“النسيان”… الأمل هو لعبة الفقراء الوحيدة

“والرعب محيط بي… اسمح لنفسي بهذه القصيدة الصامتة”
خوسيه وتانابي

بهذا المقطع المؤثر للشاعر البيروفي (وتانابي) ختمت المخرجة ( هيدي هونيجمان) فيلمها الوثائقي الطويل “النسيان”، الذي عُرض في اطار المهرجان الهولندي الخامس، بالتعاون مع الهيئة الملكية الأردنية للأفلام. إذ تعود المخرجه الهولندية البيروفية إلى بلدها الأم البيرو، للتعرف على ملامح وطنها الذي غادرته منذ أمد، ولكن أي رعب ذاك الذي وجدته محدقا في تلك الوجوه البيروفية المتعبة، وهي تترنح تحت وطأة الفقر، والجوع، والتشرد، والبطالة، القمع، الفساد، بطش الحكام الطغاة… لم يكن الفيلم قصيدة صامتة، إنما الصورة النابضة الداكنة، والصوت الدافئ المغموس بالألم لشخصيات الفيلم المسحوقة، جعل من الفيلم صرخة لا يسعها مدى.

كاهن الاعتراف
ألعاب الخفة التي أتقنها جيدا أطفال شوارع البيرو كانت تميمتهم، علّ الحياة تلين، فتتدفق وتنساب بخفة، تماما كحركة تلك الكرات بين أياديهم. لكن بما أن الحياة أصرت على أن تصم أذنيها عن احتياجاتهم، لم يبقَ لهم إلاّ هذه الاستعراضات البهلوانية، ليجمعوا من المارة وسائقي السيارات ما يسد رمقهم اليومي.
تجولت المخرجة مع كاميراتها بين أحياء البيرو الفقيرة، ورافقت بعض شخصياتها المتعبة إلى منازلهم المتهالكة، كذلك أماكن عمل بعضهم في الأحياء الثرية، لنلمس التابين الكبير بين هذين العالمين، كم كان بليغا ما قاله ذلك النادل العامل في أحد المطاعم الراقية، حين وصف حاله وهو يستمع بصمت إلى ما تداوله المسؤولون، ورجال الأعمال من ذوي السلطة والنفوذ، فشهد كيف استطاعوا أن ينقذوا أنفسهم من الأزمة الاقتصادية، ليغرق فيها هو والفقراء أمثاله من بعدهم، فيشبه حاله حينها بكاهن الاعتراف الذي عليه أن يبقى صامتا وهو يستمع لاعترافات الآثمين، فما كان من هذا الكاهن إلا أن خرج عن صمته في أحد الأيام التي زار فيها رئيس الجمهورية المطعم، فقاد انقلابه على الرئيس لكن بطريقته الخاصة، إذ وضع له الخمر المركز خلسة في كوب عصير البرتقال، بعدها استرد النادل حقه وهو يستمتع بمنظر الرئيس مترنحا وهو يقاوم السقوط.

النسيان أم الأمل؟

لم يكن هذا النادل الشخصية البروفية الوحيدة في الفيلم التي تقاوم السقوط وتحمي وجودها، ازاء نسيان الحكام -الطغاة والفاسدين- المطلق لاحتياجاتهم، فلجميع شخصيات الفيلم طرقهم الخاصة؛ هناك من يقاوم بالتشبث بالحب، كما فعل صاحب المطعم الشعبي وهو يجدد في الكنيسة عهود زواجه بعد خمسين عاما، وهناك من يقاوم بالتشبث بالأمل، كالطفل الذي يجوب الشوارع مغنيا “الأمل هو لعبتي الوحيدة” ليتردد صدى كلماته في الفضاء، وهناك من يقاوم النسيان بالتشبث بالذاكرة، كما هو حال المرأة التي تشتري عصير الذاكرة المستحضر من الضفادع، بعضهم يقاوم بالاعتصامات…، اذن تشكل أفعال شخصيات الفيلم المختلفة نسيجا مترابطا، يعكس صورة هذه الطبقة المسحوقة واصرارها على الحياة والأمل.

التعبير الهادئ عن الألم
صدق الشخصيات وتعبيرها الهادئ عن الألم هو أكثر ما يميز الفيلم، فتركت المخرجة الفرصة لشخصياتها أن تتحرك وتتكلم بحرية وعفوية، وعزز هذا الشعور استخدام الكاميرا المحمولة التي رافقت الشخصيات على مدار الفيلم، مع استثناءات محددة في أماكن كالمطاعم، حيث استخدامت الكاميرا الثابتة ولقطات متوسطة بعيدة، كما اعتمدت (هونيجمان) في أسلوبها على المقارنات بين عالمي الفقراء والأغنياء، من خلال الانتقالات بين المطعم الشعبي العريق، والمطعم الفاخر الذي يرتاده الروؤساء، ثم من هذا المطعم إلى منزل النادل المتواضع، كما وظفت المخرجة المفارقات الناتجة عن عرض مواد أرشيفية تظهر الوعود الوردية التي يقطعها رؤساء البيرو عند تسلمهم السلطة، والأمال المنثورة بمستقبل زاهر للمواطنين والشباب، من ثم الانتقال إلى الواقع المر حيث العمال الكادحين، والأطفال المشردين في الشوارع، التي تظهر كذب ادعاءات الرؤساء، لا بل نسيانهم التام لهؤلاء الناس واسقاطهم من حساباتهم، ولا يخلو الفيلم من لقطات رمزية ذات دلالة، كلقطة الحوت الذي يتحرك في حوض كبير في خلفية المطعم الفاخر، أو الانتقال من قَسَم أحد رؤساء البيرو إلى لقطة كبيرة ليد عامل تجلخ سكين.
في النهاية أرادت المخرجة أن يكون “النسيان” لسان حال شخصياتها المتعبة والمنسية، لذلك اعتمدت حديث تلك الشخصيات، كما أن الشريط الصوتي حمل الأغاني التي تعبر عنهم، سواء تلك التي يغنونها في الشوارع لكسب العيش أو تلك التي يضعونها في جهاز التشغيل، والتي تذكرهم بلحظات مؤلمة.