حين توقف الزمن عند رأفت الهجان

 
أسماء الغول
 
كان تتر مسلسل رأفت الهجان الصوت الوحيد الذي يصدح في ليل مخيم اللاجئين جنوب قطاع غزة، حين لا يكون هناك مواجهات مع الاحتلال، وكانت الانتفاضة الأولى لا تزال في بدايتها، ولم يكن شيئا يزيح انتباه عائلة جدي الكبيرة عن التلفاز الصغير سوى خبطات قبضات الجنود على باب المنزل الحديدي.
 
في تلك الأيام بذلت والدتي مجهوداً معي وهي تشرح لي من يكون رأفت الهجان، ومن هو محمود عبد العزيز، وكانت وقتها شهرة عبد العزيز بالضبط كما هي يوم مماته لم تقل يوماً، وليس من الممكن أن تكون أكثر مما هي عليه، لكن هذا لم يسهل علي شرح والدتي؛ فأسأل من جديد “يعني الممثل هو الجاسوس على إسرائيل؟”، فترد والدتي “لا، بل رأفت الهجان”، فأعود وأسألها “لكنك قلتي محمود عبد العزيز هو رأفت الهجان؟”، وكان المسلسل واقعيا إلى هذا الحد..بالطبع كانت تنهي الحديث بنظرة غاضبة وعبارة “اسكتي خلص”. لم أكن قادرة أبدا على الفصل بين محمود والهجان، بين التمثيل والحقيقة، كيف أفعل وأنا أسمع بسطار الجندي الإسرائيلي خلف نافذة غرفتنا؟..
 
وكان دائماً تتر مسلسله يشي بساعة فُرجة لا أكثر بالنسبة للأطفال وانشغال الكبار بشيء جِدي ليس عندنا القدرة على استيعابه، وكنا نحن أطفال العائلة المهمشّون بسبب الهجان نراقب الشقق الفخمة في المسلسل، والجميلات، ونحزن إن كانت إحداهن إسرائيلية فكأن الإعجاب بجمالهن ذنب، وبالطبع بمقاييس اليوم يُعتبر هذا الجمال موضة قديمة. رأفت الهجان وموسيقاه وربطة عنقه الغريبة، محفزات تستدعي في عقلي أيام الانتفاضة ومنع التجول الذي كان يفرضه الاحتلال على المخيم. وكانت الأفلام والمسلسلات المصرية تبني ذاكرة المخيم السينمائية خلال عزلته، ولم يكن شائعاً وقتها إتقان العبرية ومتابعة القنوات الإسرائيلية، على الأقل في عائلتي.
 
رأفت الهجان
 
كما أتذكر أن التلفزيون المصري سرعان ما عرض بعد الهجان، مسلسل ” Knots Landing” كأنه يمحي قوميته العربية بعصر ليبرالي جديد، وكان والدي يترجم لنا بعض حوارات المسلسل الأمريكي، لتكون بداية وقوعي بحب الدراما الأجنبية، واستبدل لاحقاً ذاكرة سينمائية مصرية بالسينما الأجنبية، ولكن أبدا لم يستطع شيء إزاحة سطوة مسلسل رأفت الهجان وحالة الصمت التي تصيبني بمجرد سماع موسيقى المسلسل التي ألّفها عمار الشريعي، فكأن الزمن يتوقف عن الجريان ليشدّني إلى الخلف، وهكذا الأمر مع جيل كامل.
 
نادرا بعدها ما نجح محمود عبد العزيز في تقديم شخصية بالقوة ذاتها على مستوى الأعمال التلفزيونية، فالزمن لم يتوقف فقط بذاكرة المتلقي، بل في مسيرة عبد العزيز التلفزيونية أيضا. ولا يمكن إنكار أن وجود محمود عبد العزيز في أي مسلسل يمثل حالة إبداعية فريدة، فالجميع يبدون كومبارس إلى جانبه، لينتظر المُشاهد الدقائق التي يظهر بها، لمتابعة أدائه الطبيعي، فهو يحوِّل أي شخصية يقدمها إلى شخصية محبوبة تشبهنا وتستحق الاهتمام وذلك في كل مسلسلاته ابتداء من مسلسل شجرة اللبلاب 1976، وانتهاء برأس الغول 2016، ومرورا بمحمود المصري وجبل الحلال.
 
إلا أن المشكلة الحقيقة كانت في الأجواء المحيطة بهذه الشخصية والتي تجعل مسلسلاته بعد رأفت الهجان تنجح بحد معين؛ فالحوارات ضعيفة ومطاطة، والقصة مبالغ فيها، والأداء ضعيف للإخراج والمونتاج والممثلين. ولم يكن عبد العزيز قادرا على رفع مسلسلاً وحده، على الرغم من أن المُشاهد كان على الدوام مستعداً لمتابعة مسلسلاته من أجله فقط، متسامحاً مع ما حوله من ركاكة فجة.
 
الكيت كات
 
وكيف لا يتسامح معه، وقد أعطاه محمود عبد العزيز أجمل شخصيتين في ذاكرته؛ رأفت الهجان، والشيخ حسني في فيلم ” الكيت كات”. فقد تحول الفيلم الأخير إلى أحد أيقونات السينما المصرية. وأذكر أنه الفيلم العربي الوحيد الذي اشتريناه كشريط فيديو في غربتنا بدولة الإمارت مع بداية التسعينات حين غادرنا المخيم، وسط مكتبة الأفلام الأجنبية، فقد أخرج داوود عبد السيد فيلماً بسيطا لكنه مبكيا ومضحكا ومغضبا، صالحا لكل زمان ومكان.
 
لقد كان عبد العزيز بحاجة دوماً إلى المخرج والورق المناسبين لإمكانياته، إلا أن ذلك نادرا ما صادفه في حياته، ومع ذلك فيلما واحد ومسلسلا خلدّا اسمه، فملحمة تلفزيونية كرأفت الهجان تجربة لم يكررها التلفزيون المصري وأعطت كل ممثل وممثلة في المسلسل مكانة مميزة في قلب الجمهور لعقود طويلة.
لقد لامس الهجان قلوب الناس المسحوقة في المخيم وقدم نموذج البطل البرجوازي الوسيم ولكنه أيضا الوطني الذي سيقضي على إسرائيل، ليأتي في الكيت كات بشخصية الفقير الكفيف، الذي يدخن الحشيش ويعزف العود، ويعيش يومه ولا يفكر بمستقبله، فلسفة المسحوق حين يتجاهل قدره، ويغضبه شيء وحيد “ما بحبش إليّ بيستعميني”.
 
ولا شك في أن مسلسل “الهجان” وفيلم “الكيت كات” مثلّا لمحمود عبد العزيز كابوسا لأنه بقي محكوما بالنجاح الذي حقّقاه، كما بقيت شخصية الهجان الجاسوس الأكثر إقناعا في تاريخ الشاشة المصرية، فطوال 30 عاما بعدها، تم تقديم العميل بطريقة ساذجة وغير مقنعة. لقد كان محمود عبد العزيز محظوظا أنه عايش فترة ذهبية من تاريخ التلفزيون والسينما  المصرية، فقد سقط بعد ذلك كل شيء وقد قاوم طويلا كي لا يسقط هو الآخر..ونجح.