المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي بزاكورة.. سينما إنسانية تشع من الصحراء

المصطفى الصوفي

سِرب الحمام الذي يبدو في هذا المشهد خلف القلعة المبنية من القشّ والطين يُحلّق عاليا، ويعرّج في تناغم ريشي باهر على مختلف زوايا المدينة بسرعة، ثم يتجه إلى الجهة الشرقية من المدينة التاريخية، وشيئا فشيئا يختفي ويضمحل كنقطة سوداء تتحرك ثم تتلاشى.

في الجهة الأخرى من القلعة التاريخية مزارعون يحملون معاول قديمة على أكتافهم وسلات من القصب، يعبرون الوادي غير عابئين بأشواك الطلح وسعف النخيل الذي تهاوى صريعا بين تلك الأشجار المباركة التي تعود إلى مئات السنين.

يبدو الأطفال الخارجون من حصة الدرس في منتصف النهار سعداء وأكثر تحررا، فهم يقفزون كالخراف، ويتراكلون ويقهقهون ويترامون ببقايا قشور الليمون والرمان، ويطارد بعضهم بعضا، ثم يتعانقون ويتحدثون ويتهامسون.

جانب من الموسيقى التراثية المحلية في الافتتاح

 

مهرجان وثائقي دولي.. تكريما لحضارة البدو الرحّل

مدينة زاكورة المحاذية لمدينة ورزازات هوليود السينما الأفريقية، والممتدة على طول وادي درعة الذي يصبّ في الصحراء؛ توحي بجلاء بنوع من الخصوصية في نمط العيش لدى السكان الصحراويين والرُحّل، وذلك من خلال أزيائهم وملامح وجوههم، وكذلك من خلال بساطتهم، وقسمات وجوههم التي تتحدى شَظَفَ العيش وقساوة الطقس وبُعد المسافات.

تلك بعض من أطياف أفلام وثائقية تتقاذفها أفكار العديد من المخرجين والسينمائيين الذين يزورون زاكورة، هذه المدينة الصحراوية المفعمة بسحر الطبيعة والعادات والتقاليد وعطر التاريخ، حيث الواحات والبدو الرُحّل وقطعان النوق والجمال، وكثبان رمال الصحراء التي تمتد حد البصر.

في هذا السياق، أقدَم شباب المدينة منذ ثماني سنوات على الرغبة في توثيق هذه الأحاسيس الفنية والجمالية، وترسيخ هذا المنجز السينمائي الشاعري الخلّاق، وذلك بتأسيس المهرجان الدولي للفيلم الوثائقي تكريما لهذه المدينة التي تشكل تحفة فنية وثقافية وتاريخية وحضارية وإنسانية، عبر علاماتها البارزة في القلاع والقصبات والزوايا الدينية والمتاحف الطبيعة، والديكورات السينمائية الآسرة والسياحة الصحراوية، وعراقتها وتقاليدها، وعيشها المشترك مع الآخر، وتكريسا لروح التسامح والسلام بين الشعوب.

 

أفلام المسابقة الرسمية.. ثراء وتنوع

وسط أجواء فنية احتفالية بالموروث الثقافي والفني المحلي، انطلقت في 28 نوفمبر/تشرين الثاني فعاليات الدورة الثامنة للمهرجان الدولي للفيلم الوثائقي، والذي أصبح منذ ثلاث سنوات يُسمى بـ”المهرجان الدولي العربي الأفريقي الوثائقي بزاكورة”، ليُختتم ليلة أمس الأحد الأول من ديسمبر/كانون الأول بتوزيع الجوائز على المشاركين في المسابقة الرسمية.

وشارك في هذه المسابقة 11 فيلما، وقد تفاوتت في تناولها ومعالجتها وطرحها للمواضيع بين البيئية والمجتمعية والسياسية والتربوية، كما تفاوتت أيضا في طريقة معالجتها فنيا، وهو ما منح لعروض أفلام المهرجان نوعا من الثراء الممتع.

ويتعلق الأمر بأفلام “الوطن” لأحمد البظ من فلسطين، و”كذبة حقيقية” لحسن الهادي داركي، و”فوبيا الفسخ” لطارق خندقاري وهما من السودان، و”رقصة المشتاق” لمنة النادي من مصر، و”وخزة” للمخرجة الإيرانية ليلى مجيدي.

كما تنافس على جوائز المسابقة فيلم “أفيو لايت” للمخرج العماني محمد علي راشد الدروشي، و”ليلة النار” لشنة خالد من الجزائر، و”عطيني فرصة” لإبراهيم مرعي سعد العجيلي من ليبيا، ثم “لبوءة الجبل” لإياد جبار من العراق، و”أشمخان” لعامر الشرقي، و”الأم مدرسة” لعبد الله إلحاق وهما من المغرب.

وضمت لجنة التحكيم كلا من الكاتب والسينمائي محمد السميطي من سوريا رئيسا، والفنان والسيناريست عزيز الحاكم، والإعلامي والكاتب مصطفى صوفي من المغرب، والناقد السينمائي وليد القنة من فلسطين، ومدير مركز الدراسات الإنجلوعراقية بلندن نديم العبد الله كأعضاء.

 

“ليلة النار”.. تتويج المقاومة الجزائرية

أجمعت لجنة التحكيم على منح الفيلم الجزائري “ليلة النار” للمخرج خالد شنة الجائزة الكبرى، وهي جائزة العمل المتكامل، وهو فيلم يحكي عن المقاومة الجزائرية أيام الاستعمار الفرنسي في مدينة بسكرة التي انطلقت منها شرارة الثورة، وفي مختلف المدن والمناطق الجزائرية أيضا من أجل إخراج المستعمر ونيل الاستقلال.

ونجح المخرج في تقديم مادة فيلمية علمية وفنية، وذلك برؤية إخراجية وثائقية قدّم فيها العديد من الشهادات الحيّة، مُستعينا بالعشرات من المستندات والمصادر التي توثق لتلك الأحداث التاريخية والسياسية، ووقائع قمع الثورة التي حصدت الملايين من الشهداء.

 

“أشمخان” و”إفيو لايت”.. احتفاء بالموسيقى والأرض

وقد رأت لجنة التحكيم أن الفيلم الوثائقي الدولي الذي استحضر البُعد الدولي العربي والأفريقي هو الفيلم المغربي “أشمخان” للمخرج عامر الشرقي، وذلك باشتغاله على موضوع فن “كناوة”، وهو فن موسيقي شعبي تراثي له جذور أفريقية، لتمنحه جائزتين هما جائزة أحسن سيناريو وجائزة النقد.

واستمد هذا الفيلم المُتوّج قيمته الجمالية من التراث الشعبي القديم كنسق احتفالي للبدو، والذي أصبح يُشكّل أحد الرموز الفنية العالمية، وذلك بتقديمه ضمن كرنفال دولي سنوي في مدينة الصويرة المغربية، ويحجّ إليه آلاف من العشاق.

وشكّل فيلم “إفيو لايت” للمخرج العماني محمد علي راشد الدروشي مادة سينمائية جميلة، تناول فيها المخرج موضوع الصخور البركانية وتاريخها الجيولوجي الذي يعود لملايين السنين، والذي أصبحت قِبلة للعلماء لدراسة تاريخ القشرة الأرضية.

وحاز هذا الفيلم على جائزين هما جائزة “أحسن تصوير” وجائزة “لجنة التحكيم”، أما جائزة الإخراج فعادت لفيلم “المأوى الأم” لمخرجه الفلسطيني أحمد البظ، فيما تم التنويه بكل من فيلمي “أعطيني فرصة” لمخرجه الليبي إبراهيم مرعي سعد العجيلي الذي يعالج موضوع التوحد، والفيلم التربوي “الأم مدرسة” لعبد الله إلحاق من المغرب.

تكريم دولة فلسطين ضيف شرف

 

فلسطين.. ضيف شرف

وتقديرا للقيم الفنية والموضوعات الراقية التي تحظى بها السينما الفلسطينية على المستوى الدولي، وما قدمته من أعمال سينمائية وثائقية تُوجت في الكثير من المهرجانات الوطنية والدولية، وذلك بمعالجتها الكثير من المواضيع أبرزها القضية الفلسطينية في صراعها المستميت مع الكيان الإسرائيلي؛ تم اختيار دولة فلسطين كضيف شرف.

شكّل هذا التكريم صورة حقيقية لتعزيز مزيد من أواصر المحبة بين الشعبين الشقيقين المغربي ونظيريه الفلسطيني، والتنويه بالتجربة السينمائية الفلسطينية في شقّها الوثائقي، لما أثمرته من أعمال رائعة منذ عقود.

وضم الوفد الفلسطيني كلّا من الناقد السينمائي وليد القنة وهو مدير مركز صخر حبش في رام الله للدراسات والتوثيق، والمنتجة السينمائية والناشطة غادة زملط، إضافة إلى السينمائيين موسى فرعون ومحمود نخلي وأكثم البرغوثي.

من أجواء توزيع الجوائز

 

السينما الفلسطينية.. كلاكيت تتحدى معاول التهويد

أكدت غادة زلمط في كلمة خلال حفل الافتتاح على أهمية هذه التظاهرة السينمائية الوثائقية التي تقوم بالتعريف أولا بالكثير من الأعمال السينمائية الدولية في الوطن العربي والقارة الأفريقية، وهي مناسبة لتقاسم الخبرات والتجارب، وجعل الفيلم الوثائقي صلة وصل بين الشعوب، والدفاع عن القضايا الإنسانية العادلة، ومنها القضية الفلسطينية.

كما اعتبرت السينما الفلسطينية والثقافة الفلسطينية واحدة من الأنساق الإبداعية التي لا تزال تناضل بالصوت والصورة والقلم دفاعا عن حقوقها المشروعة، وتصديّا لكل أشكال تهويد الأرض الفلسطينية والتهجير والتصفية التي تقترفها القوات المحتلة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل، داعية إلى مزيد من الصمود والتضحيات، وفضح الممارسات غير الإنسانية للعدو الغاشم.

واعترافا بالكفاءات والطاقات السينمائية والمجتمعية المغربية؛ كرّمت الدورة كلا من الناقد السينمائي أحمد فرتات، والممثل المغربي عز العرب الكغاط، والمناضل والصانع التقليدي باخليل الغراف (هو من رُحَّل منطقة زاكورة)، وعميد كلية اللغة العربية وآدابها في مراكش الدكتور أحمد قادم.

رئيس المهرجان الدولي العربي الأفريقي عزيز الناصري

 

القضية الفلسطينية.. السينما الوثائقية في خدمة الإنسانية

أكد رئيس المهرجان المخرج عزيز الناصري في تصريح خاص للجزيرة الوثائقية أن هذه التظاهرة تسعى إلى محاولة تقريب الجمهور من الفيلم الوثائقي في الوطن العربي والقارة السمراء، وذلك عبر تجارب متعددة تحكي قصصها وتوثق تجاربها من وجهات نظر مختلفة، مُبرزا أهمية التواصل السينمائي لتقوية الصناعة السينمائية والسمو بالفيلم الوثائقي.

وأضاف الناصري: إن تكريم السينما الفلسطينية في الافتتاح كضيف شرف هو صورة واضحة المعالم، وذلك للتأكيد على الدور الذي يلعبه هذا الإبداع الجميل رغم الحصار والإكراهات ضمن التجارب السينمائية الوثائقية العالمية، خاصة أنه ينقل الكثير من الأحداث والوقائع، ويقدم نموذجا لفن إنساني مقاوم ومناضل ومؤثر، سواء داخل الأراضي المحتلة أو خارجها.

كما شدّد على جودة الكثير من التجارب الفلسطينية إخراجا وإنتاجا وتمثيلا، فبالرغم من عيش أصحابها خارج الأراضي الفلسطينية، وبالرغم من جرح الشتات والبُعد عن الوطن؛ فإنهم ظلوا أوفياء للتاريخ والأرض والمستقبل والفن والسينما، كشكل إبداعي يوثّق ويؤرخ وينقل الواقع إلى العالم من أرض فلسطين وعاصمتها القدس الشريف.

وقال الناصري “إن تكريم السينما الفلسطينية في هذه الدورة من خلال وفد سينمائي متنوع، يتماشى مع شعار الدورة “السينما الوثائقية في خدمة القضايا الإنسانية”، على اعتبار أن السينما كفنّ وإبداع خدم في الكثير من المحطات والأعمال لمخرجين فلسطينيين وغيرهم في القضية الفلسطينية، التي نعتبرها قضية إنسانية وكونية عادلة”.

من ضيوف المهرجان

 

السينما في وجه الاستعمار.. البُعد العربي والأفريقي

وأضاف الناصري في السياق نفسه أن عرض أفلام الدورة، إضافة إلى الندوة التي تمحورت حول “السينما الوثائقية ودورها في دحض الاستعمار”، وتنوع الورشات، وضيوف المهرجان وحواراتهم، والمنتديات التلقائية التي تُقام على هامش الفعاليات؛ تصبّ هي الأخرى في إطار تكريس البُعد السينمائي الوثائقي في خدمة القضايا الإنسانية والكونية، وترسيخ قيم التعايش بين الثقافات والحضارات والشعوب.

كما لفت الناصري إلى أن هذه المهرجان يُعطي قيمة للبعد العربي والأفريقي، من خلال موضوعات الأفلام التي تعرض ضمن مسابقة المهرجان، وهو الأمر الذي مكّن من التعرف على الكثير من التجارب السينمائية، وتحقيق نوع من الخصوبة الفنية في العرض والفُرجة، عبر منصة الأفلام التي تصل إلى إدارة المهرجان، وكذلك عبر الأفلام التي تُعرض خلال الدورة.

ودعا الناصري خلال هذه الدورة (التي تُقام بدعم من المركز السينمائي المغربي وعمالة زاكورة والمجلس الإقليمي والمجلس الجهوي) إلى إيلاء هذا المهرجان المُتخصص في السينما الوثائقية المزيد من الاهتمام والدعم المادي، وذلك لتحقيق المزيد من الرهانات الثقافية والتنموية والإشعاعية.

زاكورة.. الصحراء الزاخرة بالكنوز

واعتبر الناصري شُحّ الدعم حجر عثرة أمام تحقيق ما تصبو إليه إدارة المهرجان، خاصة على مستوى برمجة الكثير من الفقرات التي تهتم بالأساس بإنتاج أفلام مشتركة دولية، على اعتبار أن منطقة زاكورة تحفل بالكثير من المؤهلات التاريخية والحضارية والطبيعية والسياحية بالصحراء، والتي تحتاج إلى كثير من البحث والتقصي والبحث.

واعتبر أن الصحراء فضاء خصب يجب استثماره سينمائيا لاستكشاف ما تزخر بها من مؤهلات طبيعية وقيم إنسانية وكونية ترتبط بنمط عيش الرُحّل، والكثير من الرموز الحضارية والمجتمعية كالواحات والتنوع الجغرافي، والزوايا والطرق الصوفية، وحضارة سُكّان جنوب الصحراء التي كانت تنطلق من زاكورة، المدينة التي ظلت معبرا للقوافل التجارية منذ مئات السنين.