الطيب الصدِّيقي .. رحيل فارس المسرح المغربي

 

المصطفى الصوفي

 

برحيل الممثل والمخرج والكاتب والفنان المغربي الطيب الصديقي، تكون الساحة المغربية والعربية على حد سواء، قد فقدت أحد عمالقة الفن المسرحي والسينمائي، وذلك بالنظر إلى قيمة هذا الهرم الفني الكبير، والذي قدّم للمسرح العربي والسينما بشكل عام، فيضا من العطاءات الفنية والإبداعية الممتعة، وثمرات خصبة من الأعمال المسرحية والسينمائية، التي ما تزال عالقة في أذهان الجمهور والمتلقي بسحرها الوديع.

 

ولد الطيب الصديقي في العام 1937، لوالد فقيه وعالم من علماء عصره، بمدينة الصويرة الشاطئية في الجنوب المغربي، وهي مدينة هادئة مطلة على المحيط الأطلسي شهيرة بفنونها الشعبية، وتاريخها الحضاري العريق، فضلا عن نبوغ أبنائها في الكثير من المجالات، كالمسرح والسينما والفنون التشكيلية والزخرفة الإسلامية والموسيقى، وبخاصة فن (كناوة)، وهو فن تراثي، يستلهم إيقاعات طبوله وأجراسه، من عمق الثقافة الشعبية الإفريقية.

تجربة مسرحية فذّة

في بداية حياته سافر الراحل الصدّيقي من الصويرة التي تشبّع بفنونها المسرحية والتراثية والسينمائية، إلى مدينة الدار البيضاء كبرى مدن المغرب، حيث تابع دراسته هناك، ثم منها إلى فرنسا، حيث اشتدّ عوده وصقلت موهبته الإبداعية والفنية،حيث كانت أولى إشراقاته الفنية، ضمن فرقة التمثيل المغربي في مهرجان باريس لمسرح الأمم سنة 1956 بمسرحية (عمايل جحا)، المقتبسة عن “حيل ساكابان ” لموليير، وهي مسرحية تراثية تنهل من معين الأدب الساخر، والذي يقدم الكثير من الحكم والمأثورات في قالب كوميدي يجمع بين الجدّ  والهزل، بحثا عن فسحات فنية للمتلقي.

وفي فرنسا تعرّف الراحل عن قرب على إبداعات الكثير من الممثلين والمخرجين والسينمائيين والمؤلفين، خلال الستينيات ونهاية الخمسينيات من القرن الماضي، كساشا كيتري وليدي كوديفا وكولدوني وموليير وهاملت، وبرخيت، وهوبير جينيو وجان فيلار، كما صقل موهبته بشكل جيد هناك، ما جعله يعود إلى البلاد من أجل خلق مسرح وطني ذي  أبعاد عالمية، وذلك بعد أن كوّن فرقته “المسرح العمالي” سنة 1957 بالدار البيضاء، وهي الفرقة التي قدمت الكثير من الأعمال العالمية المقتبسة، وذلك من أجل الاطلّاع على روائع الأدب المسرح العالمي كأسطورة كوديفا، ورحلة شونغ لي بأسلوب فني مغربي وعربي، ينهل من معين التراث القديم والفنون الشعبية العريقة.

وقد اشتهر الطيب الصدّيقي الذي قدم أعماله كممثل ومخرج ومؤلِّف في العديد من البلدان والعواصم العربية، بمسرحيات كثيرة، ذات توجّه فني كلاسيكي وطلائعي معاصر، منها (مقامات بديع الزمان الهمذاني) في السبعينيات من القرن الماضي، و(رسالة الغفران) اقتباسا من رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، ثم انتقل إلى الفلسفة مع المتصوف أبي حيان التوحيدي، وهو من أعلام القرن الرابع الهجري، من خلال عمله “الإمتاع والمؤانسة”، هذا فضلا عن فيض من أعمال أخرى تقدم للمتلقي الفرجة البسيطة والشعبية، لكنها عميقة وتحمل الكثير من الدلالات والإشارات، كـ (الشامات السبع) و(قطان الحب)، إضافة إلى مسرحية (أبي نواس) و(كان يا ماكان)، ثم (ألف حكاية وحكاية في سوق عكاظ)، والتي خاض فيها الراحل تجربة عربية متميزة مع العديد من الأسماء كوحيد سيف ونضال الأشقر، وذلك في أفق بناء فرقة مسرحية عربية كبيرة ومحترفة، تضم نخبة من النجوم لطرح الكثير من القضايا التي تهم الوطن العربي والعالم.

الصدِّيقي يتألق في الرسالة

 

ولعل تألق الطيب الصديقي في المسرح، عبّد له الطريق في مجال السينما، حيث تألق في الكثير من الأفلام السينمائية العربية والعالمية كان من أبرزها فيلم (الرسالة) سنة 1976 للمخرج العربي الكبير مصطفى العقاد، وقد أدّى دورا بارعا في هذا الشريط التاريخي الضخم والذي ما يزال يستأثر باهتمام الجمهور في الوطن العربي لما يطرحه من قضية تاريخية ودينية كونية وسماوية، هذا الشريط المتميز الذي يلخص جانبا مهما من حياة الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم.

 

وقد لعب الصديقي في هذا الفيلم التاريخي الضخم إلى جانب عباقرة الفن الدرامي في العالم العربي، من أبرزهم الممثل المصري الراحل عبد الله غيث، الذي لعب دور حمزة بن عبد المطلب، ومنى واصف التي أدّت باقتدار دور هند بنت عتبة، وأحمد مرعي في دور زيد بن حارثة ومحمد العربي في دور عمار بن ياسر، فضلا عن علي أحمد سالم الذي شخّص باقتدار دور المؤذن بلال بن رباح، و محمود سعيد في دور خالد بن الوليد، إضافة إلى الممثل المغربي محمد حسن الجندي الذي أتقن دور أبو جهل، وحمدي غيث في دور أبو سفيان. أما الراحل الطيب الصديقي فقد أتقن دور شخصية “الوليد بن عتبة” الشرير، شقيق هند زوجة أبي سفيان، فكان مكروها مذموما من قبل المشاهد بملابسه وصورته وأفكاره وكلامه، مكرسا نجاحه بشكل كبير في تشخيص هذا الدور، ليكون فنانا عملاقا بشهادة الجمهور.

زنوبيا ملكة تدمر

كما تألق الطيب الصديقي في الدراما الأردنية التاريخية الضخمة (زنوبيا ملكة تدمر) عام 1977 للمخرج عدنان الرمحي، وقد شارك إلى جانب العديد من الأسماء البارزة في مجال التمثيل آنذاك، ومنهم الممثل المصري الراحل صلاح منصور، والممثلة اللبنانية الشهيرة نضال الأشقر، التي اشتهرت بمسرحيات عدة منها “حرب البسوس” و”ألف حكاية وحكاية”، وكذلك الممثل السوري من أصل فلسطيني يعقوب أبو غزالة، وسلمى المصري، والممثل السوري رشيد عساف ومحمد العبادي ومحمد القباني، فضلا عن الكثير من الأعمال السينمائية الأجنبية التي شارك فيها الراحل وتألق فيها.

وعلى مستوى السينما المغربية، يمكن التأكيد على أن الطيب الصديقي تألق كممثل في الفيلم المغربي”الرجل الذي يُطرِّز الأسرار” عام 2000 للمخرج عمر الشرايبي، وهو الفيلم الذي كتبه مراد خير الدين، ولعب فيه الراحل إلى جوار كل من عمر سعيد وسامية مقاوي، ومحمد زهير، وهو فيلم رومانسي يحكي قصة رجل عاشق للشعر والكلمة الموحيّة، حيث يقضي معظم وقته في كتابة الشعر، وصدفة يجد مخطوطة شاعر غير معروف، ومن أجل رد الاعتبار للشاعر المجهول، يقرر مدير المؤسسة التعليمية البحث عن هذا الشاعر صاحب المخطوط ليعيد إليه كنزه.

نجم في السينما المغربية

كما لفت صديقي الأنظار في فيلم “صلاة الغائب” من إخراج حميد بناني وسيناريو محمد الخراط عام 1996، والذي يحكي قصة شخصية أصيبت بالحمق، جراء مشاكل وصراعات أسرية ونفسية، حيث يقرر المريض الرحيل بعيدا، كحلّ أخير من أجل الهروب والتخلص من المشاكل العائلية ومحاولة استرجاع الذاكرة من جديد والعودة إلى الحياة الطبيعية. وقد لعب الراحل الصديقي إلى جانب عدد من الممثلين البارزين، وهم عبد الكبير الركاكنة، وحميد باسكيط، وخديجة فرحي، والسعيدة أزكون التي تألقت بشكل كبير في آخر أفلامها، وهو بعنوان “الشعبية” للمخرج يوسف بريطل، وهو فيلم وثائقي يحكي قصة الفنانة التشكيلية المغربية العصامية الشعبية التي دخلت بلوحاتها إلى متحف اللوفر.

كما برع الراحل في كتابة سيناريو فيلم “عرس الدم” لمخرجه سهيل بن بركة الرئيس الأسبق للمركز السينمائي المغربي، وقام بلعب أدواره الفنانة المخضرمة نعيمة المشرقي، والراحل العربي الدغمي، فضلا عن إيرين باباس وروران تريزايف. هذا الفيلم يحكي قصة درامية ودامية في نفس الوقت، حيث البطل حمروشي بإحدى أرياف الصحراء بالجنوب المغربي، يعشق فتاة عشقا جنونيا ويرغب في الزواج  منها، لكن عائلته ترفض هذا الزواج، لأن العريس من عائلة فقيرة، وتدور الأيام ليلتقي حمروشي حبيبته المقبلة على الزواج، ويقررا الهرب يوم حفلة العرس، لكن العريس، حفاظا على كرامته كرجل، يطارد العشيقين الهاربين، يقتفي أثرهما ثم يعثر على العروس في نهاية المطاف، ليتحول العرس إلى عرس من الدم والانتقام.

وخلال مسيرته الفنية والسينمائية عمل الطيب الصديقي، والذي كان فنانا تشكيليا وخطاطا مهتما بالفسيفساء والهندسة الإسلامية وكاتبا بارعا، على إخراج فيلم “الزفت” سنة 1984، والفيلم في الأصل مسرحية كتبها الراحل عام 1966، والتي حولّها إلى فيلم، وهو عمل سينمائي طريف وممتع، يتحدث عن انتشار ظاهرة الأضرحة والأولياء في مختلف مناطق المملكة، حيث إن الكثير من المدن والضواحي والأرياف تسمى بأسماء الأولياء والأضرحة، كسيدي بنور، وسيدي إسماعيل، وسيدي قاسم، ومولاي يعقوب وسيد الطيبي، وسيدي إبراهيم بضواحي مدينة مراكش وغيرها.

أيقونة إبداعية وسينمائية

 

وقال الممثل والمخرج عبد الكبير الركاكنة الذي لعب إلى جوار الراحل في فيلم “صلاة الغائب” في شهادة خصّ بها الجزيرة الوثائقية عن الراحل، إن الطيب الصديقي، شكل أيقونة إبداعية وسينمائية استثنائية في المغرب والعالم والعربي، وذلك بالنظر إلى الأعمال المتميزة التي قدمها ونجح في أدائها بشكل كبير، ما يُبرز هذه الموهبة الفذة والكبيرة التي كان يتمتع به الراحل، مؤكدا أن الساحة السينمائية والمسرحية المغربية والعربية حزينة جدا ومتأثرة، برحيل هذا العلم الفني المغربي والعربي الكبير. ودعا الركاكنة بالمناسبة إلى تأسيس مؤسسة فنية سينمائية ومسرحية عربية تحمل اسم الراحل بأحد العواصم العربية، وذلك وفق رؤية فنية عربية مشتركة، تصون الذاكرة الثقافية والسينمائية والمسرحية العربية، وتكرم في العمق المؤسسِّين الأوائل ورواد الحقل السينمائي والمسرحي بشكل عام.

 

من جهته أكد الناقد عبد القادر مكيات في تصريح مماثل أن الراحل الطيب الصديقي ذا التكوين المسرحي والسينمائي الاحترافي الدولي، منذ الخمسينيات من القرن الماضي، كان يتمتع بإطلالة شخصية مميزة، ووجه فني وسينمائي ومسرحي، وكذا بهيئة جسمانية طبيعية ساعدته وأهلّته على أداء الأدوار التي يُناط بها، مبرزا أن الدور الذي قدمه الراحل في الشريط التاريخي “الرسالة” إلى جانب الممثل المغربي محمد حسن الجندي، وكبار الممثلين العرب، جعل منه ممثلا بارعا بلا منازع، وفتح له آفاقا واسعة في مجال التشخيص، وهو ما أهله ليقوم بأدوار طلائعية خلال الأفلام السينمائية المقبلة، التي لعب فيه دور البطولة إلى جانب عدد من الممثلين المغاربة الكبار أمثال نعيمة المشرقي والعربي الدغمي وغيرهما.

أما الناقد مصطفى ظريف مدير مهرجان مشرع بلقصيري السينمائي، فقد أشار إلى القيمة الفنية والإبداعية لهذا الفنان المثقف ذي الشخصية الكاريزمية، وبخاصة أنه كان فنانا متعدد المواهب، سواء في التمثيل أو الإخراج أو الرسم، أو في مجال كتابة السيناريو والتأليف، مشددا على أهمية تكريم الطيب الصديقي في مختلف المهرجانات المسرحية والسينمائية المغربية والعربية، تقديرا لعطاءات هذا الهرم الفني الكبير.

ولفت ظريف إلى أن الراحل شكّل نقلة نوعية في تطوير الممارسة المسرحية والسينمائية أداء وكتابة وتشخيصا، إلى جانب عدد من عباقرة الفن الدرامي في الوطن العربي، ورسخ لمدرسة حقيقية في التشخيص والأداء، مبرزا دوره المتفرد، من أجل تكريس ثقافة الصورة السينمائية الجميلة والمؤثرة، والتي تلهم مشاعر المتلقي، فضلا عن صيانة الذاكرة المجتمعية والتاريخية، وتجديد مقاييس المتعة البصرية للمسرح وللسينما المغربية والعربية على حد سواء.