“داليدا” المغنية التي أسرت القلوب

"داليدا" على خشبة مسرح الأولمبيا في باريس 18 مارس 1981

ندى الأزهري- باريس

حين كانت تُجري اختبارا للأصوات الجديدة لإحدى الاذاعات الفرنسية منتصف الخمسينيات، تبادل المُحكِّمون نظرات الإعجاب بشجن صوتها ولكنته الإيطالية وسحر جمالها. داليدا، أيقونة الغناء في فرنسا لثلاثة عقود، تعود في الذكرى الثلاثين لرحيلها في فيلم يروي سيرة حياتها منذ طفولتها في مصر وحتى موتها في فرنسا.

ثمة أفلام تكتفي بموضوعها لجذب الجماهير، يتغاضى محبوها بعض الشيء عن هفوات عديدة فيها، عن ضعف السيناريو مثلا، “داليدا” فيلم الفرنسية ليزا أزويلوس واحد منها. لعله كذلك بسبب مشاعر حنين يثيرها في نفوسهم وذكريات شباب ارتبط بعض منها بهذه المغنية الجميلة التي أسرتهم يوما بأغانيها الرومانسية.

19 نوفمبر 1959، داليدا عمرها 26 سنة

“داليدا” فيلم أحبه الجمهور ولم يمل إليه النقاد بنفس القدر…

حين يقرر المرء الذهاب لمشاهدة فيلم سيرة ذاتية، فإنه بالإضافة إلى أي مشاعر إعجاب قد تربطه بالشخصية موضوع الفيلم، فهذا ربما لإشباع فضول ما، للتعرف على ما خفي من حياة، بل ما غمض من إنسان ذاع صيته وألهب مشاعر كثيرين. لكن فيلم داليدا لايكشف الكثير، يبقى عائما على السطح وعابرا قرب الأحداث وقرب الشخصية ذاتها، مكتفيا بأهم ما ميّزها: أغانيها. يمكن أن نضيف أيضا علاقاتها الغرامية المتعددة! بيد أن الاستعانة بالغناء في فيلم يسرد حياة مغنية أمر لابد منه، وهو وُظّف هنا على نحو ممتع مع مأخذ وحيد تمثل في مبالغة الفيلم أحيانا في الاتكاء عليه على حساب التوغل في الشخصية وشرح دوافعها في بعض المواقف فبدا التناقض على أشده بين الحزن الدفين في أعماق داليدا والذي لم يقدم له تفسير وبين رغبتها بالحياة وعشقها للتمتع بها.

من مصر إلى باريس

داليدا اسم الشهرة للولاندا التي ولدت في مصر عام 1933 لأسرة إيطالية فقيرة. والدها كان موسيقيا سجنه البريطانيون بعد أن اتهموه بالتعامل مع الفاشيين الإيطاليين أيام الحرب العالمية الثانية. الفيلم يعود في عدة مشاهد فلاش باك لطفولة “داليدا” هذه وتعلقها الشديد بوالدها وموسيقاه قبل أن تنقلب شخصيته تماما ويصبح إنسانا عنيفا بسبب السجن. مشاهد كتلك أتاحت للمخرجة تبريرا سهلا للشجن الدفين الذي طبع المغنية واستقر في أعماقها على الرغم من حياة الشهرة والنجاح فيما بعد، كما أنه وسيلة مريحة لكنها غير كافية، لشرح هذا الفقد العاطفي الذي عاشته داليدا والذي باتت تبحث عن شغله فيما بعد في علاقات حب بل شغف عابر والأهم مفاجئ.

داليدا اسم الشهرة للولاندا مصرية الولادة فرنسية الجنسية

حين تنجح الشابة الواصلة حديثا لباريس باختبار الغناء أمام لوسيان مدير إذاعة “أوربا1 ” الفرنسية، يبدأ هذا بدعمها وبالوقوع في غرامها، ويقدمها على مسرح الأولمبيا الباريسي الذي لا يتاح لأي كان.  داليدا تغرم به وتلح عليه بالزواج. يبديها السيناريو هنا كامرأة تفضل الحياة كأي زوجة” عادية” لها حياتها المنتظمة مع زوج تحبه وطفل تنتظره على النجاح في مهنتها. شهر فقط بعد الزواج الذي طالبت به، وفجأة وبدون أية مبررات درامية في الفيلم (في الحياة أيضا؟) تبدأ علاقة أخرى! يمرّ الفيلم على خمس علاقات لداليدا انتحر ثلاثة من أبطالها اثنان منهم بعد هجرها لهما، كما يكشف عن قرارها بالإجهاض بعد حمل من شاب يصغرها. هنا أيضا عرضت المخرجة الحدث دون أن تحيطه بتفسير مقنع. قد تكون هذه إحدى خصائص الشخصية أي التصرف في أمورها على نحو مفاجئ ويثير الاستغراب، لكن على الفيلم تقديم قراءته لهذه الشخصية ومحاولة بحث دوافع أي سلوك اختار أن يتناوله. هكذا بقيت الحياة الخاصة لداليدا سرا وبقي هذا التنقل الدائم بين العشاق لغزا، تهجرهم ولايهجرونها متيمون بها، وليس كما يمكن للبعض أن يتوقع أنهم يحاولون الاستفادة من شهرتها وثروتها وحياتها المرفهة.

وعلى الرغم من أن الفيلم يسعى لرسم لوحة حميمية لداليدا ويحاول الاقتراب من هذه الشخصية المعقدة التركيب والتي يصعب تفهم دوافعها، فإنه يكتفي بتصوير عقد داليدا النفسية بالإشارة لها بالقول دون أن يظهر تطورا في الشخصية يقود إلى فهم أو تفهّم هذا التغيير أو ذاك في حياتها. وحين تتكئ المخرجة كما فعلت في أغلب الأحيان على أغنيات داليدا لشرح مجريات حياتها فإن هذا يجعل المتلقي يشعر بحزن البطلة دون أن يعينه على تفهم دواخلها ومبرراتها. وإذا اعتبرنا أن الغوص في أعماق الفنان ليس مهما لجمهوره فإن ذلك مهم في فيلم يُصنع عنه. هكذا بقيت نظرة السيناريو خارجية، ما أثر على تلقي المشاهد وتعاطفه في الكثير من المواقف. كما لم يفلح الإخراج في بعض المشاهد بجعل المتلقي يتفاعل مع أحداث مأساوية. وكان مشهد انتحار “لويجي” عشيق داليدا الإيطالي أحدها إذ فشل، لطوله ولسلبية الشخصيات التي كانت مجتمعة، في نقل آلام بطلته وهي تصيح وتحضن جسد حبيبها الدامي بعد أن أطلق الرصاص على نفسه.

داليدا و"لويجي" عشيقها الإيطالي، سنة 1967، عندما التقاها كان مغنيا لا يزال في بداية طريقه وقد دعمته داليدا ليصبح نجمًا لكن الفشل طرق بابه بعد مشاركته بـ مهرجان سان ريمو سنة 1967 فانتحر بمسدسه في أحد الفنادق..

اعتمدت المخرجة أسلوب الفلاش باك لسرد حياة داليدا، وكانت تتنقل بين الماضي والحاضر بطريقة تقطع السرد التقليدي وتتجاهل التسلسل الزمني ما أعطى حيوية للفيلم وأنقذه في بعض الأحيان من برودة وتكرار. وبالنظر لكثافة الأحداث اختارت ليزا أوزيلوس التغاضي عن الفترة المصرية التي اقتصرت على طفولة المغنية مع أسرتها ثم مشاركتها في فيلم يوسف شاهين ” اليوم السادس”، وكذلك فترة وصولها لباريس ومحاولاتها للتواجد إذ بدأتها بنجاح داليدا في الاختبار.

أما مصدر قوة الفيلم ونجاحه فكانت، بالإضافة للأغاني الأكثر شعبية في حياة المطربة والتي كان الفيلم يسير على إيقاعها، الممثلة سفيفا الفيتي الإيطالية. فقد أبدعت في تجسيد شخصية داليدا بعد أن خضعت لماكياج نجح بالتقريب بين ملامحها وملامح المغنية، ما جعل شخصيتها تذوب تماما أمام داليدا ولينسى المشاهد أن من أمامه هو ممثلة وليس داليدا ذاتها. كذلك كانت شخصية موريس الحبيب الأول لداليدا والذي مات منتحرا هو الآخر من أفضل الشخصيات التي رسمها الفيلم، أما شخصية أورلاندو شقيقها ومدير أعمالها فلم تكن على درجة كافية من العمق.

مخرجة الفيلم "ليزا أوزيلوس" والممثلة الإيطالية "سفيفا الفيتي" أثناء تصوير فيلم "داليدا"

داليدا كانت إحدى أكثر المغنيات شعبية في فرنسا في السبعينيات والثمانينيات، عرفت كيف تطور فنها ليتلاءم مع المستجدات الموسيقية ولم تتوان، وهي المغنية الرومانسية، عن استخدام الديسكو وإحياء حفلات استعراضية راقصة جلبت لها الشهرة في كل أنحاء العالم، لكن كل ذلك لم ينجح في القضاء على شجن متأصل في أعماقها وفي جعل الحياة محتملة.

” اعذروني لم تعد الحياة محتملة” كتبت قبل انتحارها.