حصار غزة: أفلام تسجيلية تسافر من دون مخرجيها

لم تعد غزة صورة ً  تحت رهن الاعتقال أو الإقامة الجبرية، رغم الحدود المطوقة على هواجس الموت و الوجود و الحلم.
فالحصار الذي أصّل الصورة الفلسطينية في الرأي العام الدولي، هو ذاته الذي غيرّ جغرافيا الواقع، في القطاع، خاصة وأن الحياة أصبحت مرهونة بفتح المعبر وإغلاقه..
لكن الفاصل ما بين خارج الحدود وداخلها، مسافة من وقتٍ مشّرع، لكل احتمالات الانتهاء والتأجيل، فالصورة الغزية تلتصق هي أيضا بإغلاقات الحصار واختناقاته، لتكون الحاضرة الغائبة .
لكن كثافة حضور الفيلم تسجيلي من غزة، في مهرجان عربي أو دولي ، لا يعني أبدا وجود المخرج للاحتفاء بتكريم عمله !

نجاحات مبتورة :

العديد من الأفلام الوثائقية الفلسطينية من غزة، حصلت علي جوائز دولية جديرة بالتقدير، ولكن عدم استطاعة مخرجيها من السفر للمشاركة الفعلية في المهرجانات، و الاحتكاك المباشر بالسينما العربية و الأوربية ، جعل ذلك النجاح مبتور الأفق والتطور، رغم ما حققه من انجازات علي صعيد الصورة و تخطي مشكلات التقنية العالية التي نادرا ما تتوافر، ضمن سياق القصور الذي يعانيه الفيلم الفلسطيني من إشكاليات أخري مؤرقة، خاصة وانه يفتقد للتنظير، نتيجة عدم وجود أكاديمية دراسية متخصصة يمكن لها أن تؤرخ السينما الفلسطينية.

يُعلق الدكتور الحبيب الناصري، مدير مهرجان خريبكة الدولي للفيلم الوثائقي، قائلا : ” لا يزال الفيلم التسجيلي الفلسطيني ” جنيني” البنية، رغم انه يناظر اعتراف المؤسسات البصرية العربية له ، فالصورة في الفيلم التسجيلي أداة ألحكي والقول، والتركيز لا يكون علي ماذا تقول الصورة، و إنما كيف تقول الصورة ” ، مؤكدا علي أن الصورة الفلسطينية اكتسبت الصبغة الإنسانية القوية ، والتي تمكن المخرجين من توظيفها، خاصة و أنها توثيق لواقع حقيقي ومباشر، له جمهوره الحقيقي أيضا، وهو ما يختزل السؤال عن مدي مطابقة الصورة بالأصل المروي عنه .

د. حبيب الناصري

في سياق متصل، يصنف الدكتور الناصري الحديث عن طبيعة الفيلم الوثائقي الفلسطيني إلي قسمين، الأول الذي يحاكي القضية الفلسطينية بشكل مباشر وغير معالج ، والثاني الذي يحتك بالحياة اليومية ويواجه مسألة الاحتلال بلغة غير مباشرة، هذا التنوع الذي ساعده علي التألق أوربياً وعربياً..
لكنه يبقي أداة من أدوات الكشف عن ” الوحش ” المحتل ، ليس علي سبيل الإدانة وإنما علي سبيل الدفاع عن حقوق الحياة و المواجهة، وهو ما يعود بنا إلي تعريف الفيلم الوثائقي ووظيفته، والتعامل معه بناء علي كونه جنس تعبيري ، لا يقل شأنه عن الفيلم السينمائي أو الروائي..

الغائب الحاضر !

وقد أشار الناصري إلى أن المخرج الغزي : فايق جرادة،  صاحب فكرة الامتياز في أن تكون فلسطين ضيفة شرف الدورة الأولي لمهرجان خريبكة، لم يتمكن من الحضور للمشاركة في المهرجان _نظرا لظروف المعبر السيئة _، عن فيلمه ” جدل”، والذي حاز على شهادة المهرجان التقديرية، كذلك كلا من المنتج المهندس : عاطف عيسي ، مدير وكالة ميديا جروب للإنتاج ، والكاتب رجب أبو سرية ، اللذين دعيا أيضا لحضور المهرجان، ولم يتمكنا من السفر .
يصف الدكتور الناصري ذلك قائلا : ” عدم وجود المخرج مع فيلمه يشبه اليتم، فالفيلم هو ابن المخرج ، والمخرج هو الأب الشرعي الوحيد المعبر عن ظروف ولادته ” ، يتابع : ” المنع من السفر هو احد أساليب قمع حرية التعبير عن الرأي، قبل أن يكون هاجس ثقافي ” .
وعن دور الإعلام وطريقه تناوله للفيلم التسجيلي الفلسطيني، يري الناصري أن بعض القنوات الإعلامية تتعامل بأسلوب رسمي للتضامن معه ، أي أنها تهتم به تبعاً لمرور مناسبة فلسطينية معينة ، أو بما تفترضه الأحداث، وهو ما يجده غير كاف لان يصبح الفيلم الفلسطيني أداة ومساحة للتعبير عن القضية بالصورة و أبعادها، وليس بالقول فقط .
المهندس عاطف عيسي يؤكد علي أن دعوة مهرجان خريبكة ليست الأولي من نوعها، فهو يحتفظ بالعديد من الدعوات لحضور افتتاح عدة أفلام من إنتاجه في الخارج، لكنها للأسف تبقي مؤجلة، وتصبح _ فيما بعد _ تذكارات جميلة و باهتة لنجاحات لم يتمكن من مشاهدتها،  وهو ما يدعو للاستياء في أحيان كثيرة، لكن وصول الأعمال لعالم الخارجي، يواسيه عن غيابه القصري ، منوهاً إلي أن صعوبة السفر لم تتلازم مع الحصار، وإنما تزامنت مع انتفاضة الأقصى عام 2000، حيث أغلق مطار غزة الدولي، إضافة للمعابر .

التجربة أم الاختراع !

السفر و الحضور بحد ذاته لا يمثل غاية لدي المخرجين الغزيين، لكنه وسيلة للإثراء الفكري و الحراك الثقافي، وتبادل الخبرات أيضا، كذلك إثبات وجود الصورة الفلسطينية بكامل رونقها في محافل الفنون البصرية ، لذلك فان ” الحصار” السينمائي أثر علي المخرج الفلسطيني وانعزاله نسبياً في حصار ” فكري ” ، وحالة نفسية متعبة .. لم تمنعه من المواصلة ، فلا خيارات أخري إلا المحاولة مرارا .

فايق جرادة  

المخرج فايق جرادة، يعتقد أن التكنولوجيا قد ساعدت علي انتشار الفيلم التسجيلي الفلسطيني وبلورته ، وهو ما عزز من أهميته التفسيرية، خاصة وان مفهوم الفيلم الوثائقي العالمي تطور إلي أشكال حداثية، تعتبر أرقي أنواع العمل الفني المعاصر إبداعاً ، كما أن وصول الأفلام المنتجَة في غزة  للمصاف العربي و الدولي ، يعزي عدم الحضور الشخصي ، فوضوح الصورة و الفكرة والرسالة ، هي مهمة المخرج وأحد أهم  أولوياته .
والجدير بالذكر أن السينما الفلسطينية قامت علي العمل ألتوثيقي و التسجيلي منذ بدايتها ، فالجهد الفلسطيني السينمائي لا يمكنه تجاوز هذه البوتقة ، رغم بروز عدة أفلام روائية … تصب_ هي أيضا_ في سياق الواقع و القضية .
أما  غياب المخرجين الغزيين نتيجة الحصار ” السينمائي ” عليهم، فلم يكن اعتذارا عن حضورهم ، بل كان تأكيدا لتواجدهم، بعدما باتوا هم أيضا قصص لأفلام يمكن إخراجها، حتى يكاد الفيلم يشبه صاحبه .