السينما التسجيلية في 2015: أوجاع الحياة الاجتماعية

 محمد رُضــا
 

مايكل مور

في الوقت الذي لا يزال الفيلم التسجيلي العربي يجتهد في سبيل الحصول على مساحته المستحقة من الاهتمام، وذلك على الرغم من تعدُّد المناسبات والمهرجانات السنوية التي تقدّمه اليوم جنباً إلى جنب الأفلام الروائية، يتمتع هذا الكيان القائم من الأفلام غرباً بمساحة كبيرة من النجاح إعلامياً وجماهيرياً ونقدياً.
بطبيعة حال الأمور السائدة، ليس النجاح هو ذاته مع نجاح أفلام الآكشن والفانتازيا الأميركية، لكن لن يكون صعباً على أي متابع ملاحظة كيف أن السينما التسجيلية (وثائقية كانت أو ريبورتاجية مثلاً) تعيش أفضل حالاتها على أكثر من صعيد.
العام المنصرم، 2015، عزّز هذا الحال على قدم المساواة مع الأعوام القريبة الماضية مع إضافة مهمّـة هي عودة المخرج الانتقادي الأميركي “مايكل مور” إلى الساحة بعد غياب بضع سنوات. إنه المخرج الذي أسهم إسهاماً كبيراً، ومنذ سنوات، في تحويل الفيلم التسجيلي من حالة حصار يعيشها وسط لا مبالاة الجمهور السائد، إلى تجربة حيوية تنضم إلى المعروض من أفلام الصالات التجارية وتجذب إليها اهتمام النقاد وجزء لا يستهان به من المشاهدين في الوقت ذاته.

آخر فيلم حقّقه كان «الرأسمالية: قصّـة حب» وذلك سنة 2009، أي بعد عام واحد من الانهيار الاقتصادي. هناك حطّ في شارع وول ستريت في نيويورك وصرخ منادياً أقطاب المؤسسات المصرفية الذين تسببوا في الأزمة الاقتصادية من دون أن يدفعوا أي ثمن (بل تم تعويضهم في الواقع) أن يواجهوه لأنه سيقوم بإلقاء القبض عليهم تبعاً لما يُـعرف قانونياً بـ Citizen Arrest
(ما يمكن ترجمته إلى “حق المواطن في إلقاء القبض”) الفيلم الجديد هو «أين نغزو تالياً؟» (Where to Invade Next???)
العنوان لا يرسم علاقة بين الفيلم وبين البنتاغون فقط، بل هو يُجسِّد سخرية من واقع حال شامل.

مور، الذي يظهر في كل أفلامه، يحمل العلم الأميركي وينتقل في عدد من الدول ليغرزه أو ليعكس مدلوله على المحيط الخارجي. بذلك يلبس المخرج عنوان الفيلم، فهو الأميركي الغازي مع مفارقة إنه في كل ذلك يسخر من السياستين الخارجية والاقتصادية للولايات المتحدة. الأولى بالنظر إلى الشعوب الأخرى (حتى الأوروبية) نظرة فوقية، والثانية بالنظر إلى الاستقرار الاقتصادي الذي تعيشه دول الغرب قياساً بمثيله في الولايات المتحدة.
للتدليل على ذلك، يزور المخرج عائلات في منازلها ومرضى في المستشفيات وسجناء في سجونهم ويقارن بين كل هذا، وسواه، وبين الوضع الموازي (وليس المساوي) الذي تعيشه القطاعات المذكورة في الولايات المتحدة.

**
بما أن الموضوع هنا ليس عن هذا الفيلم الواحد، الذي سأعود إليه في نقد منفصل، بل عن بعض أفضل أو أهم ما شوهد من أفلام تسجيلية في العام المنصرم، فإن الانتقال إلى الأفلام الأخرى يتيح لنا نظرة واسعة على السبب الذي من أجله يمكن اعتبار سنة 2015 أكثر من مجرد سنة عابرة في تاريخ ونشاط الفيلم التسجيلي.
والمواضيع متنوعّـة ولو أن تلك التي على علاقة بالسياسة عموماً أو بالمجتمعات من زاوية سياسية أو اقتصادية تبقى غالبة كالعادة. وهناك سبب مهم لذلك هو كثرة المشاكل التي يعاني منها هذا العالم حالياً من حروب وعنصرية عرقية وعنصرية دينية وأوضاع أمنية ومشاكل بيئية وأخرى معيشية.

من يتابع ما عرضته مهرجانات عالمية متخصصة مثل «جيهالافا» في جمهورية التشيك ومهرجان IDFA في هولاندا ومهرجان مونتريال للفيلم التسجيلي العالمي في كندا ومهرجان لايبزغ في ألمانيا، بجانب ما تمّ عرضه في كبار المهرجانات العالمية غير المتخصصة مثل برلين وكان ودبي وفينيسيا ولوكارنو، سيجد الكثير من تلك المشاكل يحتلّ أفق تلك العروض كافّـة.

في الواقع، كل فيلم من تلك اللافتة في العام الماضي، يتّـصل مباشرة بوضع من أوضاع الحياة الاجتماعية حتى وإن كان الموضوع ذاتي تماما كما الحال في الفيلم الجيّـد الذي أخرجه البرازيلي وولتر سايلس عن المخرج الصيني جيا شانغي بعنوان «جيا شانغي: رجل من فينيانغ».

لقطة من فيلم “تذكري اسمك يا بابل”

لا يستطيع مخرج عمد إلى تحقيق أكثر من فيلم في السياسة وشخصياتها (مثل «سنترال ستايشن» و«مفكرة الموتورسايكل» من بين أخرى) إلا وأن يوظِّف الفرصة لتحقيق فيلم عن مخرج آخر عُـرف بانشغاله في دراسة البيئة الاقتصادية لبلاده، من أجل البحث في تلك الآراء والمفاهيم التي تبنّـاها المخرج- موضوع الفيلم – في أعماله. لذا يأتي «جيا شانغي: رجل من فينيانغ» حاشداً للملاحظات التي يعايشها المخرج الصيني الآن وتنعكس في فيلم سايلس.

شانغي يعود إلى المدينة التي وُلد فيها راثياً، كما في أفلامه هو، التقدّم العمراني الذي يفقد المدينة هويّـتها ومتحدّثاً عن منع فيلمه الأخير «لمسة خطيئة» (2013) من العرض الداخلي. أكثر من أي مخرج صيني آخر، حرص جيا شانغي (أو شانغي جيا كما يطلق الصينيون أسم العائلة قبل اسم الفرد) على متابعة أوجاع عالمه في «حياة راكدة» (2006) و«سيتي 24» من بين أخرى. فيلمه الممنوع كان روائياً يدمج المشاهد في أكثر من قصّـة كل منها تعبر عن وجع اجتماعي مختلف.

«بهيموث»، للصيني زانغ ليانغ هو أيضاً من النوع ذاته. عُـرض للمرة الأولى في مهرجان فنيسيا، ثم استلهمه مهرجان دبي الأخير متيحاً للمشاهدين متابعة عمل مدروس وبلا تعليق صوتي من المخرج أو من يمثّـله.
هناك في بعض بقاع شمالية بعيدة قامت الحكومة الصينية ببناء مدينة تجاور مناجم الفحم على أساس استغلالها في الاقتصاد الوطني كمصدر للطاقة لكي تواجه شروط التطوّر الصناعي الحاصل وزيادة عدد السكان المرتفع أصلاً. لكن فيلم “زاو ليانغ” التسجيلي الجيد ليس عمل دعائي حول ما حققته الصين من إنجازات صناعية أو اقتصادية، ولا هو “ريبورتاج” عن هذه المناجم. على العكس تماماً، هو نظرة صارمة وباردة في الوقت ذاته على الثمن الباهظ الذي يدفعه العمّـال في سياق عملهم تحت الأرض وفوقها. مشهداً وراء مشهد تتبدى المآسي الصامتة لهؤلاء العمّال. وخلال ذلك يعكس المخرج حال المراعي المانغولية الجميلة وهي تحاصر الريفيين ورعاة المواشي وتهدد البيئة بلا هوادة أما تلك المدينة التي تم بناؤها، فالمشهد الأخير يأتيك بالجواب.
**

مثل هذه الأوجاع منتشرة ومشتركة في الكثير من الدول التي لا تتمتع بالقوّة الاقتصادية التي تُمثّلها الصين أو الولايات المتحدة الأميركية. لم تعد المسألة مسألة دول نامية، بل هي مسألة دول توقف نموّها تنضم إلى دول قد لن تشهد من النمو أكثر مما حقّقته.

نظرة على فيلم «الزيارة»، وهو فيلم مصري قصير (43 دقيقة) عرضه مهرجان جيهلافا التشيكي من إخراج ناديا منير ومروان عمارة، يكشف عما يرد في فيلم «توك توك» الذي شوهد في مهرجان القاهرة وعُرض قبل ذلك في مهرجان Hot Docs في مدينة تورنتو، كندا. كلاهما يلتقي وأفلام مثل البلجيكي «تذكري اسمك يا بابل» Babylon, Remember Your Name لماري برومان وبرام فان كوانبيرغ، حول مشكلة الهجرة ومستنقع الوحدة والإحباط. «في الانتقال» (In Transit) وهو فيلم كرتوني، غير روائي للمخرج “ألبرت مايلس” عرضه مهرجان ترايبكا، ويدور حول هجرة داخلية من المدن إلى الصحارى الأميركية تالياً حكايات أفراد آثروا العيش بعيداً وعلى نحو معزول، يلتقي، ولو على صعيد عزلة الناس وحزنهم، و«مستعمرة» (Colony) وهو فيلم تركي لـ “غورسان كلتك” الذي يصوّر ذلك التاريخ الإشكالي منذ انقسام قبرص إلى دولتين.

هذا وسيل من الأفلام الجيدة الأخرى التي تناولت، مثل «مستعمرة»، تبعات ما يحدث في مناطق العالم المختلفة إثر كل تحوّل سياسي أو نكبة. لدينا مثلا الفيلم الجيد من دانييلا آباد وميغويل سالازار «رسالة إلى ظل» (كولومبيا) حول ما أصاب اليسار في كولومبيا من نكسة بوفاة هكتور آباد (قد يكون من أصل عربي) الذي اغتيل تبعاً لمواقفه في الثمانينات، علماً بأنه لم يكن، كما يؤكد الفيلم، عضواً بأي حزب أو فصيلة مناوئة للسلطة آنذاك.
بارز أيضاً في هذا الاتجاه فيلم ينظر إلى مسألة الهجرة من زاوية مختلفة. إنه «مقطوع» (Stranded ومعناها الدقيق الذي يجد نفسه مقطوعاً من المال في موقع أو في بلد غريب)، فيلم صيني/ دنماركي/ سويدي لـ”مانز مانسون” حول ذلك الأفريقي الذي حط في بيكينغ ليستورد ملابس وحقائب إلى بلاده لكن ماله يتبخـر ووحدته تزداد وعالمه يطبق عليه من غير قدرة لا على العودة ولا على البقاء.

في مثل أوضاعنا الإجتماعية المنتشرة حول أنحاء العالم المختلفة، لا عجب أن يكون الهمّ المعيشي والاقتصادي هو السائد، بجانب أحوال السياسة والأمن المباشرين. كل هذه تمنح المتابع صورة واضحة عن أي عالم بتنا نعيش فيه اليوم، حيث، وعلى حد قول المخرج “سبايك لي” في فيلمه الجديد «شي – راك» (جمع بين كلمتي Chicgo وIraq) «السجون مزوّدة بأحدث تقنيات الكمبيوتر بينما المدارس تعاني من فقر التمويل».

1 Where to Invade Next.jpg مايكل مور في لقطة من فيلمه الجديد «أين نغزو تالياً؟»?.?
2 Behemoth.jpg  «بهيموث» للصيني زانغ ليانغ
3 Stranded in Canton.png  «مقطوع»: أفريقي بلا وطن.