي ومشاكل الفقر ومسببها في الغالب أنظمة سياسية فاسدة. الفيلم تدور أحداثه حول شابين عربين من عائلة مصرية تعيش في بريطانيا وهما كأغلبية أبناء المهاجرين يعانون من عزل إجتماعي ومن بطالة

تدفع الكثيرين منهم الى سلوك طرق غير شرعية، لا بسبب سوء تربية بالضرورة، قدر ماهو تأثر بالمناخ الخارجي والذي بدوره يؤثر بقوة على الشباب المراهقين وقد  يفوق أحيانا التربية المنزلية الجيدة، فوالد الشابين مثلا لم يكن عاطلا بل يعمل كسائق عمومي وقيَّمه التي يريد زرعها في نفوس أولاده سوية لكن مغريات الخارج أقوى منه، وعلاقات الشارع هي في النهاية الحاسمة في ظل قلق كبير في دواخلهم بسبب توزع إنتماءاتهم  وأصولهم الأجنبية، والمقترنة بعزل ونبذ من المجتمع الحاضن. مشكلة الفيلم ليست تكرار قصته بقدر ضعف معالجتها، وأيضا مستواه الفني عموما. فالمصرية الأصل سالي الحسيني البريطانية الجنسية لم تشتغل على مادتها بشكل مقنع ولم تحرك ممثليها كما ينبغي ولم تقنع متفرجها كثيرا بموضوعتها الثانية والتي أرادت بها تميز فيلمها ونقصد بها “المثلية الجنسية” التي يركز عليها الغرب ويعتبرها من قضاياه الإجتماعية المعروضة للنقاش والجدل والمطلوب معالجتها بشكل ما. وكتحصيل حاصل ستثير هذة النقطة نقاشاً بين النقاد والجمهور، وربما سيتركز حول السياق الذي عولجت فيه وما إذا كانت مقحمة لإعتبارات إنتاجية وتسهيلاً لقبول غربي لَه أو إنها في النسق المتطابق مع الواقع كون الظاهرة ليست حصراً على مجتمع دون آخر ولكن الطريقة المعروضه بها للبحث تختلف بإختلاف الثقافات. الأهم هو النظر الى الفيلم كله كوحدة فنية، والتي في حالة “أخي الشيطان”  لم تكتمل شروطها. على النقيض منه يأتي فيلم “عال جداً وقريب بشكل لا يصدق” لستيفن دالدري والذي عالج فيه آثار تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر من منظور إنساني وبعيد عن الحدث وتداعياته السياسية المباشرة. أكثر ما يدهش فيه أداء ممثليه وبخاصة بطله الطفل أوسكار (الممثل توماس هورن) الذي عانى عذاباً قاسيا بسبب خسارته لوالده الذي سقط من أحد البرجين. لقد إحتاج الكثير من الوقت ومن العذاب ليستعد  توازنه وقبوله بحقيقة موت الأب. فكرة القبول بالفقدان يوزعها صاحب العمل على مستويين داخل نصه البصري الممتع، الأول فقدان والده الذي أحبه كثيراً والقبول بحقيقة أن ما بناه من آمال على المفتاح الذي وجده في مزهرية قديمة أشتراها والده وتركها في مخزن بيتهم، هي مجرد أوهام تعلق بها ليطرد فكرة موت من أحب ثانياً. النتيجة الأخيرة وبعد طول بحث وضعته أمام حقيقة أن المفتاح لم يكن يعود له بل للرجل الذي أشترى منه المزهرية وبالتالي فقد كل ما كان يُمني النفس به.

مسار أحداث الفيلم كانت  تتصاعد وفق حالة الطفل النفسية والتي إستردت توازنها في النهاية. عمل مهم وضع خارج المسابقة في حين ولإعتبارات غير مفهومة أنظم الفيلم الأسباني “ألعاب غميضة الأطفال” الى المتسابقين وهو لا يتعدى كونه شريطاً باهتاً أقرب الى أفلام الرعب ولا يصل الى الجيدة منها، الحدث فيه يتمحور حول شاب قتل حين كان طفلاً إبنة جارتهم دون قصد، حينما كان يلعبون هو وأخيه معها ألعاب طفولة بريئة تسببت في موتها وظل الخوف من الحدث يسكن داخله وفجأة ومع مجيء صديقته بطفلة فقدت والدتها للتو الى بيته، تذكر ماضية المرعب لتقارب سن  الطفلة مع الأخرى  التي تسبب في موتها. لقد أعاد وجودها مخاوفه القديمة من إنتقامها لهذا فكر بقتل الطفلة للتخلص من عذاب الماضي ومن أي شيء يذكره بها. لا تميز في الشريط ومع هذا جاء الى برلين ودخل مسابقاته. العمل المثير داخل المسابقة نفذه الأخوان باولو وفيتوريو تافياني وعنوانه “قيصر يجب أن يموت” المأخوذ عن مسرحية يوليوس قيصر لشكسبير. المخرجان أسندوا البطولة الى سجناء إيطاليين كنوع من أساليب  المعالجة النفسية وضمن مشروع تأهيلي لهم جاؤا من أجله بمخرج مسرحي قام بإختيار الصالحين منهم الى التمثيل. النتيجة التي أمامنا كانت مدهشة ممثلون يؤدون أدوارا ببراعة وبصدق وحرارة وفي النهاية وبعد انتهاء المشروع سيشعرون بثقل السجن عليهم. عمل الأخوين الإيطاليين في خصوصية تستحق مراجعة خاصة. الى أفريقيا ومع بطله الذي جاء ليموت في بلاده بعد رحلة دراسه خارجها، يعود بنا المخرج أليان غوميز. مشاركة بطله تجربة الإحساس بقرب ساعة أجله تحيل العمل كله الى بحث فلسفي حول وجود الكائن البشري ونهايته المحتومة. إستخدم غوميز إسلوباً متعدد المستويات في تقريب أحساس رجل يموت الى المشاهد عبر إستخدام الموسيقى والمشاهد القريبة التكوين من المسرح الى جانب شغل سينمائي بسيط وعميق. الأيام الأولى للدورة شهدت حضوراً واضحاً للضيوف العرب، لم تألفه برلين من قبل فهذا العام عام الثورات ومن الدول التي شهدت تغيرات كبيرة فيها جاء الضيوف والكثير من أفلامها معهم وفي مقبل الأيام ستيعرض أغلبها.