“الرحلة 110”.. طريق القدس عبر نفق مجاري!

سعيد أبو معلا

سيطرح مشاهد فيلم “الرحلة 110” (Journey 110) للمخرج الفلسطيني والمصور الفوتوغرافي خالد جرار سؤالا مركزيا هو في جوهرة مشروع المخرج الجديد، يتمثل بـ: ما الذي يدفع بالفلسطينيين إلى كل هذا العذاب وتلك المخاطر وربما القرف الذي لا يمكن تخيله أو وصفه في سبيل الوصول إلى مدينة القدس؟
ومع ذلك السؤال الشخصاني والإشكالي الذي يصعب صكة في إجابة واحدة نرى أن سؤالا ثان يطل لنا برأسة ويتعلق بتلك القدرة الكبيرة للفيلم الوثائقي على تقديم معاناة البشر بواقعية يحسد عليها في أحايين كثيرة، وتحديدا تلك الواقعية التي يصعب الحكي والكتابة عنها أو وصفها بصورة تقريرية، فمهما كانت الكلمات والحروف فإن الصور التي ظهرت في شريط “جرار” الجديد والقصير حيث يبلغ زمنه 12 دقيقة والقليل من الثواني تصيب المشاهد بالغثيان والحيرة، وتفجر في رأسة مئات الأسئلة.
الرحلة 110 تظهر لنا قدرة الفيلم الوثائقي على اقتحام ما لا يمكن الايغال فيه، وهو دخول في فيلمنا الذي نتحدث عنه لا يبدو محملا إلا برغبة التوصيف النقل دون أي تدخل، والفيلم لا يدعي أنه يقول غير ذلك، فقط ينقل معاناة يصعب تخيلها يمر بها الفلسطيني في طريق دخوله إلى مدينة القدس المحاصرة بالحواجز والجدران ورصاص الجنود وعندها تكون أنفاق المجاري مجرد ملجأ ومفر. 
نحن إزاء شريط يستفز المشاهد ويجعله يشعر بحالة من عدم الرضا وربما الرفض لتصرفات أؤلئك المواطنين الذين تتضاعف أعدادهم في شهر الصيام حيث الذهاب للقدس والصلاة فيها تدفع بالمئات إلى سلوك أخطر الطرق وأكثرها صعوبة بشكل يومي.
الشريط هنا لا يحدد زمنا لتلك الرحلة التي يرصد من خلالها إلى أي مدى يصل الإنسان في بحثه عن حقه في ظل وجود قوى شريرة تتمترس لمنعه دوما وأبدا، ويجعلنا نصل إلى ذلك المدى البعيدة جدا عن خيالنا، مدى لا يتحمله إلا الفلسطيني في سبيل الحصول على حق من حقوقه لكن عبر طريق مليء بالاهانة والقذارة والوحشة والخوف.
فنحن لسنا في برنامج مسابقات كالتي تطالعنا بها القنوات الأجنبية والعربية وتحديدا عندما تدفع بالمشاركين فيها إلى المخاطرة وفعل ما لا يمكن وصفه في سبيل تحصيل نقطة أو الفوز بمبلغ من المال مقابل مثلا وضع اليد في براميل مليئة بالفئران والافاعي وانتزاع المفتاح، نحن هنا أمام فعل يكاد يكون يوميا يحدث بعيدا عن أي رصد أو اهتمام.

صور.. صور يا خالتي”
المواطنون الذين لا تظهر ملامح وجوههم لأسباب أمنية وشخصية في فيلم خالد جرار يعبرون نفقا معتما لمياه المجاري، يبدأ بالنور من أوله فيما نقطة صغيرة بحجم حبة عدس تظهر وتختفي في أخر النفق الذي يبلغ طولة 110 مترا هي المسافة التي على المهجوسين بالقدس وسيرتها أن يسلكوها للوصول إليها، وذلك بعد أن استحال المرور إليها بفعل الجدار الذي يتربع فوق النفق تماما، مانعا الفلسطينيين من وصول طبيعي.
لا يتحدث المخرج مع عابري النفق لكنه يرصد ردود أفعالهم، هنا تحديدا تفاجأهم الكاميرا لتكون ردود فعل أغلبهم: “صور.. صور يا خالتي.. خلي الناس تشوف” كما قالت أكثر من امرأة مجبرة على سلوك ذاك الطريق – النفق.
في الفيلم ظهر الناس من خلال ملابسهم وقدرتهم على الحفاظ على نظافتها من بركة الأوساخ التي يغوصون فيها وهو ما فشلوا فيه جميعا، وكأنهم جنود يتدربون على أقسى ظروف الحياة التي يمكن أن يمروا فيها، وهنا يبدو أن لكل عابر أسبابه الخاصة التي تختلف وتتوزع بين الديني والاجتماعي والصحي…الخ
هي حاجات إنسانية بسيطة لكنها محرومة على الكثيرين في ظروف طبيعية فيكون اللجوء للنفق حلا ووسيلة أخيرة لفعل كان لا بد أن يتحقق.

خالد جرار

فيديو ارت بروح الوثائقي
يحتار مشاهد الفيلم في تصنيفه، فالمدون على بوستره يؤكد أنه من فئة الفيديو أرت، فيما الفيلم يحمل الكثير من روح الوثائقي، فهو عبارة عن رحلة ترصد تفاصيل بشر يجتازون نفقا لمياه المجاري حيث يرصد كل تفاصيلهم وهمهماتهم وقرفهم وخوفهم.
الفيلم هو ثمرة تصوير استمر ساعات 6 قضاها المخرج في النفق يرصد حركة مرور المواطنين بالعتمة والوحل المشبع بالرائحة الكريهة، وهو في فيلمه يغرقنا بالعتمة تماما كما فعل المواطنون فيه، إغراق يبدو من تسيد اللون الأسود وعدم استخدام الاضاءة إلا في أضيق نطاق اللهم إلا الاضاءة القادمة من مدخل النفق ومخرجه.
ويمكن تقسيم تلك الرحلة كما قدمها الفيلم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، الأول يظهر بدايات دخول النفق من المواطنين وعلى اختلاف فئاتهم.. يرينا شباب وفتيات وأطفال ونساء كبيرات..الخ لكنه قبل أن يفعل ذلك نعيش في أول 3 دقائق من الفيلم حالة من السواد حيث لا يرى المشاهد إلا خيالات بشر وأصوات خائفة وغير مفهومة، كأنها أشباح تمشي وتغوض في مياة ممر ضيق ومعتم.
في القسم الثاني نرى أرجل مجموعة من الشابات والشباب على مدخل النفق يتحضرون لعملية المرور نفسيا وماديا حيث المرور من خلاله يتطلب لبس الأكياس البلاستيكية وتقوية المعنويات في ظل ما ينتظرهم من فئران كبيرة وصراصير ومياة صرف صحي ورائحة كريهة.
يلبسون بحماس يظهر في خلفيته الخوف حيث نسمع شباب يقولون: “شو خايف”، “ما بدك تيجي” ليكون القرار قرارا لا رجعة عنه، ورغبة بالمضي في التجربة إلى أخرها.
في القسم الثالث من الفيلم نرى الوصول ونهاية النفق حيث ضوء مشتهى يطل من فتحة صغيرة عبارة عن شق مصدوع من بين أكوام الصخور التي اغلق فيها النفق في أوقات سابقة.
هنا نرى العابرون في قمة اتساخهم وتعبهم، لحظات ونراهم يضطرون للانحناء والحبو ليصلوا لفتحة النفق لتلتقط كاميرا المخرج الأيدي والأرجل المتعبة والمتسخة والواهنة والفرحة غير المكتملة بالوصول.
نرى الشباب والفتيات يتسلقون بعد أن ينزعوا أكياس البلاستيك التي التفت بها ارجلهم  ليكتشفوا أنها لم تكن مجدية كما تمنوا حيث المياة المتسخة طالت أقدامهم.
لا يذهب بنا المخرج لأبعد من هذا النور القليل والشحيح، وهو كذلك لا يضعنا بتفاصيل المكان أو لما هو أبعد من تلك الفتحة لكننا ندرك أنها عالم أخر مختلف لما قبل الجدار ولما قبل فتحة البداية ومع ذلك ندرك من بحر الفيلم ذاته أن لا نهاية للخوف حيث هناك رحلة العودة أيضا ومطاردات القوات الإسرائيلية الراجلة التي دوما ما تكون بانتظار المتسللين؟
الكاميرا التي جلست في النفق ساعات ست رصدت مئات التفاصيل الصغيرة منها العتمة ذاتها التي سيطرت على خط الفيلم، عتمة تنتقل للمشاهد المنزعج ليتمنى ضوء لا يجود به الفيلم أسوة بالواقع ذاته الذي يعيش الفلسطينيون فيه، نسمع أصوات الناس تخبرنا تارة أن “العبارة/ النفق مسكر”، وتارة أخرى تخبرنا “أن لا حول ولا قوة إلا بالله”، فيما جملة ثالثة او عاشرة خائفة وهارعة لمكان البداية تخبرنا أن “اجا الجيش.. الجيش مسكر العبارة”، كما نستمع لأصوات خوف أنثوي “يما.. يما..”…الخ
نرى ونسمع في مشاهد سوداء أصوات الأيادي التي تربط الأكياس البلاستيكية على الأرجل الخائفة، اصوات الأقدام تغوص في المياة السوداء، زحلقات الأرجل وانزلاقاتها على حجارة النفق اللزجة، الأنفاس الحارة واللاهثة، الخوف من الفئران الكبيرة، وتلك السيدة العجور التي تحول لون ثوبها من الأحمر للأسود.
نرى تلك الفتاة المحجبة والخائفة التي تكاد أن تفقد توازنها فتسقط في بركة الصرف لتبزغ من الداخل صديقتها لتساعدها على المرور. نرى رجلا يحمل طفلا نائما على كتفه. وعدسة خالد في كل ذلك لا تطارد وجوه الناس، لا تتفرس ملامحهم بمقدار ما تحاول ان تنقل لنا ماذا يفعل النفق ومجاريه بهؤلاء البشر، نرى كم يجعل ذلك النفق الصغير نسبيا من هؤلاء البشر الراغبين بقضاء حوائجهم مضطرين للعذاب الذي نراه ونتمنى أن لا نصدقه.

ملصق الرحلة 110

مساحة من عالم سفلي
لا يعتبر فيلم خالد فيلما متقنا فنيا، لكن مكمن عبقريته وقوته التي جعلته يشارك في الكثير من المهرجانات الدولية هو أنه يرصد مساحة لم نرها، أو لا نريد أن نراها، أو لم نجربها ولن نجربها أيضا، تعكس حالة غريبة، طارئة مقززة، لبعض معاناة البشر التي يتكبدونها ذهابا وايابا لتحقيق غاياتهم من دون ان يحالفهم حظ العبور في أحيان كثيرة.
مؤكد أن تيمة الحاجز وصعوبة وصول الفلسطيني إلى القدس أو المدن الأخرى بفعل الحواجز والاجراءات الاسرائيلية يعتبر موضوعا أثيرا في السينما الوثائقية الفلسطينية لكن ما قدمه خالد جرار هو الأكثر وجعا وبؤسا وهو إدانة للإسرائيلي الذي يدفع بهؤلاء البشر إلى الحط من إنسانيتهم في سبيل تحقيق حاجة وتطبيق حق إنساني، وخالد دون أن يقول كلمة واحدة في الفيلم يؤسس لذلك، ويدفعنا للتفكير بأنفسنا وبما أصبحنا عليه من بؤس وفقدان كرامة وإنسانية والسبب الوحيد هو الاحتلال ذاته، الذي لم يظهر بالصورة أبدا.
أن هذا الفيلم هو غوص في عالم سفلي يضطر الفلسطيني إلى تجربته والعيش في ضوء احتمالاته وجعله من مكونات حياته وهو يقينا ما لم يظه بأعمال سينمائية فلسطينية…
وكأن المخرج يقول بالصورة المعتمة: نفق.. نفق.. نفق هي حياة الفلسطيني، هذه المرة جاء نفقا لمياة الصرف الصحي.. فهل هنالك أكثر بؤسا مما يخبرنا به الفيلم؟ ربما لا.. وربما نعم.. فالواقع أكثر ثراء من خيالنا البسيط.
هنا علينا أن نقول أنه سبق لجرار ان قدم للجمهور صورا فوتوغرافية عن محاولات عبور هذا النفق من خلال معرضه المصور “عبور” الذي جاء بمثابة قصة مصورة فوتوغرافيا التقطها أثناء مرافقته لسبع سيدات فلسطينيات في عبور ذات النفق باتجاه القدس، ونجاح ذلك المعرض واختلافه دفعه إلى فعل توثيقي جاء على شكل “الرحلة 110” بكل ما تحمله من تقزز وبؤس ومرار.