السينما الآسيوية.. فن صاعد وقضايا تبعث على اليأس

ندى الأزهري

فيلم "الرفاق" لدي غون جون، هروب من المسؤولية مع قصة رومانسية عن شباب وشابات يحاولون بكل الوسائل تجنب مسؤوليات أنفسهم وعلاقاتهم مفضلين إضفاء مفهوم الصداقة على علاقة الحب الأكثر تطلبا

من خلال مشاهدة 14 فيلما قادما من آسيا الوسطى والشرق الأقصى، تبدو الصورة التي تعكسها سينما تلك البلدان عن أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية شديدة القتامة، صورة تقضي على أي أمل وهي تبدي التيه والفوضى واليأس والعنف الذي يعوم فيه البشر.

سينما الفلبين الصاعدة بقوة في المشهد العالمي، تعكس في ثلاثة أفلام فسادا مدمرا. فمخرج الفلبين الأشهر عالميا بريانتي مندوزا الفائز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان عام 2009 عن “كيناتاي”، يأتي في فيلم جديد عن “الحق في القتل” (Alpha, The right to kill). سردُ هذا المخرج اللامع لاهثٌ متمكنٌ معتن بالكادر وبعمق الشخصيات، فيلم أسود بالكامل عن تجارة المخدرات والفساد بين الكبار والصغار ومن يقع بينهما في مؤسسات الدولة، وعن القتل الذي لا يُبقي إلا على الأكبر والأقوى. قصة مثيرة رائعة لهذا المعلم حيث لا تعوم إلا الرؤوس وحيث مفتش مباحث مرتش يحقق -درءا للعيون- لوضع اليد على رئيس عصابة تهريب للمخدرات ينجح دوما بالفرار في اللحظة الأخيرة، رئيس يبدو قتله -وليس إلقاء القبض عليه- مطلوبا كي لا يفضح المتعاملين معه من النافذين في الدولة.

 

كلاب البامبو.. الكل يربص بالكل

في “كلاب البامبو” (Bamboo Dogs) لكيفين -وهو صانع أفلام شهير أيضا من الفلبين- تلعب عتمة المشاهد دورها في التعبير عن ظلمة الواقع، فبالكاد نلمح الشخصيات، إنها تتراءى كأشباح متراقصة نميزها من أصواتها وتعليقاتها البذيئة، ومن مواقفها وحدّة نبراتها، وهذه حين تكون حادة وآمرة فهي بالتأكيد لأحد ضباط الشرطة.

يبدأ الفيلم بتلقي مكتب التحقيقات مكالمة هاتفية تكون سببا في تسلسل أحداث ينتج عنها إلقاء القبض على عصابة “متعاونة” معهم. عبر ظلمة الليل يُنقل المجرمون في حافلة صغيرة لاستخدامهم طُعما للإيقاع بالرؤوس، دون أن يدرك الجميع أن تلك لا تقع بل هذا الذي يحاول الإيقاع بها، لاسيما إن كانت مرتبطة ارتباطا وثيقا بالقائمين على أمور البلاد، وهكذا وفي عتمة الليل ينبعث ضوء باهر ويصدر صوت نافذ لانفجار يحيل الحافلة رمادا.

يبدو أن تلك قصة حقيقية جرت في مانيلا العاصمة منتصف التسعينيات عن تورط مسؤولين كبار في تهريب أسلحة ومخدرات، وقد سعى المخرج ليكون فيلمه تذكيرا بهذه الجريمة التي لم يكشف بعد عن خفاياها وراح ضحيتها أفراد من الشرطة ومن العصابة في عملية تفجير للسيارة التي كانت تنقلهم.. “إنها أكبر مؤامرة على أعلى مستوى في تاريخ الفلبين” كما وصفها.

ولم تكن الأجواء أقل عنفا وإيلاما في “حافلة مدرسية” للمخرج لويزيتو إيغناشيو المعروف تلفزيونيا في الفلبين، فهذه الحافلة تُستخدم واجهة لنقل أطفال مخطوفين من أهاليهم لتعليمهم التسول، ثم قيادتهم في الشوارع ودفعهم للعمل ولابتكار أساليب تمنع عنهم الجوع ومنها استنشاق ما لا يسر، وهكذا يصبح التلاعب بهم سهلا.. أطفال يُتركون لمصيرهم وحين يموت جلادهم يشعرون بالأسى عليه، فإلى أين سيذهبون الآن؟

فيلم "يون تيه" (Yun Jie) للمخرج نينجي جيانغ يتحدث عن قسوة الحياة الريفية على الأطفال

بين الريف والمدينة.. قلق مجتمعي

من الصين أربعة أفلام اجتماعية تبدي الوضع القلق للصين المعاصرة المتنازعة بين حياة المدينة اللاهثة والحياة الريفية الشاقة، وتبدي تحولات مجتمع تصعد فيه طبقة وسطى مدينية وقرى تفرّغ من سكانها الشباب.

ففيلم “يون تيه” (Yun Jie) للمخرج نينجي جيانغ يتحدث عن قسوة الحياة الريفية على الأطفال، فهؤلاء عليهم الملاءمة بين العمل في الحقول والواجبات المدرسية، وتقع عليهم المسؤولية من الصغر بسبب غياب الوالدين للعمل في المدينة. لكن حين تجري مقارنتهم بين ما يمكن أن يصبحوا عليه لو انتقلوا إلى المدن وعششها الضيقة وهوائها الملوث لهان الأمر ربما عليهم. هذا ما يجري للصغيرة يتيمة الأم “يون تيه” التي تُترك مع أختها برعاية الجدة في البيت الريفي بعد ذهاب الأب وزوجته للعمل في المدينة.

تقطع الصغيرة ذات الاثني عشر عاما الطريق للمدرسة مشيا في الصباح، ثم بمجرد عودتها تذهب للعمل في الحقل في ظروف صعبة، اختار المخرج أن تكون في فصل الشتاء لإبداء المزيد من شقاء العيش.

تزداد المصاعب بعد موت الجدة، فهل تنتقل الطفلتان للعيش في المدينة؟ إنه فيلم يدعو للبقاء وعدم الهجرة، فالقادم ليس أفضل.. سرد مثير للمشاعر مؤلم وجميل ويتراوح بين الروائي والوثائقي، وأداء معبر للصغيرة في علاقتها وارتباطها الشديد بجدتها، إنما كان أداؤها بحاجة أكثر لتدخل المخرج للتعبير عن مشاعرها في بقية المواقف، فقد لازمها تقريبا تعبير واحد متجهم.

مخرج الفلبين الأشهر عالميا بريانتي مندوزا الفائز بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان عام 2009 عن "كيناتاي"، يأتي في فيلم جديد عن "الحق في القتل"

عن الجريمة والتسامح والحب

وتحضر الجريمة التي يحضّ عليها الاندفاع وراء الثروة ومعها استغلال أرباب العمل للمزارعين الصغار ولكل العاملين لديهم، وذلك في فيلم “خارج الجريمة” لبيتر زوو، حيث يقف مزارع بسيط عاجزا أمام مرض صغيرته لتقوده الصدفة إلى خطف ابنة رب العمل المستغِل بهدف الضغط عليه لدفع مستحقاته المتأخرة.

تتعدد خطوط السرد في الفيلم لتبيّن وجوها متعددة للقصة الواحدة في أسلوب يعرّف بنوايا الشخصيات وبسوء الفهم الحاصل في المواقف والذي يقود إلى تعقيدها. الفيلم عن الجريمة والمسامحة والحب، ومشاهده مصورة في منطقة جبلية باردة أضفت أثرها على الأحداث فكأنها تهب الشخصيات شيئا من وعورتها.

فيلم "ساتاش" لتولغن بيتوكينوف، وهو فيلم طريف يحاول في أسلوبه الإخراجي التشبه بأفلام "الويسترن" (أفلام رعاة البقر من الغرب الأميركي)

حياة بريئة.. قانون يُجهض الأحلام

الصين التي تنتج العديد من الأفلام المستقلة ما زالت تقدم أيضا قصصا عن القانون الصيني الذي كان يمنع إنجاب أكثر من ولد للعائلة الواحدة، منتقدة أساليب السلطة اللاإنسانية لإجهاض كلّ من خالفت القانون.

ففي فيلم “حياة بريئة” للمخرج الشاب جون آي سون الذي أهداه لوالدته؛ هناك جريمة إجهاض. أمٌّ تجبرها السلطات المسؤولة في الريف وفي ظروف وحشية إلى التخلي عن حملها وهي في شهرها الخامس مما يقودها إلى الانهيار التام صحيا ومعنويا وإصابتها نفسيا بجرح غائر يصعب شفاؤه.

” حياة بريئة” يبين كذلك بعض عادات اجتماعية ومعتقدات  لدى الريفيين وسكان البلدات الصغيرة ومدى تأثيرها في حياتهم اليومية، كاللجوء الدائم إلى العرافين وقارئي النجوم والأبراج والكواكب للاستهداء إلى طريق الخلاص وإلى معرفة المستقبل والتواريخ الملائمة لحدث ما. إنه فيلم اجتماعي مشوق واعتناء بالصورة لتُبرز -عبر لقطات واسعة- كآبة بعض الأمكنة وبؤسها أو ضيقها في البلدة والمدينة مقارنة بالريف الجميل.

 

السقوط.. أصدقاء ضد السائد

وتحضر الطبقة الوسطى في عمل أول لمخرج خمسيني هو جو ليدونغ استخدم كل مدخراته لتحقيق فيلمه “السقوط” ليسرد ربما قصته ومعها قصة أشخاص أصدقاء ضد السائد بنوا أنفسهم بأنفسهم ونجحوا في تأسيس مؤسساتهم الخاصة.

يبرز الفيلم بذكاء أعماق شخصيته الرئيسية، وهي لرجل أعمال خمسيني من الطبقة المتوسطة بلا مبالاتها وعواطفها الباردة لتفاجئنا بعدها بمشاعر مغايرة. كل هذا في سرد أفقي لا ذروة فيه يبين الحياة اليومية لهذا الرجل مع عائلته وأصدقائه وشركائه في العمل بإحساس مرهف وطرافة تجعل من متابعة فيلم كهذا متعة على الرغم من خلوه من الأحداث.

من تايلند نشاهد فيلم “مانتا راي” لفوتيفونغ أرنفينغ الذي ربح جائزة أفضل فيلم في قسم آفاق بمهرجان البندقية لهذا العام، وهو تحية إلى شعب الروهينغا كما كتب في المقدمة. فيلم شديد الغرابة يبدو فيه بؤس الناس وعملهم الشاق واختفاؤهم الذي قد يتم بين ليلة وضحاها دون معرفة الأسباب، مع اهتمام مُركّز على البصري في مشاهد غرائبية عكست أساطير ومعتقدات وهو ما أضاف للفيلم سحره.

فهذا رجل بائس لهجران زوجته له يعثر على رجل على شفا الموت في حادث غير مفهوم، فينقذه ويعلمه مهنة الصيد ليختفي بدوره ولتعود الزوجة من جديد. يلعب الفيلم على هذه التيمة من ظهور واختفاء وعودة ظهور في أجواء تتراوح بين العادي والسوريالي.

فيلم "اللامبالاة الحنونة للعالم" لعادل خان يرزانوف هو فيلم رائع بسرده البصري، يبدي الهبوط نحو الجحيم ومواجهة مشتركة غير متكافئة بين الحبّ والمبادئ وبين قسوة وشره وقهر وتحكم واستغلال جامعي المال

ساتاش ولامبالاة العالم الحنونة

ويعكس فيلمان من كزاخستان متفاوتا المستوى على نحو صارخ؛ الوضع “العصاباتي” المسيطر على القرى والمدن والظروف التي لا تدع مكانا للشرفاء الحالمين.

الأول فيلم “ساتاش” لتولغن بيتوكينوف، وهو فيلم طريف يحاول في أسلوبه الإخراجي التشبه بأفلام “الويسترن” (أفلام رعاة البقر من الغرب الأميركي). وساتاش يمثل رجل الشرطة الشريف الوحيد في منطقته النائية في سهوب كزاخستان، وعليه مواجهة عصابات تفرض الأمر الواقع على السكان الذين لا حول لهم، كما عليه مواجهة مؤامرات من يسعون للثروة فتقودهم أحلامهم إلى الهلاك.. لا يمكن لنا إلا الإعجاب بالناحية البصرية للفيلم التي عكست جمال الطبيعة، وهذا على الرغم من بدائية أسلوب السرد والمبالغة في أداء الممثلين.

أما فيلم “اللامبالاة الحنونة للعالم” لعادل خان يرزانوف المخرج المعروف لهواة هذا النوع من السينما، فهو فيلم رائع بسرده البصري، يبدي الهبوط نحو الجحيم ومواجهة مشتركة غير متكافئة بين الحبّ والمبادئ وبين قسوة وشره وقهر وتحكم واستغلال جامعي المال، وذلك عبر حكاية الفتاة الجميلة سلطانة المجبورة على بيع مثالياتها في حياتها الريفية حين تضطر للخضوع لحياة المدينة القاسية.. هناك حيث المستغلين والمجرمين يمسكون برقاب الناس الشرفاء. فإلى أين ينتهي الحال بسلطانة وخادمها العاشق لها وملاكها الحارس؟ وهل هناك غير الموت للخلاص من لامبالاة العالم “الحنونة”؟

فيلم "سيدي" للمخرجة الهندية روهينا جيرا هو فيلم لطيف وعاطفي عن الطبقية التي لا يمكن التخلص منها في الهند

لا عنف.. بل طبقية وهروب من المسؤولية

ثمة أفلام أقل قسوة على صعيد المحتوى والشكل من فيلمي كزاخستان السابقين، فكوريا الجنوبية المتميزة بسينماها الاجتماعية التي تعتمد الموقف والحوار والتكرار، تقدم فيلمين لطيفين لا عنف فيهما ولا جريمة.

في فيلم “الرفاق” لدي غون جون، هروب من المسؤولية مع قصة رومانسية عن شباب وشابات يحاولون بكل الوسائل تجنب مسؤوليات أنفسهم وعلاقاتهم مفضلين إضفاء مفهوم الصداقة على علاقة الحب الأكثر تطلبا. هذا ما يقرره المصور الصحفي يون هو والصحفية أون جي في علاقتهما على الرغم من أن الحبّ يشع منها، فيختاران الصداقة عنوانا لها كهروب من المسؤولية في اتخاذ القرار وفي الرغبة في الاحتفاظ بالحرية.

أما في “الأوز يتجه جنوبا” لجاي هو باك، فتشجيع على التخلي عن استعباد العمل ولو لفترة قصيرة والتمتع بالحياة واتخاذ وجهة أخرى غير تلك المرسومة تأثرا بأشخاص عبروا حياتنا، وهذا ما يفعله موظف مبتدئ في شركة كورية حين يقرر فجأة التخلي عن بزة العمل والسير وراء ما يحبه حقا في الحياة: الموسيقى. ومع أنها كانت تجربة قصيرة للشاب لكنها ستساعده لاحقا ربما على الاستمرار في الحياة المرسومة والعودة إلى ضغوط العمل.

من الهند فيلم لطيف وعاطفي عن الطبقية التي لا يمكن التخلص منها، فالمجتمع الهندي لا يزال -رغم القوانين- لا يسمح بتجاوز نظام الطبقات المعقد. فكيف لسيد أن يحب خادمته؟ لقد حصل في فيلم “سيدي” للمخرجة الهندية روهينا جيرا، لكن “راتنا” الخادمة الواعية لصرامة المجتمع الطبقي تتخذ موقفا حكيما.. على الأقل يفوق في حكمته نزعة سيدها الغربي التوجهات في إحقاق العدالة الاجتماعية وفي عدم الالتفات للتفاوت في المستوى. فيلم بميزانية ضئيلة تقتصر مشاهده الخارجية على أمكنة محددة لا تخرج عن إطار الشقة وبعض مناظر خارجية سريعة.

سينما آسيوية وإن كانت محلية فهي عالمية في مواضيعها، تسري طروحاتها على عالمنا وتعكس معاناة الإنسان المعاصر من العنف والفساد والقهر والتحكم، وهي وإن كانت طروحات قاسية تثير يأسا في النفوس من حاضر قاتم وغد مظلم، لكنها تثير أملا كبيرا في قدرة السينما على عكس مشاكل البشر دون أن تغرق في خطابية أو مباشرة بل بأساليب ذكية ورهيفة ومستوى في معالجة المضمون رفيع المستوى في إيقاعه المنظم وصورته البصرية الأخاذة وسرده المحكم.

هذه الأفلام عرضت في مهرجان وارسو الدولي المنعقد نهاية أكتوبر/تشرين الأول الماضي في مختلف الأقسام.