تركة النازية الثقيلة في “أطفال هتلر”

أمستردام – محمد موسى
لم يخلف الزعيم الالماني أدولف هتلر أبناءا، لكن رفاقه واكثر معاونيه إخلاصا وتفانيا وإجراما من الحزب النازي تركوا ذرية ستتعذب كثيرا بعد رحيل الاباء، بسبب الألقاب الشهيرة التي تحملها، والتي تحولت بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار النازية الى لعنة ستطاردهم حياتهم كلها، لتدفع بعضهم الى الهجرة الى الطرف الآخر من الارض، وآخريين الى تغيير اسمائهم، فيما كرست مجموعة منهم معظم حياتها للتذكير بالنازية ومخاطر الانزالق في الافكار والاهواء المتطرفة، والتي تأتي احيانا مغلفة بأخلص النوايا والشعارات.
ليس فيلم “أطفال هتلر” والذي يعود الى قصة “اولاد” النازية، الاول في تتبعه لرجال النازية وحياتهم الخاصة، فالقنوات التلفزيونية الالمانية لم تتوقف ابدا عن العودة لسنوات المانيا الاشد سوداوية في العصر الحديث والتي بدأت مع صعود النازية في منتصف عقد العشرينات من القرن الماضي. وقلبت هذه القنوات مرارا، وبشفافية يشاد بها حقا، صفحات الحرب العالمية الثانية المؤلمة، لكن الذي يميز هذا الفيلم التسجيلي الذي عرض في عدة مهرجانات سينمائية حول العالم في العام الماضي، بانه اسرائيلي الأنتاج، ويقف خلف اخراجه الاسرائيلي حانوخ زئيفي. جهة الانتاج تفسر أيضا بأن يتوجه الفيلم لملاحقة قصص ابناء زعماء نازيين اشتركوا بشكل شخصي ومباشر في المحارق اليهودية، والتي ذهب ضحيتها 6 ملايين يهودي. ليتم قياس حجم الافعال التي قام بها زعماء نازيين بقدر دورهم في تلك المحارق، ولتحمل الاخيرة، الثقل الاكبر من شعور الذنب الذي يحمله ابناء واحفاد رجال النازية، رغم ان هؤلاء كانوا اطفالا لا يتعدى عمر بعضهم الخامسة عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، فيما ولد الاحفاد بعد عقود من نهاية تلك الحرب.
يلتقي فريق الفيلم بمجموعة من أبناء وأحفاد قادة من الحزب النازي الالماني. اولئك القادة، قاموا بشكل منهجي بتعقب اليهود الاوربيين واشرفوا على تصفيتهم. احد اللقاءات تم في الولايات المتحدة الامريكية، حيث تعيش حفيدة لهيرمان غورينغ ( احد قادة النازية المعروفين والذي اعدم بعد الحرب العالمية الثانية)، والتي “طارت من الفرح” حسب وصفها، عندما تمكنت من استعمال الاسم الثاني لزوجها بعد زواجها. لا تمانع هذه السيدة من الحديث عن عائلتها الآن، فهي قد بلغت منتصف العمر، وتصالحت مع ذاتها ومع ماضي عائلتها الذي عذبها كثيرا. هي تستطيع الآن مثلا، ان تحضر لقاءات مع مهاجرين المان في مدينتها الامريكية الصغيرة، وبعد ان كانت ان تتحاشي لقائهم لسنوات، كما اصبح بامكانها الآن من الاستمتاع بالموسيقى الشعبية الالمانية، دون ان تهبط اشباح الماضي وصوره وكوابيسه. فيما يرافق الفيلم نيكلاس فرانك، ابن القائد هانز فرانك، وهو “يلف” على المدارس الالمانية ليقابل طلاب من اعمار مختلفة، لينقل تجربته الذاتيه والتي تتضمن كثير من المطبات الصعبة، خاصة مع عائلته المباشرة، بسبب مواقف بعضهم الغاضب من نشاطه العام الذي يبقي إسم العائلة في قلب الحياة العامة، وهم الذين تركوا المانيا، مبتعدين تماما عن الاضواء.

ليس كل أبناء زعماء النازية وجدوا السلام مع ذواتهم بالتبرؤ من افعال ابائهم واجدادهم، فالطريق لآخريين كان أكثر وعورة وضبابية، ليدفع بعضهم الى الجانب الآخر، فالإقرار بجرائم الاباء يتطلب شجاعة ومكاشفة غابت عن البعض، الامر الذي دفع ببعضهم، وكما يخبرنا ابناء او اخوة لهم من الفيلم التسجيلي، لنكران او التقليل من جريمة النازية مع اليهود، بل إن بعض هؤلاء الابناء خصص جزء من حياتهم للبحث عن أدلة تنكر المحارق او تتهمها بالمبالغة.
مع اللقاءات العديدة التي قدمها الفيلم من أمكنة عدة في العالم، هناك رحلة عبر التاريخ والجغرافيا سنتابعها ايضا ضمن العمل التسجيلي، فالمخرج يقنع حفيد القائد النازي رودولف هوس، بالسفر برفقة صحفي اسرائيلي فقد اغلب عائلته في معسكر أوشفيتز الشهير في بولندا. يوافق الشاب الالماني بكل النيات الطيبة على الرحلة الاولى له لمكان المحارق المعروف. يجلس حفيد الضحية مقابل حفيد القاتل في القطار الالماني. يتضائل الحوار المتقطع بين الرجلين مع اقتراب القطار الى وجهته، ليتوقف تماما قبل ساعة من وصول القطار الى محطة القطار البولندية، والتي شهدت وصول مئات الآلف من اليهود الى القاعدة العسكرية في سنوات الحرب. تفتح الموظفة المعنية الفيلا الخاصة لجد الشاب والتي تمت المحافظة عليها، كما يتوجه الرجلان الى القاعات العديدة الواسعة، والتي يضم بعضها ثياب واحذية تعود لضحايا المحارق، مكدسة كتلال صغيرة. الرحلة ستصل الى ذورتها العاطفية عندما يقابل الرجلين مجموعة من طلاب المدارس الاسرائليين كانوا في رحلة مدرسية الى ” أوشفيتز “. يوجه الطلاب اسلحة جارحة للشاب الالماني، الذي يجيب عنها بصدق واحيانا بدموع غزيرة. فهو يتفهم غضب المراهقين الاسرائليين ويعتبر تقبله، جزء من قدره وقدر عائلته والذي ستحمله لسنوات طويلة قادمة.
يشبه فيلم ” أطفال هتلر ” اعمال تسجيلية كثيرة انجزت عن الحرب العالمية الثانية، وخاصة تلك التي انتجت في المانيا، بمناخه الرزين ومكاشفاته الواثقة، والتي تعود حتما للشخصية الالمانية، الهادئة والبعيدة عن أظهار العواطف المبالغ فيها، هذه الشخصية واذا اختارت الحديث للكاميرا عن تاريخ شائك كالنازية والمحارق اليهودية، فانها تكون قد حسمت أمرها لكشف معظم الحقيقة، كانها تتطهر عبر ذلك من أثم الانتماء لدولة كادت ان تحرق العالم كله قبل سبعين عاما، رغم ان هذه الدولة نفسها مرت بعدها عبر تغييرات هائلة، لتتحول في السنوات الاخيرة الى الدولة التي تشد من أواصر اوربا وتعزز وتحافظ على وحدتها.