“بوتين عاد”.. عاد القيصر!

قيس قاسم

عودة القيصرية بشكلها العصري إلى روسيا هدف لن يتخلى عنه فلاديمير بوتين، وكل القراءات في تاريخه السياسي والنفسي تشير إلى وجود ميل حاد عنده ليصبح قيصراً على روسيا، يحكمها بمفرده ويعيد لها قوتها. قد يكون هذا حلماً غير قابل للتحقيق في روسيا اليوم التي تغيرت كثيراً عن زمن القياصرة لكنه وفي كل الأحوال وبالنسبة الى رئيس انتخب لثلاث دورات يظل هدفاً يسعى إليه عبر تطبيقات سياسية حاول الوثائقي الفرنسي “بوتين عاد” ملاحقتها وتحليلها ارتباطاً بمسار الرجل والتطورات السياسية التي كان له الدور الكبير فيها والتي روضها كلها لتكون في صالح تحقيق مشروعه الشخصي في أن يصبح قيصراً على دولة لابد من تستعيد وحدتها المفقودة وإلا فسينهار الحلم كله كما انهارت القيصرية عام 1917 وبعدها الاتحاد السوفيتي الذي كان يتولى، قبل سقوطه بالكامل، رئاسة جهازها المخابراتي.

المخرج جان كارييه

يتساءل المخرج جان ـ ميشيل كارييه، وهو يلاحق في شهر آذار من عام 2012 ، الموكب الرسمي للرئيس المنتخب للتو في طريقه إلى الكرملين وقد خلت شوارع موسكو من المارة، وأحيط بحراسة أمنية مشددة: “ماذا يريد بوتين بعد فوزه بثلاث دورات رئاسية؛ أثرى فيها وتذوق حلاوة الحكم وسيَّرها وفق رغباته ومصالحه؟ هل يريد أن يصبح قيصراً بالفعل؟”. سيدفع السؤال صاحبه للعودة إلى التفاصيل خلال أكثر من ساعة ليحيط بعالم الرجل الذي اختاره ليكون موضوع وثائقيه والذي  كان يعرف مسبقاً، أن الإحاطة بعالمه ليست بالسهولة بحكم مهنته السابقة كرئيس لجهاز المخابرات السوفيتية (كي جي بي) وما تفرضه عليه من سرية في تحركاته وإعلان غير ما يضمر ويفعل غير ما يقول. مواصفات رجل كتوم يتمتع بشخصية كاريزمية جُبلت بطموحات رجل دولة جاء إلى السياسة بخبرة محصنة وبانعدام شبه مطلق للمشاعر أو الاهتمام بمصائر الآخرين وعذاباتهم يسجلها الوثائقي الفرنسي بإشباع بصري يدعو للدهشة لكثرة ما فيه من تفاصيل وأسرار يتساءل مشاهدها من أين  له كل هذا؟.
لمعرفة ما إذا كان بوتين يريد العودة قيصراً على روسيا، يعود كارييه بعد مشهد حركة الموكب الرسمي المعبرة الى الساعات الأخيرة من شهر مارس عام 2008 والتي توقع الكثيرون بأنه سيعلن فيها، ترشيحه للرئاسة عن حزب روسيا المتحدة، بعد أن يُغير بنود الدستور لتسمح له بترشيح نفسه لدورة ثالثة. لم يفعل ذلك وأسقط حجج معارضيه وتوقعاتهم. بدلاً من ذلك ترك لديمتري مدفييدف الترشح ولنفسه ضمن منصب رئاسة الوزراء ليحكم من خلف الرجل الذي وثق به كثيراً. لقد أراد بخطوته الابتعاد قليلأ عن الضغط الذي يتعرض له من المعارضة وأراد أن يلعب على خطوته هذه كثيراً فيما بعد. أهم ما كان يصبو إليه توريط صاحبه بمشاكل الحكم ليتدخل في الوقت المناسب ويحلها ليظهر أمام الناس ك”منقذ” لروسيا وأزماتها الكثيرة. الأدلة على هذا التخطيط توفرت بسهولة للفرنسي كارييه من خلال ما جمعه من تسجيلات تلفزيونية تعمد بوتين الظهور فيها بل طلب بنفسه من مواليه الصحافيين نقل كل خطوة له يظهر فيها كمنقذ وحَلال مشاكل عجز مدفيديف عن حلها أمام مشاهدي القنوات التلفزيونية التي يتحكم في الكثير منها! لقد ساهمت الأزمة الاقتصادية التي حلت بروسيا عام 2002 في تشويه سمعة رئيسها كمخطط اقتصادي باهر أنقذ اقتصاد روسيا وفتحه على العالم.

لقد هُربت أكثر من 100 مليار دولار من البلاد وتسببت في عجزها ولا أحد يعرف من قام بعمليات التحويل وكيف تمت؟ وفي ذات الوقت ومع اقتراب نهاية دورته بدأت العمليات العسكرية للمتطرفين في اقليم أبخازيا تتصاعد، فتصاعدت حدة المطالب بعودة رئيس قادر على كبحها. لقد سعى ميدفييدف لتغيير حقيقي لكنه عجز وقَبَل بأن يسلم دوره الى بوتين الذي ظهر هذة المرة كقائد سياسي وعسكري حاسم لا يتردد. وستظهر، لاحقاً، رغم كل الوفاق الظاهري بين الرجلين خلافات عاتية فجرتها الأزمة السورية والموقف الروسي منها! لقد حافظ بتكتيكاته خلال وجوده كرئيس وزراء على بقاء الهكيلية الهرمية ذاتها في الكرملين مع كل محاولات رئيس الدولة لتغيير جزء منها لكنه فشل، وعلى فشله سينطلق بوتين في مشروع انتخابه رئيساً لدورة ثالثة بعد أن اشتغل على توفير كل ما من شأنه توسيع نفوذه ليس كرئيس فحسب بل كقيصر بدأ يلمح لها في أكثر من مناسبة، والتقط الوثائق الكثير منها: اعتماده على الجيش وعلى سلطة المخابرات الجديدة (أف أس بي). تصفية معارضيه بقوة وكتم أصوات مثقفي المجتمع وإجبارهم على الخروج من البلاد مثال ذلك البطل العالمي السابق في لعبة الشطرنج كاسباروف وأعضاء فرقة “بوسي ريوت” وغيرهم،  الى جانب تعزيز النزعة المركزية في القرارات والاقتراب من القوى الاقتصادية المتنفذة في الغرب. وأخطر من هذا كله اشتغل على كسب الكنيسة إلى جواره، وأراد تشكيل معادلة  جديدة تقول: مَن يقف ضد بوتين يقف ضد الكنيسة، وراح يغذي الروح القومية عبر إصراره على تنظيم بطولة الألعاب الشتوية الأولمبية في سوتشي التي كلفت الدولة أكثر من 40 مليار دولار أمريكي، ثم اللعب على اسم روسيا فكل ما هو روسي جيد وما عداه فهو فاسد لهذا شدد قبضته ضد منظمات المجتمع المدني وعاملهم كخونة للوطن. أما على المستوى الاجتماعي فعمل على تحجيم الطبقة المتوسطة وغيَّر التركيبة العمالية التي كانت متمركزة في المدن الكبيرة سابقاً، إلى قوى أخرى جاءت من خارجها لا تطيق المثقفين وتولي أمرها لأصحاب المصانع الذين هم بيد بوتين لأنه امتلك معظم المعامل التي بقيت من الإرث السوفيتي عملياً. لقد قبل بالتحديث ولكنه لم يقبل بمتلازماته من تغيير ومطالب يفرضها كالحرية  الشخصية ودمقرطة المجتمع.

كل هذه التفاصيل يقدمها الوثائقي بأسلوب غني ومقنع وغاية في الرصانة فيغدو العمل بفضلها أقرب إلى التوثيق الصرف السينمائي منه إلى التحليل الصحافي ، بل ربما يصلح أن يكون مثالاً للتفريق بين الفيلم التسجيلي  وبين الريبورتاج الصحفي العادي، مع أنه يتطرف ويدخل مساحات ذات طبيعة آنية إخبارية كما هو الحال مع المسألة السورية التي تناول موقف الروس منها ولكنه تناولها من زاوية تُفهم المشاهد لماذا يصر الروس على موقفهم من رفض التغيير في سوريا ويدعمون الأسد؟ واحدة من النقاط التي يوردها “بوتين عاد” ربطه بين عودة روسيا الموحدة القديمة، كحلم بوتيني حتى لو جاءت على الهيئة التي كانت عليها في إبان قيام الاتحاد السوفيتي، لأن بوتين يريد تأسيس مملكة جديدة عنوانها: “آسياأوربية” يجمع فيها دولاً آسيوية وأوربية في اتحاد جديد له حلفاء أقوياء كايران وسوريا إلى جانب دول أوربية سوفيتية سابقة كأوكرانيا، وأن يظهر كساع لحلول سلمية وقادر على تحقيقها حين نجح في إقناع الحكومة السورية على القبول بالتخلص من مخزونها من الأسلحة الكيماوية. كل ذلك فعله بفضل ضمانة مالية هائلة يوفرها له الغاز الطبيعي والنفط الروسيان، فالقيصر يريد تحقيق حلمه بأي ثمن ويعرف مقدماً أن شعبه سيدفعه غالياً، وهذا ما حاول الوثائقي طيلة زمنه إبرازه بوضوح، حين لاحق كل خطوة في الطريق نحو عودة القيصر، وسجل ردود أفعال الناس حولها ومعارضة قطاع كبير منه لها وضَمَنها بمشاهد وتفاصيل تبيّن حجم المعارضة الشديدة له وحجم الخراب البيئي والبشري الذي يتعرض له الشعب الروسي وبلاده الغنية. المشكلة أن التاريخ يقف في جانب بوتين وقناعاته النظرية وحماسته القومية فأمته حكمت فعلاَ لقرون عديدة شعوباً وأخضعت ممالك وبلداناً وهزمت أكبر الجيوش في العالم والقادة. تجمدت جيوش نابليون فوق أراضيها وتلاشى حلم هتلر في قيادة العالم حين قرر عبور حدودها الشاسعة. في المقابل ثمة تغييرات كبيرة حدثت في روسيا اليوم ولن تسمح بتراجع البلاد عما قبلت به كتوجه جديد نحو بناء نظام ديمقراطي يسمح بتوفير الحريات الشخصية التي كانوا  محرومين منها لعقود لهذا يصبح سؤال الوثائقي نفسه مشروعاً: ترى الى متى سيقبل الروس بربط مصيرهم ومصير بلادهم بمشروع بوتين الشخصي وحلمه بالعودة قيصراً، وبين طموحاتهم في نقل بلادهم إلى عصر التحديث؟.