بارودة خشب :الحرب ذلك الميراث الشرير

 الدوحة- رامي عبد الرازق

ما الجديد الذي يمكن أن يطرحه فيلم لبناني يتحدث عن الحرب الأهلية؟ وما الذي يجعله يمكن أن يحوذ على جائزة من أي نوع ضمن منافسة شديدة مع افلام من جنسيات أخرى تطرح موضوعات اكثر طزاجة وقوة !
استطاع فيلم”بارودة خشب”للمخرج السوري الفوز تنجور ان ينتزع جائزة الحريات العامة وحقوق الإنسان -برعاية إدارة الحريات العامة وحقوق الإنسان بشبكة الجزيرة الإعلامية- عن فئة الأفلام الطويلة وذلك ضمن فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان الجزيرة الدولي للأفلام التسجيلية(18-21 ابريل) والجائزة في حد ذاتها لها مدلول فني وسياسي هام يجب التوقف أمامه.
تنافس الفيلم مع اكثر ثلاثة وعشرون فيلما اخرين على جوائز المهرجان في فئته-الفيلم الطويل- لكنه استطاع ان يحصد أحد الجوائز الهامة والتي يمكن أن يتصور البعض أنها تمنح للأفلام الدعائية او الريبورتاجات التنموية المعروفة.
إن”بارودة خشب”ليس مجرد فيلم اخر عن الحرب الأهلية اللبنانية او الهولوكوست اللبناني كما يحلو للبعض أن يطلق عليه, صحيح انه ينطلق من الحديث عن الحرب الأهلية عبر عدة أجيال منهم من عايش الحرب ومنهم من ولد في زمنها ويعيش آثارها الحالية, لكن الفيلم في تعاطيه مع مسألة الحرب يركز على فكرة الأثار النفسية-والشعرية أن جاز التوصيف- ليخرج من دائرة المحلية الضيقة التي طالما وصمت الكثير من أفلام الحرب إلى أفق اكثر رحابة يعالج من خلاله أثر الحرب أهلية كانت أو عالمية- على نفوس البشر خاصة سواء الذين شاركوا فيها بالمعنى القتالي العسكري أو الجيل الثاني الذي جاء بعدها.

ان الحرب ميراث شرير على كل المستويات والتعرض للتركة النفسية التي ترثها أجيال عايشت جانب من الحرب أو لم تعايشها يحتاج إلى حساسية فنية خاصة على المستوى الوثائقي نستطيع أن ندركها في مستويات كثيرة عبر”بارودة خشب”.
بداية يجب أن نتوقف امام المخرج الذي درس التصوير السينمائي في كلية الفنون الجميلة, نستطيع أن نلمح بسهولة تأثير جماليات كثيرة على طبيعة الشخصيات التي اختارها للحديث عن الحرب فهم رسام وشاعر وموسيقية شابة بالأَضافة إلى مراهق صغير.
أن اختيار شخصيات ذات بعد فني هو اختيار ذكي لأنه جزء من تأسيس حساسية الفيلم في التعامل مع موضوعه كما انه جزء من تأسيس جماليات بصرية يتم فيها توظيف اللوحات والعزف الموسيقى وتباين الضوء والظل في أحداث حكي موازي للحكي الذي تمارسه الشخصيات.
البارودة
يقوم المخرج بصياغة موتيفة زمنية خاصة بفيلمه عبارة عن عملية صناعة البارودة الخشب(البندقية)واثناء عملية الصناعة التي تستغرق تقريبا اغلب زمن الفيلم يكون ثمة مونتاج متوازي على الحكي أو الشهادات التي تنطلق من الشخصيات القليلة للفيلم.
بمناسبة الشهادات فأن الكثير من الأفلام الفائزة والمعروضة ضمن فعاليات الدورة الأخيرة للمهرجان كانت تتخذ من شكل الشهادات اطارا بصريا وموضوعيا لها, وكلا الفيلمين المصريين على سبيل المثال اللذان فازا بجوائز الجزيرة الوثائقية كانوا عبارة عن شهادات – الطويل منهم بالفعل اسمه”شهادات” للمخرجة الأمريكية من اصل مصري مي اسكندر ويحكي عن واقع صحفية مصرية شابة في مجتمع غير مستقر وخطير- والمتوسط “عيون الحرية شارع الموت” للأخوين سوني وهو شهادات عن احداث شارع محمد محمود الاولى والتي كانت احد اخطر الاحداث السياسية على الساحة المصرية منذ ثورة 25 يناير.
نعود إلى شهادات البارودة الخشب, حيث تمكن المخرج من توظيف فكرة البندقية كجزء من الميراث الوجداني الذي تبقى لدى الكثير ممن عايشوا الحرب في صغرهم او اشتركوا فيها, لدينا الشاعر الرسام الذي انخرط في صفوف المقاتلين واصبح قناصا ونشأت بينه وبين البندقية علاقة جدلية حول فكرة الموت والشعور السلطوي بالقدرة على نزع الحياة.
يقترب المخرج في تصويره للشخصية من الوجة والعيون- سلاح القناص الأساسي- بينما يترك الشاعر مستغرقا في تأملاته حول فكرة منح الحياة لشخص عابر امام منظار البندقية أو اخذها منه, يصور المخرج الشاعر الرسام في مرسمه وبجانبه البندقية وكأنها تجسيد مادي لما ترسب بداخله من ميراث شرير يحاول أن يتغلب عليه بالسمو على غريزة القتل التي ايقظتها الحرب عبر الفن رسما وشعرا.
وتتوازي تلك البارودة الحقيقة مع البارودة الخشبية التي يصنعها الفتى الصغير ليستخدم المخرج عملية صناعة البارودة كموتيفة زمنية ومادية في نفس الوقت, وكما ذكرنا تستغرق عملية الصناعة جزء كبير من زمن الفيلم, وكما توازى مونتاجيا شهادة الرسام القناص مع عملية صناعة البارودة تتقاطع العملية مع شهادة الموسيقية الشابة حول خيالها الطفولي الذي عاشيته اثناء فترة الحرب, فهي من مواليد 84 اي في ذروة المعارك, وقد تشكل وجدانها كطفلة عبر ألعاب الحرب, فكان القنص(إطلاق النار)هو لعبتها المفضلة, حيث تحكي عندما كانت تدور على افراد أسرتها وتصنع مسدسا من اصابعها ثم تطلق عليهم النار وتتعجب لماذا لم يموتوا!
ثمة اهتمام كبير بالنوافذ عبر الخطة البصرية للفيلم, النافذة هي المكان الذي كانت تطل منه الرؤوس الخائفة التي تحاول أن تتلمس الامن في الخارج اثناء فترات توقف القصف والذي تختبئ خلفه عيون القناصة التي تترصد العابر والمتسلل, يرسم المخرج بالنوافذ خلال الفيلم الكثير من الكادرات ذات الاطار التشكيلي سواء عبر توظيف شكل النافذة والخلفية –المدينة/بيروت- التي يطل عليها أو من خلال توظيف النور والظل وهو ما يبدو واضح في المشهد الأخير من الفيلم حيث يتحدث الفتى الصغير عن مستقبله في المدينة لكننا نجد المخرج يقدمه مثل شبح اسود يجلس في  سلويت- اضاءة مظلمة- بينما النور يغمر المدينة في الخارج, فالخطر الطائفي لا يزال يهدد هذا المجتمع مهما تحدث الجميع عن السلام.

لم يلجأ المخرج كثيرا للارشيف المصور عن الحرب كعادة الافلام التي تتمحور حول الحرب الاهلية وفي هذا نقطة ايجابية لصالحه فالأرشيف المتوافر عن الحرب الاهلية اللبنانية ليس هناك اكثر منه ولكن ثمة قصدية واضحة تخص استدعاء المشاهد ووصفها عبر ذاكرة ووصف الشخصيات وليس عبر ايجاد معادل بصري سهل ومتوافر لما ترويه, هنا نعود إلى فرضية الخروج من أفق المحلية الضيق فيما يخص الحرب, أن كل من عايش اي حرب في العالم يمكن أن يجد في الكثير من شهادات الشخصيات في الفيلم صورة قريبة من واقعه ومآساته, كذلك فإن فرضية الميراث الشرير التي طرحناها في البداية يمكن ان نطبقها على استرسال الشخصيات في الأسترجاع والحكي دون ان يقاطعنا ارشيف عام يهدم خصوصية الذاكرة التي تنقل لنا خبراتها الشعورية عبر الرسم بالكلمات.
وليس معنى هذا ان المخرج قاطع الأرشيف نهائيا ولكن اللقطات والصور الارشيفية جاءت اقرب للتعليقات منها للمعادل البصري أو كخلفية تاريخية ترسم صورة عن واقع الحكايات والمشاعر التي تبوح بها الشخصيات عن زمن الحرب ومخيلته, كما استخدم المخرج كتابات الجدران الزاعقة والمعترضة او الشعارات المكتوبة على حوائط المدينة والممسوحة او المشوهة التي التي تتناقض مع الواقع البصري كتعليقات ساخرة أو رافضة للواقع السياسي الحالي الذي لا يزال ميراث الحرب كامنا في تفاصيله.
ومع كل هذا الميراث الوجداني من المشاعر الرهيبة ومواجهة الموت يطرح المخرج سؤالا هاما يبدو كذروة حقيقية لدراما البوح والذاكرة وهو : لماذا لم تغادر شخصياته بيروت في زمن الحرب أو بعدها؟
يبدو هذا السؤال تطويرا دراميا جيدا لحكايات الحرب والموت, حيث يدعم فكرة ان الفيلم ليس حديثا للذكريات وسرد لحكايات الحرب والعاب الاطفال لكنه يشتبك بشكل راق مع الواقع الحالي الذي نلمح اشارات خفية وذكية لكونه لا يزال متقلقا وغير مطمئن وغامض, وتصبح اجابات الشخصيات على اختلاف مشاربها جزء من الحديث عن احد الأشياء الأيجابية في ميراث الحروب وهي الصلابة والقدرة على المواجهة والصمود فكل الشخصيات تتحدث عن مدى ارتباطها بالواقع رغم قسوته الحالية ودمويته الماضية, كل الشخصيات تعتبر أن بيروت”ست الدنيا”على حد التعبير الغنائي الشهير بداية من الفتى اليافع الذي يرفض المغادرة للدراسة في الخارج والاستقرار في المهجر مثل جيل كامل ومرورا بالشخصيات التي تكبره سنا وخبرة واحتكاكا بظروف الحرب والبلد.
لا يبدو السؤال هنا مرتبطا بالهوية كعادة اسئلة الوطن والهجرة ولكنه مرتبط بحركة الزمن والتاريخ وعلاقتهم بالبشر واستمراريتهم وهو ما يتبلور اكثر عبر الاجابات ليس لانها ترفض فكرة الهجرة ولكن لأنها ترى أن الخروج الأن سوف يفقد كل ما عاشوه قيمته وقوته الانسانية وطاقته الدافعة, صحيح أن الحرب تركت ميراثا شريرا جدا وصحيح انها من صنع الأنسان لا الرب لكن الانسان نفسه هو القادر على محو اثارها او الصمود امام شرورها التي لا تنتهي.
في المشهد الأخير الذي سبق واشرنا إليه يبدو المستقبل غامضا والرؤية مبهرة لكن تلك الأشارات التي تسبقه عن البقاء في الوطن ومحاولة اعادة البناء والتخلص من مخيلة البارودة الخشبية التي كانت انعاكس وجداني على طفولة الشخصيات وشبابهم, هذه الأشارات هي التي تمنح الفيلم بعض من الشحنات الأيجابية إلى جانب النظرة التشاؤمية الواضحة عن الواقع والمستقبل, مما يصنع حالة حياد فنية واضحة وتجاور فكري يترك للمتفرج حرية الحكم واتخاذ موقف من الماضي والحاضر على حد سواء.