“جمالك لا قيمة له” للمخرج الكردي حسين تاباك

شريط روائي متقَن ينشد الواقعية السحرية ويخلو من الهفوات المونتاجية

عدنان حسين أحمد
احتفت الدورة الثامنة لمهرجان لندن للفيلم الكردي بعرض “23” فيلماً روائياً طويلاً من أقاليم كردستان الأربعة الموزعة بين العراق وإيران وتركيا وسوريا حيث تتوفر غالبية الأفلام الروائية على سوية فنية واضحة لا تُخطئها عين المشاهد التي تتوفر خبرة بصرية من بينها فيلم “بلادي الحلوة. . بلادي الحادة” لهونر سليم،  و “ژين” لرها إردم، و “فصل الكركدن” لبهمن قبادي، و “قبل سقوط الثلج” لهشام زمان، و “111 فتاة” لناهد قبادي و “جمالك لا قيمة له” لحسين تاباك الذي نحن بصدد دراسته وتقييمه من الناحية الفنية.
على الرغم من أن “جمالك لا قيمة له” هو فيلم مشروع التخرج لحسين تاباك ��ن أكاديمية الفيلم بفيينا إلاّ أنه يتوفر على مجمل اشتراطات العمل الفني الناجح الذي لا يمكن نسيانه بسهولة وذلك لعمق مضمونه الفكري، وجمالية خطابه البصري، ودقة معالجته للموضوعات الحسّاسة التي تضمنتها القصة السينمائية لهذا الفيلم الروائي المميز الذي يجمع بين ثيمات الهجرة، والاندماج، وتعلّم اللغة الألمانية، والإرهاب، والعنف الأسري، والسجن، والمخدرات، والترحيل وما إلى ذلك من موضوعات مقلقة تواجه المهاجر الأجنبي أو الهارب من وطنه لأسباب سياسية أو اقتصادية.

ثيمة إشكالية
اختار المخرج وكاتب السيناريو موضوعاً معقداً بعض الشيئ. لأن العائلة لم تكن منسجمة كلياً، فالأب حسين “نظمي كيريك” كردي الجنسية  وزوجته تركية “لالي يواش”، وأكثر من ذلك فقد انخرط هذا الأب في صفوف المتمردين الكرد الذي يقاتلون الحكومة المركزية بهدف نيل حقوقهم القومية والثقافية بما فيها الاستقلال الأمر الذي دفعه إلى ترك العائلة والصعود إلى الجبال حيث يشتد أوار المقاومة والقتال. لا تبدو زوجته متعصبة لطرف دون آخر وكأنها تقف على الحياد غير أن ابنها الأكبر “مظلوم” متطرف جداً، ولا يجد حرجاً في أن يصف أبيه بـ “الإرهابي”، بل أنه يتفاخر بالعلَم التركي الذي نقشه على موضع القلب. أما الأخ الأصغر الذي تتمحور حوله القصة السينمائية فهو فيصل “عبد القادر تونجه” الذي يلعب دور الشخصية الرئيسة في الفيلم، والمحرِّك لأحداثها على مدى “85” دقيقة على الرغم من أنه ظل مراقباً لتطور الأحداث في الثلث الأول من الفيلم قبل أن يتحول إلى عنصر فاعل فيها، وصانع لها في الوقت ذاته.
أقلق تمرد “مظلوم” الأسرة كلها وزرع فيها بذرة الشك في أبيه الذي وصفه غير مرة بالإرهابي، والجاهل والجبلي الذي لا يعرف شيئاً عن الحياة فكيف له أن يعلّم أبناءه الذين تربوا في المجتمع النمساوي المتحضر، الأمر الذي دفعه لمغاردة المنزل والعيش مع شلّة من أصدقاء السوء الذي يتعاطون المخدرات فلا غرابة أن نجده نزيلاً في أحد السجون.

قصة رومانسية
يقف في الطرف الآخر من العائلة الابن الأصغر فيصل الذي يتعلّق بصبية في مثل سنّه تُدعى آنا “مليكة بوجيك” التي تألقت في تأدية دورها العاطفي الجميل لكنها هي الأخرى مهاجرة قدِمت مع عائلتها من يوغسلافيا. وعلى الرغم من هدوء الأجواء المنزلية في أسرتها إلا أن العائلة مهددة هي الأخرى بالطرد أو الترحيل إذا ما ارتكب أحد أفرادها عملاً مخالفاً للقانون. والفرق الوحيد بينها وبين فيصل أنها تتقن الألمانية بينما يتعثر فيصل في حفظ قصيدة شعرية كي يقرأها أمام التلاميذ. يشعر فيصل بالضعف والانكسار لأنه لم يتعلم الألمانية خلال ستة أشهر وحينما يستفزه أحد أقرانه الأتراك ينقض عليه ويوسعه ضرباً، كما أنه يضرب المعلمة من دون قصد ويدمي أنفها الأمر الذي يدفع بإدارة المدرسة إلى استدعاء وليّ أمره وإحاطته علماً بالاجراءات التي ستتخذها المدرسة في حال فشله في إحراز أي تقدّم ملموس في مستواه الدراسي. لم يفهم الأب مضمون الرسالة التي سلّمتها إياه إدارة المدرسة فيأخذها إلى عدد من معارفه الذين يتذرعون بأنها أشبه بخربشة الوصْفات التي يكتبها الأطباء. وعلى الرغم من كسل جارهم التركي جيم “أورهان يلدريم” إلاّ أنه يُفهِم الأب حسين بأنه ولده لم يحقق تقدماً ملحوظاً في دراسته، وإذا بقي على هذه الحال فيتوجب عليه أن يأخذه إلى مدرسة خصوصية.
يبدي جيم بعض التعاطف مع الصبي فيصل الذي لقّبه بالعاشق تيمناً باسم الشاعر التركي المعروف بالعاشق فيصل ويترجم له القصيدة التي تحمل عنوان “جمالك لا قيمة له” حيث يبدأ فيصل حفظ القصيدة بشكل جدي خصوصاً بعد أن تعرّض لتقريع شديد من قبل والده الذي يخشى الترحيل إذا ما ارتكب أبناءه مخالفات قانونية كما هو الحال مع “مظلوم” الذي أودع السجن بسبب تعاطيه بالمخدرات مع عصابة محلية. وحينما تنتهي حكاية مظلوم بالسجن يطلب مواجهة أخيه الأصغر فقط مما يثير حفيظة والده الذي جاء بهدف مقابلته بضغط وتشجيع متواصلين من زوجته، لكن هذا الأخير يفقد أعصابه ويغادر السجن مدمدماً ومتذمراً.

عصابة مخدرات
وما إن تنطوي صفحة “مظلوم” في السجن حتى يستذكر حياته الماضية التي لا تخلو من بعض الذكريات الجميلة التي تتعلق برائحة الغابة التي كانت تعبق في غرف المنزل حيث كان يشمّها كل صباح حينما يستقيظ من النوم. وها هو الابن على سر أبيه فكلاهما دخل السجن، الأب بسبب تمرده على السلطات التركية، والابن بسبب انحرافه وسقوطه ضحية لعصابة محلية تتعاطى المخدرات. وبما أن الأسرة برمتها لا تزال في الجانب الآمن فإن فيصل بدأ يتعلّم اللغة الألمانية، ويحفظ القصيدة التي ترجمها له جاره جيم. وحينما سمع الأب ابنه الصغير فيصل وهو يروي القصيدة باللغة الألمانية اهتزت مشاعره الإنسانية وذرف دموع الفرح ثم احتضن ولده الصغير الذي قطع عهداً على نفسه بأن يبذل قصارى جهده في تعلم اللغة الألمانية وألا يضع أسرته في موقف محرج مستقبلاً.
أما على الصعيد العاطفي فتتطور قصة الحب بين فيصل وآنا حيث يصعدان إلى الحافلة ويسلّمها القصيدة المترجمة فتطلب منه أن يقرأها في الصف لأنها موجهة إليها. ثم تأخذهم العواطف بعيداً عن البيت حيث يتناولان البيتزا ويتأخران في العودة إلى البيت، وما أن يعود فيصل حتى تأخذه أمه في الأحضان وتطلب من أبيه أن يتحدث إليه كما يفعل الآباء مع أبنائهم.

تتطور العلاقة بين فيصل والجار جيم الذي يبدو فظاً في مظهره الخارجي لكن دخيلته تنطوي على شخص طيب وقد رأيناه في مشهد انفعالي شديد العصبية حينما غادرته صديقته لاعنة إياه على تلك العلاقة التي تربطهما معاً. فيبوح جيم بأسراره لفيصل، كما يعترف فيصل بعلاقته العاطفية مع الصبية اليوغسلافية آنا التي لمس أصابعها، وأحاط كفها بكفه، واحتضنها غير مرة، لكن المفاجآت في هذا الفيلم كثيرة إذ يرى جيم الشرطة وهم يدهمون منزل “آنا” ويزجونهم في السيارة بغية ترحيلهم فيرتبك فيصل حيث يصعد مسرعاً إلى غرفته ويلتقط القصيدة من بين كتبه التي نثرها على أرضية الغرفة ويركض مسرعاً باتجاه السيارة فنراه في مشهدين جميلين جداً، الأول أنها تنزل من السيارة وتحتضنه وتمشي معه مسافة قصيرة في منتصف الشارع وكأنه أنقذها من المحنة التي هي فيها، والثاني نراه يعود وحيداً مخذولاً صوب المنزل بعد أن خسر صديقته التي تمثل ذروة أحلامه العاطفية.

أداء ساحر
نخلص إلى القول بأن “جمالك لا قيمة له” هو فيلم أفكار وشخصيات في آنٍ معاً. إذ طرح المخرج وكاتب السيناريو حسين تاباك العديد من الموضوعات الإشكالية وعالجها بحرفية عالية وبرؤية إخراجية يحسده عليها الكثيرون من أقرانه السينمائيين. كما أن أداء الشخصيات كان لافتاً للأنظار بدءاً من الصبيين الكارزميين عبد القادر ومليكة، مروراً بالأخ الأكبر يوشا دوراك والجار أورهان يلديرم وانتهاءً بالأبوين نظمي كيريك ولالي يواش. ويبدو أن انتقاء المخرج كان دقيقاً جداً ليس في اختيار الشخصيات حسب، وإنما في مدير التصوير لوكاش غنايغر الذي أضفى لمساته الفنية في غالبية لقطات ومشاهده الدقيقة المعبِّرة. كما أبدع المونتير كريستوف ليودل في مَنتَجة الفيلم بطريقة فنية عالية تعكس خبرته العميقة في هذا المضمار بحيث شاهدنا فيلماً يخلو من الهفوات المونتاجية. أما موسيقى جوديث فارغا فقد كانت متساوقة مع النسيج العام للأحداث وقد لعبت دوراً كبيراً في تجسيد لحظات التصعيد أو الاسترخاء التي مرّت بها شخصيات الفيلم جميعاً التي نجحت في خاتمة المطاف بالقيام بمهماتها على أكمل وجه أدائي ساحر مطعّم بواقعية سحرية كان ينشدها مخرج الفيلم الذي يعِد بأفلام قادمة لا تقل أهمية عن هذا الفيلم الناجح بكل المقاييس الفنية.